06 أغسطس 2014

العالم لا ينتهي في السادس من أغسطس


وَقتها، في 6 أغسطس 2012، كانت الساعة الحادية عَشر أو يزيد، وكُنت متيقناً من أن العالم حَتماً يَنتهي، أو يجب أن ينتهي، وأن وَقع ما يَحْدُث أكبر من أن تستمر الأمور من بعده ليومٍ واحد.

بعدها بشهرين، قررت أن أكتب بوست يوم السادس من أغسطس عن أن العالم لا ينتهي في السادس من أغسطس، أحكي فيه عن تجربةِ العام كلها، وكيف أن أسوأ وأصعب ما حَدَث لي في حياتي، وسيظل كذلك لوقتٍ طويل، هو في الحقيقة النُّقطة التي صرت بعدها شخصاً مُختلفاً، وأن الأشياء والكلمات المُجرَّدَة جداً التي جعلتها تؤانسني وقتها، من قبيل "انتصار الروح" أو "جبران الخاطر"، صار لها مَعنى حقيقي ومادي بعد عام.

كُنت أفكر حينها، حين لم ينتهِ العالم في 6 أغسطس وصار عليَّ الاستمرار، بأنني لا أريد أن أذكر كل هذا، أن أنساه تماماً، هذا القدر من الزَّعل والألم والهَشاشة وغَوصان القلب، هذا القدر من الغَدر والسوء و"المَحَبَّة المُهْدَرَة"، والاستيعاب –لاحقاً- أن الذكريات لا تُبارحنا كان قاسياً، فكان ما عليَّ هو مُبادلتها.

فكَّرت فيما "سيبقى لنا"، أن التجارب تحدث، الأشياء السيئة والجيدة، ولكن "المهم ليس ما يعيشه المرء، ولكن ما يتذكره"، وقررت التلاعب بذاكرتي بشأن الشكل الذي سأستبقي به كل ما حدث.

فكَّرت بأنني أريد أن أكون "شخصاً أفضل"، بمعانٍ مختلفة للكلمة، وأن أتذكر 6 أغسطس باعتباره اليوم الذي قررت فيه أن أكون شخصاً أفضل، وليس اليوم الذي تعرَّضت فيه للأذى الأكبر في حياتي القصيرة.

فكَّرت بأنني أريد أن أنقص من وزني 21 كيلو، بتأثرٍ رقمي بفيلم "21 جرام" الذي يفترض أن هذا هو حجم الرُّوح في الجسد، وقُلت بأن تلك الـ"21 كيلو" الناقصة.. ستكون مَوضع المَحبَّة المُهدرة.. الغضب.. الكراهية، كل الطاقات المثقلة التي أريد التخلص منها وضعتها في 21 كليوجرام فاسدة ستصبح عرقاً خلال العام.

 كان الله قاسياً جداً يوم 6 أغسطس، وكان رحيماً جداً بعدها، أندهش أحياناً من تراتبية الأمور، كيف أن هذا الأمر السيء كان من السهل ألا يحدث.. ولكنه حدث، وكيف أن كل ما جرى بعدها كان يُعينني على إدراكِ كون ما حدث، أسوأ ما حدث، كان يجب أن يحدث.

بدأت الفقرة السابقة أصلاً بغية الكتابة عن هبة، مُشكلة هذا البوست أنه جرى في عقلي لوقتٍ طَويل، ثم استسخفته لاحقاً بشدَّة، واستسخفت الشكل الملحمي الذي أردت كتابته به يوماً، أنا أريد أن أكتب عن الشيء الأهم الذي حدث في حياتي، عن التجربة، وما تبقى منها، وعن امتناني لله ولكل ما جرى، لا أريد شيئاً ملحمياً هنا فعلاً، تلك الفقرة على الأغلب  هي بداية حدوث ذلك.

