19 نوفمبر 2012

النور الذي يُحيي التماثيل


مُفتَتَح تأريخي:
في جُمعة «رد الاعتبار للشهداء»، يوم 2 ديسمبر الذي تلى معركة «محمد محمود»، كانت واحدة من أعظم تفاصيل الثورة: قام الثوَّار بوضعِ الشاش على أعيُنِ التماثيل المُتفرّقة الشوارِع، فبدا أن تاريخ مصر كاملاً يُشارك في تلك اللحظة.
.
.
.


(1)
مِسك الشَّيخ في يدِ الضَّرير



وَقتها، «عُمر مَكرم» كان شاهداً على ما يَحدث منذ الصباح، يَقِفُ هادئاً كما يَليقُ بشيخٍ عَجوز، ورغم الحُزن الشديد الذي شَعره حين اقتحمت قوات الأمن ساحَة الميدان، وضَربت المُصابين والمُعتصمين، إلا أنه حافظ على ثباته، مُسَبَحاً وداعياً لله في سِرّه.

ما دَفع الشَّيخ حَقاً للغضب هو مرور "أحمد حرارة" بجواره، مَحمولاً على الأكتاف، والناس حَوله يُحَوْقِلون ويتهامَسُون، عن ذلك الطبيب الذي فَقد عَينه في الثورة الأولى، يَوم 28 يناير، وظل مُصمماً على التوجُدِ في كُل الأحداث من ذَلِك الوقت، حتى أصيبَ منذ قليل في العينِ الأخرى، وأصبح، لا حَول الله، في خَطر ألا يَرى ثانيةً.

عين «حرارة» كانت الدليل الأول في نُوفمبر البعيد هذا على أن «ثورة ثانية» آتية، وأن المَعركة القادِمة لن تنتهي قريباً، وأنّ النُّور الذي صَار يَخجل من عيونِه، سيَجِدُ طَريقاً آخر إلى قلوبِ الناس، تماماً كقلبِ «عمر مَكرم» الواقف بالجوار، وقرر في تِلك اللحظة أن يترك مَكانه ويذهب بين الثوار.

تَرَجَّل لدقائق من أمامِ مَسجده ليذهب إلى شارع «محمد محمود» في النّاحيةِ الأخرى، دَخَلَ ثائِراً، يَشُمُّ الغاز ويَحْدِفُ الطُّوب ويَصيح مُحَفزاً بين الحين والآخر «الله أكبر»، فيزداد الناس أملاً وإيماناً، قبل أن يَؤمّ الشهداء في كُل موعد للصلاة، ويُذكرهم بأن الله الذي حَفِظَ إبراهيم من النَّار.. سيحفظ الثوار أيضاً.

لأيامٍ ظلَّ يَفعل ذَلك، يَدعو لحرارة في كُل وقت، ويُتابع أخباره من بعيد، ويحزن حَتى بياضِ العين حين يَعرف بأنه لَن يرى ثانيةً.

ولَم يَترك «عُمَر مَكرم» الشارع إلا حينَ علم أن حرارة نَزِل إلى الميدان، ليزيد من حماسِ ثواره ويقينهم، هَرْوَلَ الشَّيخ إلى الكَعْكَة، اقترب من الجَسَدِ ذو الوَجه المُبتسم، و«حرارة» لَم يَرَ.. ولكنه شَعر بمن يُقبّله فَوق رأسه، وحين حاوَل أن يُمسِك بيد المُقبّل، لَم يَشعر إلا بمسكٍ طَيّب الرَّائحة.
 



(2)
نَجِيب الذي تَرَكَ الكَنَبَة ونَزِل إلى الميدان



لم يَكُن «نجيب» مع الثورة حينَ قامِت، أو –في أفضلِ الأحوال- كان موقفه حيادياً ومتأملاً لما يحدث، كان مُكتفياً بما جاءَ في خِطابِ 1 فبراير، ويراه مثالياً، صَحيح أنه شَعِرَ بالفرح في لحظة التنحّي، ولكن ذلك كان لأنه يرى تِلك اللحظة، التاريخية دونَ شَك، وليسَ يقيناً بشأنِ الثورة ومسارها.

ظَلّ مُتابعاً لشهورٍ، يَشعر بالقلق أغلب الوَقت، يتذكر آفة النسيان في حارتنا، ويخافُ من الثورات يُنفذها الشُّجعان، ولكن الفائز في النهاية هم الدهاة والجبناء، يؤمن بالطَّرِف الثالث وبالأيادي الخفيّة، لذلك فهو لم يذهب إلى الميدان في أيّ مرة، وفضَّل أن يُتابع صامتاً، دون اتخاذ أي موقف.

