29 فبراير 2012

بسكاليا (1-3): الإغواء الأخير لداوود عبد السيد


إلى خالد أحمد يوسف .. الكاتب بموقع "في الجول"

يَجْلِسُ أمام المياةِ المُنبسطة ، في تِلك البُقعة الهادئة التي عَرِفها منذُ الصغر ، والتي تفصله ، تماماً ، عن صَخَبِ إمبابة من وراءِه ، ورغم سنوات عمره التي تجاوزت الأربعين ، فقد ظلَّ يَحْتفظ برسغٍ ثابِت ، ونفسٌ ازدادت صَبراً مع مرور الزَّمن ، يُلقي بِصنَّارته في الماء ساعة العصاري ، ويَظَلُ جالساً هُناك حتى غروب الشّمس .

ذلك هُو ما اعتاده يوسف في السنواتِ العَشْر الأخيرة ، وبدلاً من أن يعود بالسَّمَكِ إلى البيت ، ويَفْشَل في أكله بسبب حجمه الصغير ، فقد صار يَمْسِك كُل سمَكة يصطادها ، ويَضَعها في باطِنِ كَفه لنصفِ دقيقة ، يَستشعر حَرَكتها ، نَبْضها ، مَكْمَن الرَّوحِ فيها ، ثُم يُلقيها في النّيل مِن جديد .

هذا النِّهار ، لن يذهب يوسف إلى النهر ، لن يَمْنح بضع سَمَكات صغيرات الحياة من جديد ، سَيَجْلِس في منزله ، يُشَغّل التلفزيون ، يُقَلّب بين قنوات مُمِلّة ، وحين يَصِل إلى واحدة منهم ، تَعرض فيلم "الكِيت كات" في مشاهده الأخيرة ، سيُدَنْدِن مع الأغنية ، ثُم يَبتَسم ، قبل أن يَتَجَهَّم وَجهه ، حُزناً ، وهو يقول "الله يرْحَمَك يا إبراهيم" .

بعد ساعة ، على الناحيةِ الأخرى من النَّهر ، حَيْثُ يَسْكُن في الزمالك ، كان داوود عبد السيّد قد قال نَفس الجُملة ، وهو يَتَجَهَّز للذهابِ إلى عَزَاء "إبراهيم أصلان" ، في المنطقةِ التي عاشَ بها أغلب حياته ، ومَنَحَته هو ما يعتبره الجميع أعظم أفلامه .



إمبابة لا تعرف إبراهيم أصلان:

تَحَرّك من منزله بخُطٍ بطيئة ، تَلِيقُ بكهلٍ حَكِيم قارب السَّبعين ، ورغم ذلك فقد قَرر أن يَذْهَب إلى شارع السُّوق ، حيث يُقام العَزَاء ، مَشْياً ، وأن يتجاوز النَّهْر الواصل بين ضفتين ، وعالمين ، مُختلفين ، على قدميه .

تَذكر المرَّة الأولى التي أخذه فيها أصلان إلى هُناك ، لم يَكُن المُدهش هو معرفته بكل الحواري والمَمَرَّات والشوارع المُتداخلة ، والتي تجعل المنطقة أشبة بالمتاهة ، ولكن المُدهش فعلاً هو ما بدا بمعرفته بكُلّ الساكنين فيها ، وامتلاكه ولو حِكاية ، عن كُلّ واحد منهم .

تذكَّر داوود أيضاً ، نصيحة أصدقاء أصلان الدائمة له ، بأن "يَقِب" على وش الدنيا ، ويَترك الكيت كات وحواريها ، كي يَنتقل إلى الناحية الأخرى من النهر ، حيث الزمالك أو وَسط البلد ، كان يستمع لهم في هدوء ، ثُمّ يَحكي حكاية ، عن البيتِ الذي يَسْكُن فيه: حيثُ في البدءِ كانت الأرض خربة وخاوية ، ثُم جاءَ من أحضر المُؤَن ، الخشب والطوب والجير ، لِيَبني الكِيت كات ، وكان جداً أكبر ، يأخُذ منها كُل يوم ، ليبني جُزءً من البيت ، وهكذا: كانت الكيت كات تَكبر ، وكان البيت يَكبر معها ، ثم يبتسم أصلان ويقول: الآن البيت هو الذي يَكبر ، وأنا أريد أن أكبر معه .

لذلك ، فقد تصوَّر داوود ، أن الناس ، هُناك ، في إمبابة والكيت كات والورَّاق ، في ميت عُقبة وأرض اللوا وبولاق ، على المقاهي والأرصفة والأكشاك الصغيرة ، في البيوت والحواري والشوارع المُتفرّعة ، في المَكتبات والوِرَش والملاعب الترابيَّة ، تَصَوَّرهم ، وقد راح كُل منهم يشد على يد الآخر ، مُعَزّياً ، في رحيلِ الرَّجل الذي ، لفرطِ المَقامِ ، على الأقل ، صار على صِلة قُربى بكل واحد منهم ، والذي ، في الآخر ، عرَّف العالم بأنقى ما فيهم ، وأفضل ما فيهم ، وجعلهم جُزءً من ضمير الدنيا .

تصوَّر ، سُبحان الله ، أنه سيجد طابوراً طويلاً ، أمام مكتب هيئة البريد في الكيت كات ، يقف أمامه العشرات ، وربّما المئات ، يَحْمِلُون خطابات مُرسلة ، ومُعَنْوَنة إلى السماء ، لـ "الأستاذ ربنا العزيز الكريم" ، تَرجوه الرَّحمة بعَبده الغلبان ، ساكِن إمبابة ، الذي تَرَك خِلوته للتَوّ ، وصَعَد .