لذلك فأنا أريد الكتابة عن هبة، ولا أرغب في التصريح بالكثير، أتذكر فقط كم كان وجودها مُهماً خلال ذلك الوقت الذي تلى أغسطس، كانت الخِصام وكانت الوصل والحَكم.. حرفياً، كيف أحببنا بعضنا للدرجة التي أعتقد فيها أحياناً أنها البنت الوحيدة التي أحببتها في حياتي، وكيف أذينا بعضنا للدرجة التي أعلم يقيناً أنها الشخص الوحيد الذي أذيته بهذا القدر، وكيف أن المسافة بين هذا الحب والأذى فيها الكثير من قسوة الدنيا، الحياة صعبة فعلاً، صعبة وقاسية ومُجْهِدَة، تلك أكثر جملة قلتها خلال العامين الأخيرين على الأغلب، حتى المحبة والود والنوايا الحسنة ليست كافية ألا يأذي الناس بعضهم بعنف، لدرجة مُدمية، وأنا آسف جداً على كل هذا، ولكنه جزء من التجربة.

ما أدركته مؤخراً، بيقين، هو الكيفية التي يختار لنا بها الله، وأنها أفضل مما نختاره لأنفسنا، وفي كل مرة أقول الفكرة لأحد.. أخبره بأن الكلام مُكرر وبضان ولكن ما أملكه فقط هو أنني سأثبته بتجربة شخصية قاسية للغاية، كُنت أجلس مع رانيا، في كافيتريا الجريدة، حين فكَّرت في ذلك لأول مرة، وكُنت أجلس مع نور في بَلكونة بَيتي حين أعدته: الله يختار لنا أفضل مما نختاره لأنفسنا، لأنني لو عُدت بالزمن إلى يوليو وأغسطس 2012، بمعرفة مستقبلية بكل ما يحدث، وبإدراك حتى أن حدوث الأسوأ سيكون النقطة التي تبدأ من عندها الأمور في التحسن لاحقاً، لو عُدت بكل هذا، لن أجعل الأمور –رغم ذلك- تسير بالشكل الذي سارت عليه، سأتخذ خياراتٍ أخرى، سأجنب نَفسي وهبة كل هذا القدر من القسوة والألم، سأتخذ الخيارات "الجيدة" بمقاييس لحظتها، لأنه سيصعب عليَّ جداً أن يتكرر ما حدث مرة جديدة، و"سأختار لنفسي" حياةً ليس فيها السادس من أغسطس بصورته في 2012 قطعاً، ولكننا لا نختار لأنفسنا، الله يختار لنا، وهو يختار لنا الأفضل بمقاييس بعيدة وطويلة الأمد، حتى لو عجزنا لحظتها عن إدراك سبب ما يحدث، فأنا كنت غاضباً منه جداً وقتها، أذكر الاستيقاظ في ظُلْمَة الليل، ظُلمة كاملة، في شهر أغسطس البعيد هذا، بكل هذا الثقل في قَلبي، وأنا أفكر في السبب الذي جعله يُقدر الأمور بهذا الشكل، وأن بعض "الحنية الإلهية" كان ليُجنبنا كل هذا، ثم سارت الأمور، ببطءٍ شديد ولكنه مُثير للتأمل، القسوة تجعلك "ترى" الأمور جيداً، بصورةٍ ما طبعاً كنت أعمى وصرت أرى، وأدركت أن ما حدث جعلني شخصاً أفضل، وجعل الحياة أفضل، حتى لو بأصعبِ الطُّرق وأقساها، حتى لو بندوبٍ لم تُبارحني رغم ما أكتبه الآن، ولذلك تحديداً إن عُدت للوراء لن أختار نفس الخيارات التي تجعلنا نسير في ذلك الطريق، ولذلك تحديداً "الله يختار لنا أفضل مما نختاره لأنفسنا".

قُلت لرانيا، وأنا أدرك هذا المعنى للآية للمرة الأولى، ثم لنور، وأنا أكرره مُتيقناً، بأن ذلك جوهر "واصبر لحكم ربَّك.. فإنك بأعيننا"، الله يعرف قَسوة الدروب التي يختارها لنا أحياناً، وفي ذلك المُفتتح المُتَمَهّل "يَطْلُب" هذا الصبر وحُسن الظن، هو يعرف كم أن 6 أغسطس صعباً، والمؤانسة في الآية منبعها تلك الجملة المخفية: "أنا أعرف، ولكن اصبر"، قبل أن يُكملها بالتعبير الأقرب والأحن والأكثر إنسانية في القرآن كله: "فإنك بأعيننا".