وحده «رضا عبدالعزيز» هو الذي دَفَعَه للنزول، كان يَسمع لأيامٍ عن الاشتباكات الدائرة، عن العيونِ التي تّذهب، والشُّهداء الذين يَصعدون، عن الميدان.. وشارعه.. والحياة التي ارتدَّت فيهم، ويتابع الناس وهم يحتفلون –رغم خسائرهم- بما بدا أنها حرباً لحريّتهم، حتى عَرِفَ –عن طريق مقال «إبراهيم عبد المجيد» الذي داوَم على قراءته- بحكاية «رضا».

«رضا عبدالعزيز محمد زُهير» كما حَفِظَ اسمه، الشاب الصغير.. ضئيل الحَجم، الذي لا يزيد عمره عن 19 عاماً، الفقير، الذي يعيش في «عزبة الخصوص»، والذي أنهى وَردية عَمله يوم 20 نوفمبر واتجه نَحو الميدان، ليساهِم في نقلِ الجرحى، وأثناء إسعافه لمصابٍ.. اقتربت منه عربة أمن مَركزي.. وقامَ عَسكري بإطلاق الخرطوش على عَينيه، ليفقد «رضا» النّور كُله.

فَكَّر «نجيب»، بأن هؤلاء الفقراء هم مَن ظل يَكتب عَنهم، وأرادَ أن يُعرّف العالم بأجملَ ما فيهم، وأن شاباً صَغيراً عَرِفَ الإيمان لآخر ما يكون كان هو –ببساطة- «أجمل ما فيهم»، ما يَصلح –كما فَكَّر- لفصلٍ حادي عَشر في «الحرافيش» لو كان قادراً على الكتابة.

تَحرّك «نجيب» بهدوء من مَكانِه في ميدان «سفنكس»، مُستنداً على عَصاه، طَلِع إلى كُوبري «مايو»، ومَشى على كورنيش النّيل، حتى وَصَلَ إلى التحرير، وعلى الرغم من أنه لم يَدخل إلى شارع «محمد محمود» إلا أنه جَلَس في مُنتصف الميدان، بنظرٍ مُعلقٍ عَليه، وحينَ علِمَ أن «رضا» سافَرَ إلى ألمانيا لإجراء عَملية، قام بالدُّعاء كَثيراً، وقرر أن يَستقبله في المَطار حين يعود.



(3)
قلبُ «أم كلثوم» الذي لم يَحْتَمِل



حَيّها الهادئ في الزمالك لم يكن ينقل بدقة ما يحدث، فقط سَمعت بعض الكلمات المتناثرة على مدار أيام حول ما يحدث هناك في «محمد محمود»، وحول كونها اشتباكات ظنت أنها عادية.

لم تُدرك «أم كلثوم» ما يحدث إلا في يومِ تلك المسيرة التي مرّت أمامها في شارع أبو الفدا بعد أسبوع من بدء المعركة، كان المتظاهرون يضعون شاشاً على عينٍ من أعينهم، ويحملون صوراً كثيرة لرفاقٍ لهم أصيبوا في العينِ.

ابتسامة «مالك مصطفى» كانت أكبر مما يحتمل قلب أم كلثوم، صورته الشهيرة التي حملها رفاقه كانت قاسية، يسير قوياً بعد أن أصيب، مُبتسماً رغم كل تلك الدماء على كوفيّته، ويشعر النَّاظرين بالخَجَل والرغبة في أن نكون أقوى، فقط لأجلِ عينيه.

و«أم كلثوم»، التي لم تترك حَيها منذ سنين، نزلت بَين الناس، وَضعت هي الأخرى شاشاً على عينيها وثارت في المسيرة، وحين وصلت إلى الميدان.. ألقت السلام على نجيب الجالس في هدوء وهنأته على «نوبل» للمرة الأولى، ثم وقفت بجانب الدكتورة «رانيا فؤاد»، الشهيدة الوحيدة في الأحداث، لتصلي وراء «عمر مكرم» وبقية الشهداء.

وفي المساء، ورغم كل شيء يحدث، حافظ المصريون على عادتهم الوحيدة التي أبقوا عليها طوال عقود، وملأ صوتها سماء القاهرة من كل الراديوهات، وسَمعته مع السامعين.