ولَكِن شيئاً من هذا لَم يَحْدُث ، كانت الحياة ، بعد أن تجاوز الكوبري ، إلى جانب النهر الآخر ، تَسِير في صَخَبٍ عادي ، يَافِطات الإنتخابات تَمْلأ الطُّرُق ، عَرَبة نِصف نقل ، تَحمل مذياعاً عَالِي الصّوت ، يَشْكُر الجالِس بجانب قائدها ، أهالي إمبابة الكرام ، الذين صَوَّتوا لحزبِ النُّور ، وحِينَ سأل داوود ، لَمْ يَكُن أحد يَعرف شيئاً عن أصلان ، بَدَت كُل الشوارع خاوية ، حينَ اكْتشف ، مُندهشاً ، أن النّاس الذين ظَلّ يَكْتِب عنهم ، ويعرفهم ، طوال أربعة عقود ، أو يزيد ، قد مَات بينهم دُونَ أن يعرفوه .

شَعَرَ بثُقلٍ في خِطواته ، حاول التّخفيف عن نفسه ، بأنه يَعْلم ، ولا رَيْب ، منذ سنوات ، أن ما من أحدٍ في إمبابة يعرف إبراهيم أصلان ، تذكَّر كلمات شريف المرجوشي ، وابتسم حينَ فكَّر في أن أي من أبطال أصلان ، لم يُصَلّ ولو رَكْعة واحدة في كتابته ، لَم يَصم ولو يوماً في كُل الأشهر الفَضِيلة ، كان يعرف بالتأكيد ، وإن بَقَت الجُملة تَرِن في أذنه بَصدى مُزعج: ما من أحد في إمبابة يعرف إبراهيم أصلان ، هل من أحدٍ سَيَعرفه فيها حين يَمُوت ؟

سارقو الفرح

في الرُّبع ساعة التي تَلَت دخول داوود إلى صِوانِ العَزَاء ، وجُلوسه في رُكنٍ مُنْزَوِي ، كان يُفَكَّر في احتمالية إخراج فيلم آخر قبل أن يُفارق الحياة ، لقد صار في السابعةِ والسّتين من عمره ، ثمانية أفلام في رُبعِ قَرن ، والأمر صار أصعب من ذي قَبل .

لماذا لم يُخرج المزيد من الأفلام خلال السنواتِ الفائتة ؟ ، كان قد قرر التَوَقّف عن لومِ نفسه منذ فترة طويلة ، في البدءِ كان يُبرر: ظروف الإنتاج ، مشاكل المُمثلين ، طبيعته المُتَمَهّلة ، وطبيعة أعماله التي تحتاج هذا التمهُّل ، كافة الصعوبات التي واجهها مِراراً ، ولكنه ، منذ عامين ربما ، لم يَعُد يَجْلِد ذاته ، صَار يُفكر دائماً أن مَبَقاش في العُمر ما يستاهل التُّوبة ، ولا في النَّفسِ ما يَقوي على تَحَمُّل النَّدَم ، وأنه سَيَنْجز فيلماً حينما تُتاح له الفُرصة لذلك ، ولَكِن الآن .. يُلِحّ الأمر كهاجِس كابوسي ، هل سَيُتاح له ذلك ؟

تَستمر الأفكار في التّدفق ، كخيوطِ عَنْكَبُوت تَلْتَف حوله ، عَمّا يُمكن أن يتغيَّر بعد الثورة ، يَتَذَكَّر نزوله إلى الشارع في الثمانية عشر يوماً الأولى ، يتذكَّر أنه فضَّل أن يشعر بالفرحِ الحاصل أكثر من أن يُصوره ، ورَوَّض نفسه بكونِ "الجميع يُصَوَّرون ، أما أنا فأرغب في أن أكون جُزءً من الحِراك" ، الآمال العَظيمة ، نَشْوة الشعور ، المُستقبل الذي كان يُفَكَّر فيه بشغف ، كَكَهلٌ عَجُوز نَعَم ، ولكن لا يَخشى الحُلم ، "سأُقدّم ثمانية أفلام أخرى خلال العشر سنوات المُقبلة" .

ثُمّ ، ماذا تبقى بعد عام ؟ ، الضَّباب ، تِلكَ هي طبيعة الثورات ، ولَكِن ألم تَكُن ثَورتنا مُختلفة ؟ ، هُوَ ليسَ مُحبطاً ، ولكنه نَزَل إلى أرضِ الواقع ، بعد أن حَرَّرت الثورة الجميع إلى فَضاءِ الأحلام ، يتذكر ما قاله ، بصوتٍ حَكِيم ، أثناء جلوسه مع بعض الشباب على قهوة الحميدية في وسط البلد قبل ثلاث أيام: "نحنُ وسط تفاعل ، وبالتالي لا توجد نتائج نهائية ، هُناك حركة مُستمرة ، هُناك جديد يحصل كل يوم ، هناك أمور مُختلفة تتبلور ، أو أنها لازالت في مرحلة البلورة ، ولكن .. أخشى أن نصل إلى الصورة المعروفة عن الثوراتِ ، التي يُقال أنها تنتهي بحاكمٍ ديكتاتوري ، أو بحربٍ أهلية ، أو بتحالف إسلامي عَسكري كما يبدو في الأفق ، وهذا ما أخاف أن يحصل ، هذا أمر مُخيف"

يَسْتَاءُ داوود ، كيفَ أجبروه ، وأجبروا الجميع ، أن يتركوا أحلامهم وينزلوا إلى واقع قذر على هذا النحو ؟ ، إنُّهم يحاولون سَرِقة الخيال .. كما سَرقوا كُل شيء آخر

تُخرجه اليَد الممدودة لمُصافحته من كُل تِلك الأفكار ، كان يُوسف ، "يُوسف النجّار" كما عرّف نفسه ، ورَحَّبَ به وكأنَّهُ يعرفه مُنذ زَمَن ، ودَعاه لأن يَجلس بينهم ، هُم ، أهالي إمبابة ، شِلّة أصلان القديمة ، وقَدَّمُه لَهُم ، "الأستاذ داوود عبد السيّد ، اللي عَمَل فيلم الكيت كات" .