بعدها بشهرٍ و3 أيام، -أعرف ذلك جيداً لأنني كُنت أتحدث مع رانيا أثناء افتتاح مونديال البرازيل يوم 12 يونيو، وأقيم عيد ميلادي يوم 15 يوليو-، أحضرت لي نُهى هدية، ميدالية مَكتوبٌ عليها "واصبر لحكمِ ربك فإنك بأعيننا"، كانت شيئاً فاتناً وعزيزاً للغاية، لم أكن قد حَكَيْتُ لها عما وَصَلت إليه.. وبدت الإشارة من الله واضحة.

يبدو البوست في نهايته، وأنا مرتاح وهادئ، أكتب من بَلكونة البيت، الساعة 8 صباحاً، الجو مُشْمِس، ورُوحي مُشْمسة، الحياة ليست فيلماً، ليس من الضروري أن تسير الأمور بتتابع مُنتظم دائماً، أو تستمر اللحظة إلى الأبد، ولكنها الآن موجودة وحيَّة وحاضرة، وهذا جميل وحُلو.

بمناسبة أن "الحياة ليست فيلماً"، فلذلك تحديداً لم أكتب هذا البوست بهذا العنوان في العام الماضي 2013، لأنني أدركت قُرب نهاية السنة، سَنَتِي الشخصية التي بدأت في 6 أغسطس، أن الأمور لم تنتهِ بعد، ولم أتخلَّص بشكل كامل من رواسِبها، وارتكبتُ في أغسطس 2013 أسوأ ما فعلته في حياتي، وآسف فعلاً عليه، ولذلك لم أكتب بوست يُفيد بأن "العالم لا ينتهي في السادس من أغسطس"، وظننت أنه فات الوقت على كتابته وانتهينا، وحينها كُنت غاضباً من أن الحياة ليست فيلماً، وأن اللحظة "الملحمية" "باظِت" في الأمتار الأخيرة، وأنني فقدت 16 كيلو من وزني وبقت 5 كيلوهات فاسدة كَسَّلتُ عنهم، بالمعنيين المادي والرَّمزي، ولكن لأنه، أيضاً وبالتفافٍ مُعاكس، "ليس من الضروري أن تسير الأمور بتتابع مُنتظم"، فقد جرت أمور مُشابهة لوقتِ 2012 في 2014، فبدا لكلِ شيء معنى، لأنني صرت شخصاً مُختلفاً، أفضل وأكبر، صرت "أرى"، فسارت الأمور بشكلٍ أطيب وأهدأ، وأرحم، حتى لو لم يخل من الألم، وحين بدأ أغسطس الجديد، الذي كُنت أحمل هَمُّه بمنطق أن أسوأ وقتين في حياتي كانوا في أغسطس من العامين الماضيين، كانت فَرَح تُخبرني بأنني يَجب أن أصنع منه أياماً للذكرى، وعشت، حتى الآن، 5 أيام هادئة جداً.. وطيّبة جداً، وفي صباحِ اليوم السادس كَتبتُ هذا البوست.

جملة الإمام القُشيري لا تُفارقني هذا العام: "وَيُقال، أن العِبرة لا تُؤخذ من الحَقِ في الحال، وإنما الاعتبار بما يَظْهَر من حُسْنِ تَقديره في المآل"، أفلا "رب تشويش يسود العالم.. والمقصود به سكونٌ واحد؟"

حين فكَّرت في هذا البوست كثيراً، طوال 2013، كنت أريد أن أختمه بأن "العالم لا ينتهي في السادس من أغسطس، بل يبدأ"، وكانت جُملة مَلحمية تليق بالشكل الملحمي الساذج الذي ظللت أرى البوست به لوقتٍ طويل، هي غير مُناسبة الآن، هذا بوست عن تجربة صَعبة وعادية، ولكنني مُمتن لله عليها، ليس بالضرورة أن ندوبها انتهت، وليس من المفترض أصلاً أن تنتهي، لأن الحياة ليست فيلماً، ولكننا نُحاول، نحنُ أشخاص غلابة جداً نحاول، وربنا بيسترها مَعنا، أو يُعَلّمنا بالطريقة الصعبة، فقط لا غير.