الراديو كان يذيع «رق الحبيب»، والناس بدوا طَيّبين وبخير، نَسوا كل شيء إلا صوتها، وحين وصلت إلى الجزء الذي تقول فيه «حرمت عيني الليل من النوم لاجل النهار ما يطمني»، ظنّت أم كلثوم أنها سَمعتها «حرمت عيني من النور»، فابتسمت وأدمَعَت، وقررت أن تبيت بالميدان في تلك الليلة.


14 نوفمبر 2012

فإنَّكِ بأَعْيُنِنَا




في نُوفمبر من كُلّ عام.. أشاهِد فيلم The Best of Youth، عَمَل إيطالي أُخْرِجَ عام 2003، تَدور أحداثه خلال أربعة عقود، وفي سِت ساعات من الزَّمَن.


في المُشاهدة الأولى، 3 نوفمبر 2009، شاهدته من فَجْرٍ حتّى صَباح، أدرَكت أن ما من شَيءٍ مُبهر في الفيلم، حِكايات عاديَّة، متوسّطة الأهمية على الأغلب، تَسير بإيقاعٍ هادئ، وبانتقالاتٍ تَبدو ميلودراميّة في بَعض الأحيان، ولكنّ مع ذلك كان شروقاً بَدِيعاً ، اعتبرت فَتاة الفيلم هي أجمل فَتاة رأيْتُها رُبما، والفيلم نَفسه ضمن أعظَم ما شَاهدت.


بالنِسْبَةِ لي، كان عملاً مُدهِشَاً، لا يُحاول أن يَخْلِق دراما جَيّدة، كان يَطْمَح في الحقيقة إلى خَلقِ حَياة، ولذلك فمع مُضِيْ الوَقت.. الساعة الأولى رُبما.. أصبحتُ أخاً ثالثاً لبطليه، وفي الثالثة صِرْتُ أملِك الذكريات، وعند الخامسة بَدَا أن الرَّبت على الكَتِف مِن تِلكَ المَسافة مُحتملاً، مع نهاية الفيلم في التاسعة صَباحاً.. كَان مَعي حَياة، حتى لَحظات المَلل التي حَدَثت في المُنتصف.. ابتسمت وأنا أفكر بقولِ ابن سَلمى "ومَن يَعِش ثَمانين حَولاً -يا مُحَمَّد- لا أبا لك يسأم"، فبدا كم أن هذا فيلماً كاملاً.

لا أعلم هل أدركت حينها أم في وقتٍ لاحق أن عملاً كهذا، رغم كل شيء، ستزداد قيمته بالزَّمن، وبدأت –مُتعمّداً- في روتين مُحَبّب، استعادة الذكريات مع الأصدقاء القدامى، في زيارةٍ بنفسِ المَوعد كُل عام، كفتحِ ألبومات الصُّور، والأُنْس بالوشوش ودَقائق المَلامح، والسَّهَر للتاسعة صَباحاً حتى نَنَام من التَّعَب، وأستيقظ فلا يَمْسُوا بالجوار.


بعدها بيومٍ، في 4 نوفمبر، عَرِفتُ بروفايل "ندى" للمرةِ الأولى، نَدى مِتولي، "أخت مُصطفى مِتولي"، أحد شُهداء بورسعيد

لا أعرِف هل بدأ ذلك من الصورة التي وضعها عبد الرحمن، أم من صورة "محمد محمود" الأخرى التي قام الجَميع بتناقُلها، كل ما أعرفه أن ساعات من هذا الصّباح، وساعات كثيرة من صباحاتٍ تالية، قُضيت فقط على بروفايل نَدى.

كُنتُ أعرِف مُصطفى، أو –تحديداً- عَرفته بعد استشهاده، الصور المُتتالية بينه وبين "ماهيتاب" جعلته قريباً، جعلت ملامحه حاضرة دائِماً، وحين تحدَّثت معي في مرةٍ طَويلة عَن حُضرته.. صِرتُ أملك ذكرياتاً مَعه، كانت تأنَس بالحَكِي، وكُنتُ أأنس بشعوره قَريباً، وكانَ شهيداً.. يأنس بالذّكرِ.

لذلك، ألِفْتُ من البداية أن تتحدّث ندى عنه، لأنني أعرفه، بعض الوقت مَر في القراءة.. لأدرك بعدها أنها تراه حَيّاً، تَوقف التَّرتيل عند "بل أحياء..." وكَفى، ما كان يعني بالنسبة لها أن تتذكّره في كُل وقت، وتُحادثه كأنه موجود، وتحكي عنه كمن لم يزل حياً، ترتب غرفته في كل صباح، وتحكي له ليلاً عن ذكرياتِ اليوم، تُذكره بصيامِ الإثنين والخميس، وتحتفل معه في كُل عِيد.