في النّصفِ ساعة التّالية ، حَاول داوود أن يَلْعب لعبة إيجاد التشابهات ، أو الاختلافات ، بين هؤلاء الجالسين أمامه ، وبين صُور أخرى مِنهم قد ظَهرت في فيلمه ، وأن يَتَتَبَّع التغيُّرات التي جَرت بهم بعد كُل هذا الوقت ، وكان من شأنِ تواجده أن جْعَلهم يَنْسَوْن العَزاء ، ويَبدؤون في تَتَبع أخبار بَعضهم التي تَعُود لسنوات ، ويَحْكَوْن ، عن المَعلم صُبحي ، والمعلم عطيّة ، والعَم عُمران ، والأمير عوض الله ، والأسطى قدري الإنجليزي ، والجَمِيع .

ضَحِكوا ، ثم أتبعوا بأن "سُبحان الله" ، حين جاءت سيرة الهرم بائِع الحَشيش ، ورَووا أن زوجته ، الشابة الجميلة ، حَدث أن وضعت رأسها على كتفه ذات ليلة ، ارتاحت قليلاً ، ثُم ماتت ، فأصابه هَلَع عَظيم ، ولم يَترك بيته لشهور ، ثُم أطلق لحيته ، وأمسك بعصا كبيرة ، وصار يُغادر البيت قبل صلاة الفجر ، يَجُوب حواري إمبابة دون أن يفوته بيتاً ، يَدُق الأرض بعصاه ، ويَقول "الصلاة خيرٌ من النوم" ، وحينَ سَكتوا ، أكمل يوسف النجار الجُزء الأهم من الحكاية: ما أن تبدأ الصلاة ، حتى يعود الهرم إلى بيته ، لا يُصَلّي ، ولا يَدْخل الجامع أبداً .

تَخَيّل داوود الفنان نجاح المُوجي ، الله يرحمه ، وهُو يجوب الحواري بعمامةٍ كُبري ، يَدعو الناس للصلاة ، واعتقد أنه كان ليُصبح مشهداً مُؤثراً ، نَظر إلى وجوه مَن حَوله ، وسَأَلَ عن الشّيخ حُسني ، فأطرقوا النّظر طويلاً إلى بعضهم البعض .

الشيخ حُسني الذي كان أعمى ثُم أبصر

يَقُولون أن الشيخ حُسني ، صَارَ يُسَمّى الشيخ حُسني ، بدلاً من اسمه الحقيقي الذي رفض أصلان ذكره ، ولم يَعُد يتذكره أحد مع مرور الوقت ، يَقُولون أن الأحوال تدهورت به كثيراً ، وأن البيت ، الذي بناه أبوه وتمنّى هو أن يموت فيه ، قَد بيع ، وأنه قد انتقل للعَيْشِ في بولاق أبو العلا ، تاركاً الحشيش الذي لَم يَعُد قادراً على شِراءِه ، يَقُولون أن ليالٍ طويلة كانت تَمُرّ به وحيداً ، بعيداً عن الشِلّة التي رافقته طوال عُمره ، وأن الجيران كانوا يَسْمُعون صوته مُتحدثاً في أنصاصِ اللّيالِ ، ويضربون ، عَجَباً ، كَفَّاً بِكَفّ ، لأن ما من أحدٍ مَعَه

ويَقُولُون ، بجمُلٍ مُتَقَطَّعة ، تنتهي دائماً بِهَمْمَةِ أحد المُستمعين ، أن "لا حول ولا قُوّة إلا بالله" ، أن الشِّيخ حُسني عَجّز ، ومَرَضَ مرضاً شديداً ، وابنه ، بعد أن صارَ رَجُلاً ، حَمَله ، كَمَا حَمَل هو يوماً العَمّ مِجاهد ، كَي يأخذه إلى المُستشفى ، نَام الشيخ على كَنبة التَّاكسِي الورَّانِيّة ، ولم يَتَمنَّ سوى أن يَمُر في طريقه بشارع السوق الطَّوِيل ، الذي عاشَ به عُمره كُله ، وأن يَنْظر مرّة أخيرة إلى مَكانِ البيت ، وحين وَصَل إلى أول الشّارع ، خَرَج بنصف جَسَده من التّاكسي ، كَي يَلْمَحه أحد الأصدقاء القُدَامى ، حتّى أطلّ عليه عادل الشرباتي ، وصاح لَه "إيه يا مولانا" ، فأطْبَق الشَّيخ على يَدَه ، وقال: "يا عادل ، أنا عيَّان ورايح المُستشفى ، ابقى قول للناس بقى" ، والشّيخ حُسني مات ، قبل أن يَلْحَق به أيّ من الناس .

والحقيقة ، أن داوود قد شعر بحُزنٍ شديد ، درجة أن عينيه قد اغرورقت بالدّمُوع ، وظَنّ النّاظر إليه من الحاضرين أنَّه يَبْكِي أصلان ، ولكنه في الحقيقة كان يبكي ، لشدّة القُربِ ، صديقاً قديماً ، لَمْ يره



في تِلكَ الليلة ، حَلِمَ داوود ، خيرُ اللَّهُمّ اجعله خيراً ، أنه قد حَلّ في جَسَدِ الشِّيخ حُسْنِي ، وقابل إبراهيم أصلان ، الذي تَفَل في الأرضِ ، وصَنَع مِن التّفلِ طيناً ، وطَلَى بالطّين عَيْنَي الأعمى ، ثُمّ قال له "اذهب واغتسل" ، فمَضى الشّيخ ، واغتسل ، ثُمّ عاد بَصِيراً ، ولمَّا طَلَبَ مِنه غُرباء ، أن يَشهد على أصلان آثماً ، لم يُجِب ، لأنه كان مُنشغلاً بالنَّظر إلى فتاةٍ تقف على الجانبِ الآخر ، خَلَعت ملابسها ، ثم نَزَلَت إلى مَجْرى النّهر ، عارية .

وفي صَباحِ اليوم التَّالِي ، بعد أن استيقَظ داوود ، ناسِياً حِلْمه ، تَلَقّى مُكالمة هاتفية مِن صحفي شاب ، يَطْلب منه أن يقدّم نعياً في رحيل أصلان ، ورأياً بشأن صعود التيار الدّيني في الانتخابات البرلمانية ، التي تنتهي مرحلتها الثالثة بعد أيام ، بصفته سينمائي ، قِبطي ، يَقع ، تماماً ، في مُنتصف دائرة المَخاوف حول تعامل الإسلاميين مع الفن ، ومع الأقليَّات ، استمع له داوود بأُذنٍ ثَقيلة ، وبنصف تركيز ، حَيْثُ النصفِ الآخر ، كان مُرَكَّزاً على لَوحة الكِتاب المُقدّس ، التي وضعها على حائِط منزله ، مُنذُ ما يُقارب الرُّبعِ قرن:

 فَدَعَوْا ثَانِيَةً الإِنْسَانَ الَّذِي كَانَ أَعْمَى، وَقَالُوا لَهُ: «أَعْطِ مَجْدًا للهِ. نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ هذَا الإِنْسَانَ خَاطِئٌ" ، فَأَجَابَ ذَاكَ وَقَالَ: «أَخَاطِئٌ هُوَ؟ لَسْتُ أَعْلَمُ. إِنَّمَا أَعْلَمُ شَيْئًا وَاحِدًا: أَنِّي كُنْتُ أَعْمَى وَالآنَ أُبْصِر

20 فبراير 2012

لأن الله سيسألنا عن دماءِ الشُّهداء

العائدون من أمام القصر الجمهوري في ليلة 11 فبراير ، كان هتافهم الوحيد للشُّهداء ، "نام وارتاح .. خَدنا حَقّك مِ السَّفاح" ، "نام واتهنّى .. واستنَّانا على باب الجنّة" ، كان الشعور الأهم وقتها ، أكثر من الفرحة ، أكثر من النصر ، أن دماءِ الشُّهداء الذين سَقطوا لم تذهب هَباءً ، وأن كل من رَاح له شَهيد ، سَيُؤانس ، دوماً ، بلحظةٍ كتلك ، ويُصبر نَفسه بإن "دَمُّه مَرَحْش هَدَر" ، وما مِن صبرٍ كان أو مؤانسة .. في الشُّهداءِ الذين ذهبوا بعد ذلك

قبل يومين ، استيقظت على بُكاء أمّي بالغرفةِ المُجاورة ، وصوت التلفزيون يُذيع هتاف الألتراس الشهير ، في الأغلبِ على صور الشُّهداء ، "يوم ما أبطَّل أشجَّع ، هكون مَيّت أكيد" ، يَبدو من الموجع جداً سماعها على لسانِ من سيصبحوا ، بعد ثلاث ساعات فَقَط ، شُهداء

قبل 19 يوماً ، لم أستطع النّوم طوال ساعات الليل ، صُوَر كابوسيَّة مُستمرة ، لشُهداءٍ يَتم رَمْيَهم من سَطْح الإستاد ، وشُهداء يَتِم طَعْنِهم في مُدرجاتٍ مُظْلِمة ، وشُهداء يُخْنَقُون بكوفيَّاتِهم ، والصورة الأسوأ على الإطلاق .. لشُهداءٍ يَتَكَدَّسُون ، أحياءٌ وأموات ، في مَمَرًّ صغير ، لا يَمْلُك أيًّ مِنهم من أمرِه شَيئاً

قبل ساعتين ، جاءَني في الحُلْمِ ، بين النّومِ واليَقَظة ، عِدة شُهداء ، بملامِحهم التي أعرفها ، وصوتهم ، "يوم ما أبطّل أشجّع ، هَكُون مَيّت أكيد" ، كانوا مازالوا يُشَجّعون ، وكأنّ المُباراة لم تبدأ

المُشكلة ، أن هؤلاء لم يموتوا في محمد محمود ، أو مجلس الوزراء ، أو حتى في ماسبيرو ، الشُّهداء الذين يختاروا الشّهادة ، أقل قسوةً على النّفس من الشُّهداء الذين راحوا غَدراً ، وما تبقى لَنا بعدهم هو الشعور بالقَهْر والعَجْز ، لأننا ، مثلهم ، لَم نَملك من أمرِنا شيئاً