ندى تَفعل ذلك بابتسامة عَظيمة، النَّاس يَبكون حَولها على الأغلب، يشعرون بحزنٍ شديد –تماماً كما شعرت وأنا أقرأها-، ولكنها تَبتسم، تُصدّق فعلاً أنه بالجوار، وتتأكد من ذلك في كل مرة تراه بأحلامها، ومر تِسعة أشهر وهي تُحادثه فتستبقيه، ولا يَذهب من حولها أبداً.

سنظل نَشعر بالحُزن كلما نقرأ كلامها إليه، ولن نفهم أن الله أنعَم على ندى الشعور بالشهداءِ أحياء، تأكّدت من ذلك حين قرأت حَديث الأستاذة نشوى، زوجة الشيخ عماد عفّت، وقت حَضرت وقفة الشهيد عِصام عَطا، "مُمْسِكَةٌ بِطرِف ثيابه، ومُرَفْرِف فَوقها" وتشعر أنه هنا، كان فصلاً عن رحمةِ الله الكريم الذي "يُطَبْطِب"، أردتُ أن أرسله لندى كَي يؤانسها، وحين دَخلت عِندها.. وجدتها وَضعت الحَديث وهي تسأل مُصطفى "مش بيفكَّرك بحاجة الكلام ده؟:)"


خَمسة أيَّام بعدها لَم تَكُن جَيّدة، قبل أن يَنتهي كُل شيء في صباح 9 نوفمبر، استيقظت، وكُنت أجلس مع أمي في الغرفةِ الأخرى من البَيت، عمر وعلي يستعدون للذهاب إلى الجامعة والمدرسة، والقرآن مُشغّل على التلفزيون كما جَرَت العادة، وللصُّدفة انتبهتُ إلى الآياتِ الأخيرة من سورة الطّور، واستمعتُ جيّداً.

كانت المرة الأولى التي أُقدّر فيها كم أن تِلكَ الآية من أجمل الآيات القرآنية، وأكثرها مؤانسة.

قرأتُ السورة كاملة، وبَحَثتُ بعدها عن أسبابِ النزول، لم يُذكر الأغلبية أكثر مما هو في مَتنها، نُزِلَت للحديثِ عن المشركين والمُنافقين، ورداً للبلاءِ عَن النَّبي، وَحده "جلال الدين السيوطي" أضافَ تفاصيلاً: اجتمعَ أهل قُريش في بداية الدَّعوة، واتفقوا على تَدبير خَديعةٍ للنّبي، القبض عليه ثم حبسه في وثاقٍ، وتركه كي يَموت ويَهْلَك كما هَلَكَ من قبلِه الشُّعراء،  فنزلت السورة.. طَمْأَنَة لمُحَمْدٍ –صلى الله عليه وسلّم- في كُلّ مَوضع منها.

ولكن آية منها لم تَكُن سلاماً على قلبِه كتلكَ الطَّمأنة البَدِيعة في الخِتام، "فإنَّكَ بأعيُنِنا".

 أفكَّر دائماً في الصورة الإنسانية للإله، ذلك الذي يُحب الشُّهداء، ويؤانس أقربائهم، ذلك الذي ابتلى أنبياءه الأقربين أكثر من غَيرهم، وكم كان مُحباً لهم كبشرٍ، درجة التواجُد في الأعين، درجة تَوثيق ذلك في كِتابِه، كي تكون مؤانسة دائمة لمَن يَرى، "اصْبُر".. "فإنَّكَ بأعيُنِنَا" و"لَسَوفَ تَرْضَى".

كان صباحاً طَيّباً، لم يَفُت فيه الكثير من الوَقت قبل أن أجُدُ رسالةً طيّبة مِنْكِ


منذ عام، أو يزيد، كُنت أكثر جرأة في التعبير عمَّا أشعره عَلناً، شريف كان يرى أن هذا ليس من الصوابِ في شيء، لأن الحياة لا تبقي الأشياء على حالِها، ووقتها تُصبح الذكريات المُوَثقة أكثر إيلاماً لكافة الأطراف، ولكن ليس هذا هو السبب في الجرأة الأقل، لأن الذكريات لا تُنسى على كُل حال، وتِلكَ العابرة التي تتذكرها في الطريق إلى العَمْل، مثلاً، أكثر قسوة بكثير من بوست قديم على مُدَوّنة، تعرف عمّن كُتِب وماذا كُنت تشعر نَحوه حينها، كل ما في الأمر أنني صِرت أقل جرأة عموماً.. هكذا دونَ أسباب.