المُشكلة ، أن جُزء من روحنا يَموت في كُل مَرة ، يموت مع كل شهيد ، يموت مع كل تخاذل عن حقه ، وما من شيءٍ صار له معنى أو قيمة ، صور الشهداء على الجدران ، ودَمَهُم على الأسفلت ، وصوتهم في الفيديوهات التي تركوها وراءهم ، ورَوحهم مُعَلّقة بين السماءِ والأرض

أُصَبّر نفسي بأنّ الله مَوجود ، وأنّه يَعلم ويَرى ، وأنّه حَذّرنا مِنَ الكُفرِ بروحِه مهما اشتد الظُّلم ، وأن كُل ما وَرَد مِن سِير الأسبقين ، كان يُعيننا على الاحتمال ، ويؤانسنا حتّى بيأسِ الرُّسل ، الذي يجيء بعده النّصر ، فلا يُرَدّ حينها البأس عن القومِ المُجرمين

وأُفكر ، بعد عام من الثورة ، أن ما صار يُحَرّكني ليس الرغبة في بلدٍ أفضل ، يعيش أهلها حياةً كريمة ، لا يستحقونها ، صار ما يُحركني ، فقط ، أن هُناك شُهداء ، أتمنّى أن أُجْمَعُ بهم ، دون سواهِم ، يوم القيامة ، وأنهم سيسألوننا ، وسيسألنا الله ، عنهم ، وعن دماءهم ، وعن القصاصِ لها ، وإذا توقفنا الآن عن قولِ كلمة الحَق ، فلن نستطيع حينها الإجابة ، فأُعِين نَفسي على التّحَمُّل ، وأُذَكّرها بأن الثورة مُستمرة لأجلهم

26 يناير 2012

عزيزي يوسف شاهين: الثورة مُستمرة


تقولُ الحِكاية ، التي عاصَرْتُ جانباً مِنها ، أن يوسف شاهين ، أثناء إحدى ذروات الحراك السياسي في مصر ، مع اعتصام القُضاة من أجل استقلالهم عام 2006 ، قد اقترح ، مُتحَمساً ، أن يحمل المُعتصمون والمُتظاهرون في قادِم المُواجهات عُصياً وشوماً ، من أجلِ مُواجهة قوات الأمن والبلطجية ، والدِّفاع عن أنفسهم في مواجهة الوحشية المُفرطة التي يتم بها فض اعتصام أو تفريق مُظاهرة .

لَمْ يُلقَ اقتراحه وقتها بجديّة ، وفُضّ الاعتصام سريعاً ، وقُبِضَ على عشرات من النُّشطاء الذين شاركوا فيه تضامناً مع المَطالب المشروعه للقُضاة ، فقرر شاهين أن يبدأ في فيلمه الجديد "نهاية نِظام" ، الذي تحوّل بعد ذلك إلى "هي فوضى" ، مُحققاً صورة مُتخيَّلة لفكرته العظيمة في آخر مشهد أخرجه في حياته: آلاف المواطنين يحاصرون القسم ، ويَشْتَبكون مع الشرطة ، ويُسقطون النِظام ، ذات الصورة التي تحقَّقت على أرضِ الواقع يوم 28 يناير ، بعد أن صارت ثورة ، يخرج فيها الملايين إلى الشارع ، وهُم شَعباً يُريد إسقاط النظام .

ولَم يَكُن يوسف مَعهم ، لأنه قد مات ، أو صَعَد ، وفي صورة شاعرية كان يراهم ، وفي ما هُوَ أكثر: كان يَهْتِفُ وراءهم ، ويُمارس الثورة ، فِعل الإرادة والقوة والرفض والاختيار ، الذي دائماً ما عَكَسه في أفلامه ، مُتَمَنّياً أن يراه وَاقعاً .

تَصَوَّرت ، سُبحان الله ، أن محمد أبو سويلم وعبد الهادي ، بهيَّة وفاطمة ويوسف والشيخ أحمد ، إبراهيم المَدبولي ، وتفيدة بنت حسونة ، يحيى شُكري مُراد ، وشكري مُراد ، قد ساروا ، وثاروا ، فوق كوبري قَصر النيل يوم جمعة الغضب ، تصوَّرتهم ، وقد راح كُل مِنهم يَشِد على يد الآخر ، مُعزياً ، في الرَّجل الذي ، لفرطِ الثِقة ، قد جَعلهم يُغَنُّون "الشارع لِنا" ، وتركهم ، قبل أن يرى الشارع وقد صار لهم بالفعل .


(2)

هيَ مُصادفة ، حتماً ، ولكن لابُد وأن لها ، ككل شيء آخر ، معنى ، في أن يكون ميلاد يوسف شاهين في الخامِس والعشرين من يناير .

كُنت أكتُب ، قبل عام ، في ظهر 25 يناير 2011 ، أن عين يوسف كانت تَعكس دائماً صورة مُثلى لبلادٍ أحببتها ، تفسح للحلمِ مجالاً كي يتحقق ، وتقفُ مع الثورة إن حدثت ، بل صار الأمر ، لفرطِ الشبة ، أن تتبعه مسيرته ، هُو تتبع لمصر ذاتها ، التي كانت ، في سنينها الأخيرة ، تَكْبُر وتَشِيخ وتَعْتَل ، ومِثلها كان .. يَكْبُر ويَشِيخ ويَعْتَل ، يَنْحَدِر هُو بمسيرةٍ سينمائية ، وتنحدر هيَ بكُل شيء آخر .

ثم كان ما حدث في الخامس والعشرين من يناير ، نَزَلتُ إلى الميدان ، ووجدته مُمتلئاً ، نَوَيْنَا الاعتصام ، فَفَرَّقونا ، ورَحَلنا ، بنيّة العودة إلى تِلكَ الأرض من جديد ، وحَدَث ، فقُمنا بثورة ، وأسقطنا نِظاماً ، ولم أستطع ، طوال الوقت ، مُراوضه أن كُل هذا قد بدأ يومها ، وأن ذكرى الميلاد قد صارت واحدة: الثورة ويوسف .


(3)

لم أكْتُب عنه بالأمس لأنّي كُنت هُناك ، وتمنَّيتُ أن يكون هُو أيضاً كذلك ، وفي لحظةٍ ، تخيَّلت ، لا أنّني أكتب عَنه ، ولكن أكتب له:

تَعلَمُ كُل ما حَدث ، وأنه مَرّ على مصر نهاراً كالثامن والعشرين من يناير ، لن تعود بعده إلى سابِق ما كانت عليه .

أنه كان هُناكَ شعباً ، وخفافيش سوداء ، وأننا انتصرنا ، ما ظنناه ، وقتها ، نصراً بيناً ، ونهاية للأمر ،بسقوطِ الوَحْش ، والوصول للأميرة .

ولكن ، لم تَسر الأمور على هذا النحو ، ووجدنا ، للعَجب ، أن ما فات كان أسهل ما في الأمر ، وأن الثورة لا تتوقف ، لأنه ما مِن نهاية ، كُلما تُسقط وَحْشَاً ، تُواجهك وُحوشاً ، وإذا كُنا قد تعلّمنا شيئاً ، بعد عام كامل ، فهو أن تِلك هي طبيعة الأمور ، وما من حَدٍّ سَيُعْلَن عنده انتصار الثورة ، ولذلك سَتَظُل مُستمرّة ، وسَنستمر معها ، لأن اليأس ، كما قال أمين ، خيانة للشهداء ، ولأننا يَنْبَغي أن نَفْرح ونَسُر ، كوننا قد عَرفنا الثورة وعشنا معها .

عزيزي يوسف شاهين: الثورة مُستمرة .

27 أغسطس 2011

سِت حِكَايات عَن المُؤانسة

(1)


المؤانسة بالأمل


لَم يَكُنّ "القصبجي" يَعْلَم أن "رَقّ الحَبيب" هيَ آخر ما سَيُلَحّنه في حياته ، ولكنّه مع ذلك أخرج فيها كُل ما يَعْرفه عن المُوسيقى وعَنْ العِشْق


كان في "أم كُلثوم" شيئاً جاذباً ، يَدْفع الرّجال ، ليس فَقَط لأن يحبُّونها ، ولكن بأن يُفَضّلوا دَوماً البقاء بقُربها ، مهما بدا ذلك قاسِيَاً وصَعْبَا


أحبّ القصبجي أم كلثوم ، وارتضى بأن يتحوّل "الأستاذ" و"الموسيقار" العظيم الذي تَتَلْمَذّ على يَده الجَمِيع ، والذي كان ليُصْبح - ربما - أعظم مُوسيقي مَصْري في القرنِ كاملاً ، إلى عازِف عُود وَرَاء "السّت" .


ولَكِنّ التَّفسِير وَاضِحاً ، ليْسَ فَقَط لأنّها "أم كلثوم" ، ولكن لأننا نَمِيلُ إلى الأَمَلِ دَوْمَا ، لا نُريدُ فٌقدانه ، مهما بدا ما نُريدُه بعيداً ، نُغالط الحَقَائِق ، ونُبادل ما لا نُريد تَصْدِيقه ، لِيَزْدَاد الشّوق بالوَلَعْ .


لهَذَا ، اعْتَقَد "القصبجي" دوماً أن تَضْحيّاته تٌُقرّبه ممّا يُريد ، واستعد بأن يُضَحّي بكُلّ شيء آخر ، بما في ذلك موْهِبتُه الفذَّة ، مُقابل أن يُبقى على "أملِ" أن تُصْبِح "أم كلثوم" حَبِيبته ، مَثَلَهُ كَمَن تَرْك تسعة وتسعون خروفاً في البريّة ، وذَهَبَ لأجلِ الضَّال ، وماتَ دُونَ أن يَجْده .


ولكن ، مع ذلك ، لَمْ يَكُن "القصبجي" لِيَعْش يوماً بغَيْرِ الأمل ، وَبقُربِ الضَّال .


(2)

المؤانسة بالعَتَب



ظَلَّت العلاقة بين "حسن شحاتة" ، أحد رموز نادي الزّمالك على مرّ تاريخه ، وجمهور الفريق ، في أحسنِ حال ، منذُ بدأ اللّعب في النادي في بداية السبعينات ، وحتى يناير 2010 ، كانوا دائماً هم السَّنَد له ، وتحديداً في السّنوات الأخيرة ، بعد أن أصبح المدير الفني للمنتخب الوطني ، تطالُه الكثير من سهام النَّقد ، أكثرها حقاً وبعضها بهتاناً ، ولكن في كُلّ الأحوال ظلَّت جماهير الزّمالك بجانبه ، ظالماً كان أو مظلوماً .


ولذلك فإن تِلْكَ الجماهير ، لم تَقْبل من أحد رموزها ما اعتبرته "خيانة" ، ولا شيء أقل من ذلك ، حين استدعى شحاتة لاعب الفريق "أحمد حسام ميدو" لمعسكر إعداد بطولة كأس أمم 2010 ، وقرر الاستغناء عنه بشكلٍ مُهِين ، كردّ على واقعة الصدام الشهيرة بينهم في مباراة السنغال عام 2006 .


رَحَل "مِيدو" عن النَّادي ، وحَمَّلت جماهير الفريق "شِحَاتة" مسئولية هذا الرحيل ، خَسِرَ الزّمالِك الدّوري ، فَشَلَ "مِيدو" في الاحْتِراف ، خَسِرَ الزّمالِك الدّوري من جديد ، وعادَ "مِيدو" بعد أن لَفَظَتْهُ أوروبا ، بَقَت الكثير من الأشياء على حالها ، عدا شيء واحد قد تغيّر : أصبح شحاتة بالنسبة لجماهير الزمالك ابناً ضالاً لَمْ يَتُبّ .


وانحدر كُل شيء مع "شحاتة" بالتوازي ، ساءت أموره مثلما ساءت أمور ناديه: تأييده المُطْلَق للنظام السابق أثناء ثورة يناير ، اضطراب علاقته بإتحاد الكرة بعد سقوط النّظام ، الأداء الباهت الذي يقدُّمه منتخب مصر في الفترة الأخيرة ، وأخيراً : خروج المنتخب من تفصيات الكأس التي حمل لقبها لثلاث مرّات على التوالي ، والنّتيجة: عَزْل شِحاتة نفسه عن كرسي المدير الفنّي الذي ظلَّ عليه لمدّة سِت سنوات .


وما يَهِمَّني ، هُوَ مَا حَدَثَ بعد كُل هذا ، جرافيتي رُسِمَ لشِحاتة على جُدران النَّادي في "ميت عُقبة" ، يَحْمِل صُورته شاباً ، لَمْ يَفْقَد براءته وحُبُّه غير المشروط لناديه ، وتَحْتَهُ كُتِبَت كَلِمَات حَمَلَت روح الشّعر حتى وإن فقدت إيقاعه :

"إحنا أهْلَك / إحنا رجَّالتَك أمانَك / إحنا وَقت الشدّة سَنَدك / إحنا زادَك / يا حَسَن .. لو كُنْت ناسِي / إحنا ناسَك"


عَتَب مِثَالي بالنِسْبَة لابنٍ ضال: مَنْطُوق مِن مَوقِف قُوة ، مؤانِس في أكثر أوقات الضَّعف ، يؤكد - في كُلْ شَطْر - على صِفات ذكورية : "أهلك/رجّالتَك/سَنَدك/زادَك" ، ولا يَنْسَى عَتَب المُنَادي - بحَسْمٍ - عقب مناداته "لو كُنت ناسي" فَيُذَكْره : "إحنا ناسَك"


(3)

المؤانسة بالعَجْز



لَم يَكُن المخرج الأمريكي "جون كازافيتس" يَصْنَع أفلاماً ، كان يُحاول في الحقيقة أن يَعِيشُها ، نَجَح حيناً وفشل أحياناً ، وظلَّت أعماله مقرونة قبل أي شيء بـ"التَّجربة"


في فيلمه الأهم "امرأة تحت التأثير" يَسْرد الرَّجُل قصة امرأة تُدْرك جُنُونِها ، تُحاول التّغلُّب عَلَيه لأجل أسرتها ، تَعْرف أن لديها زوج وأبناء ، تَعْلَم أنها خَطَر عليهم ، تُقاوم الجُنُون من أجل البقاء مَعَهُم .


الزَّوج في المُقابل يَعْرِف هُوَ الآخر بجنونِ زوجته ، وهُو يحبها ، يحبُّها كثيراً ، ويُريد الحِفاظ على تِلْكَ الأسرة أكثر من أي شَيء آخر .


الحياة في المقابل ، كَطَرفٍ ثالث بينهم ، لَيْست طيّبة على الدّوام ، لا يعني أبداً أن هذا هو أكثر ما تُريده أن تَصِل إليه بالفعل ، لذلك يزداد جُنون الزّوجة ، وتزداد الضُّغوط على الزّوج كي يُدخلها إلى مَصَحَّة .


هُناك عَجْز شديد هُنا ، المَحَبّة ليست كافية ، والاتّكاء على الكَتِفِ القَرِيب لا يَعْني بالضرورة الشُّعور بالحِمَاية ، إن كان هذا الكَتِفِ هو الآخر عاجزاً .


وفي الخِتام ، لَيسَ هُناك مَهْرَب مِن هذا الجنون ، ولكن هُنَاكَ مُحاولة ، صادقة أكثر من أيّ شيء آخر ، للمؤانسة .. ولو بالعَجْز ، وبالاحتواءِ .. وإن كان بِرَسْغٍ مُرْتَعِش ، وبالدّفء .. حتى لو باحْتِضانٍ لا يَحْمِي تماماً مِنَ السَّقِيع .



(4)


المؤانسة بالعَهْد


يُرْوَى ، ضِمْن أَعْظَم مَا جَاء في السّيرة ، أن الشَّهيد "أنس ابن النّضر" قَد التَفَتَ نَحْو "سَعد بن مُعاذ" ، في مُنْتَصَفِ "غَزْوة أُحُد" ، قائلاً له : "يَا سَعْد ، الجَنّةَ ورَبُّ النّضر ، إنّي لأجدُ ريحها مِن دونِ أحد"


ولَمْ تَكُنّ الجَنّة عن "أنس" ببَعِيدَة ، فَقَد عَاهَد الله على الشّهادة مُنذُ فاته يَوم "بَدر" ، ووَقَفَ بَين يَدِيّ النّبِيّ (عليه الصلاة والسّلام) قائلاً : "لئِن أَشْهَدَنِي الله قِتَال المُشْركِين ، لَيَريَنّ الله مَا أَصْنع"


فَلَمَّا جَاء يَومُ "أُحُد" ، وشَاعَ بَيْن المُسلمين أن رَسُول الله قَد قُتِل ، صَرَخَ فيهُم "أنس" : "إن كانَ قَد مَات ، فقوموا وقاتِلُوا عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْه" ، فَنَزَلَت: "ومَا مُحَمَّدّ إلاّ رَسُول قَدْ خَلَت مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُل" ، وانْطَلَق "أنس" يَشُقُّ صُفوفَ المُشْركين ، حتّى سَقَط شَهِيداً ، يَنَالُ الجنّة بَعْد أن وَجَد ريحِها، فَنَزَلَت "مِنَ الْمُؤمِنِينَ رِجالاً صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْه"


قِيلَ أنّ النّبي حين تَفَقّد شُهداء أُحد ، وَجَدَ "أنس" وبه بضعة وثمانون جرحاً ، ما بين ضربة بسَيْف ، وطَعْنة برمْح ، ورَمْية بِسَهْم


قِيلَ أنّ المُشركين قَدْ مَثَّلُوا به وغَابَت مَلامِحْه ، فَلَمْ يَعْرفه أحد إلا أُخته "الرَّبيع بنت النّضر" لعلامةٍ في إصبعه


قِيلَ أن سَعْد قَد بَكى بشدّة وهُوَ يقولُ للرّسول: "فما استطعتُ يا رَسول الله ما صَنَع"



(5)


المُؤانَسَة بالمَحَبّة


أُحِبُّ الكِتَابة عَمَّن أُحِبَّهُم ، الأشْخَاص يَتَغَيَّرُون ، مِنْ الحِكْمة تَصْدِيق أنّ الدُّنيا (قد) لا تُبقِي الأشياء على حالها ، مَهْما بَدَت صَلْبَة ، لَسْتُ حَكِيمَاً ، ولَكِنّ الكِتَابة تَحْفَظُ المَشَاعِر .. ولو بالذّكرى .


وللمَحَبَّةِ أنواع ، أَعْظَمَها .. هِيَ تِلكَ غَيْر المُسَبَّبَة .. غَيْر المَشْرُوطَة ، أنا الّذِي أُحِبُّك .. فأنا المَدِينُ لَكَ بِكُلّ شيء ، وهَذَا يَكْفِي


***


تَعْتَبِرُ البنت السَّمْراء البَدِيعة ، "العقل اللي يوْزِن بَلَد ، والقَلب الكبير اللي قد الفيل" ، أن أكثر الأوقات القريبة بيننا هيَ تِلْكَ التي سِرْنَا فيها ضمن أكثر الأماكن قُرباً لها ، أو تِلْكَ التي شَعَرَت فيها بالحِمَاية والأمان فقط لأنّنِي هُنا ، رغم أن كُل شيء آخر كان يُفَضِي إلى غَيْرِ ذَلك .


وبالنّسبةِ لي ، لم تَكُن لَحْظة واحدة ، أو بِضع لَحَظات ، رغم كَثْرتها ، فقط أُفكّر دوماً أنني لم أَكُنْ لأصير هذا الذي أنا عليه في تِلَك اللَّحظة ، وهو أفضل كثيراً مِمّا كُنته قبل عدّة أشهر ، لو لَمْ تَكُن هِيَ هُنا .


والحِكَاية هُنا في التَّفاصيل ، حَيْثُ تَكْمُن رَوح الله ، الَّذِي آلَف القُلوب كَيْفَمَا شاء ، ليُؤانِس عِباده بالمَحَبّة .



(6)


المؤانسة بالكِتَابة


هذا البُوست كَافِيَاً لِذَلِك !

22 أبريل 2011

وَبَشّر ...

في بَعضِ الأحيان ، يَظهر نور الله ساطعاً في أرضِه ، تَسِير الحياة هادئة ، تكون النّفس مُطمئنّة ، يَستمعُ الرّب إلى عباده ، يُباسِمهم في الصّحو ويآنِسهم في المنام ، ولا يبدو بعيداً عندها أن تسير الأمور بخيرٍ إلى الأبد

وفي أحيانٍ أخرى ، يقول الرَّب للشيطان هو ذا كل ما له في يدِك* ، يَختفي النُّور وتكتِمِلُ الظُّلمة ، يقتربُ اليأس فيبدو الكُفر بروحِ الله قريب ، لولا أن منحنا بحكمته الصّبر

وبالمثلِ ، فإنّ كلَّ اختبارٍ من الله لأنبيائه ، يُنَبّئنا في جوهره بانتظارِ تأويل ما لا نستطيع عليه صبراً ، لنستمسك به كلما اختبر فينا إيماننا بحكمته ، ونَسْتَظِل بوجوده حتى إن انقطعت إلينا سُبُل رحمته ، لا نيأس من روحِ الله .. فَيُبَشّر الصابرين منّا ويجزي الصادقين ، ويكتملُ الإيمان .. يومَ نرجُو ما لا نَنتَظِرُه ونُصدّق ما لا نَراه

* سفر أيُّوب ، الإصحاح الأوّل ، آية 12