منذ عام، وحين أعودَ على "التايم لاين" في الفيس بوك للتوثق من بعض الذكريات الخاصة بمحمد محمود، أجد أن الكثير من الأشياء تغيَّرت دون أن أتغيَّر أنا كثيراً، فضل كان في الحِج حينها، كُنت أشاهد أفلاماً عَظيماً، أقرأ رواية عن أم كلثوم وأكتبُ جواباً، أراسِلِك يومياً حين كُنتِ مُكْتئبة كي أستبقيكِ بالحياة وأؤكد على ما يَربُطِك بها، هُناك جملة عَظيمة وجدت أنني كتبتها عنك في 6 نوفمبر 2011 ونسيتها تماماً حتى عُدْت.. كانت «لأن المسافة بين القاهرة ونيويورك تكون أحياناً أقصر كثيراً مما هيَ عليه».


بعدها كانت أيام «محمد محمود» العَظيمة، وإبراهيم أصلان الذي عرفته من جديد في أوقات الهُدنة بين الاشتباكات، كان هُناك «ستاتس» آخر كتبت فيه «لمّة الشوارع ونومة الأرصفة»، ابتسمت من جديد وأنا أسترجع ذلك.

كانت أياماً نوفمبرية عَظيمة، هادئة رغم كل شيء، وأعتقد أنني سأتذكر أيامي النوفمبرية الحالية بعد عام بنفسِ الأوصاف، يحيى تِلكَ المرة من كان يَحِج، وشاهدتُ أفلاماً عظيمة، عرفتُ رَبيع جابر، وسَمِعت أم كلثوم –كالعادة- أكثر مما سمعت أي بَشريّ آخر، ولازالت المسافة بين القاهرة ونيويورك أقصر مما تبدو أحياناً، وأنتِ لازلتِ تِلك الفتاة الطيّبة والبديعة التي عرفتها حينها.

لا أعرفُ لماذا أحكي لَكِ كُل هذا، لم أُفكّر، فقط على مدار الأيام الماضية عرفتُ أنني سأكْتُب لكِ اليوم، «لأجلِ هِبَة» كما تُحبّين، وأردت أن أحدّثك عن الفيلم، وندى، وصباح الآية الكريمة، وتِلك الأيام النوفمبريّة قبل عام، وعَنْكِ أيضاً، فَحَدّثتكُ، ولم أحاول أن أجد رابطاً، ليس ذلك بالأمرِ الهام.

أفكر الآن فقط بما أخبرتِك به كثيراً، عن أن الله كان دوماً بجوارِك، بطولِ المَسافة من السعودية إلى أمريكا، فالأقدار -رغم كُل شيء- تَكون طيّبة مَعِك.

وأفكّر أيضاً بأنني لا أعلمُ شيئاً عن المُستقبل، التجربة تُثبت أن البشر أغلب كثيراً من الظّنِ بمعرفةِ أي شيء عن الآتِ، ولكن الذكريات هامّة، الأهم في الحقيقة، ما يُبقيه الناس بداخل بعضهم، وما لَكِ دَوماً كان كبيراً.

ومَبْلَغ القول يُمكن أن يكون تِلكَ الآية التي آنَسَ بها الله عَبده الأقرب، «فَإنَّكِ بأَعْيُنِنَا» يا هِبة، بكل ما تحمله الكلمتين من طَمْأنَة ومؤانَسَة ومَحَبَّة، «فإنَّكِ بأعيُنِنَا».

كُونِ بخيرِ دَوماً يا أعزّ الناس

14 نوفمبر 2012
السابعة صباحاً بتوقيت القاهرة- الثانية عَشر بتوقيتِ نيويورك

11 سبتمبر 2012

ستة أمثال عن انتصارِ الرّوح: أو ما يتبقى من الناس بعد ذهاب المؤانسة


في البدء: ست حكايات عن المؤانسة


(1)
مَثَل الشيخ المَجبور





كَثيرون لَم يَفهموا، على الرَّغمِ من استفاضةِ الجرائد في الشَّرح، كَيفَ أن خِصام دام لثلاثةِ عَشر عاماً قد انتهى بخطبةٍ من قاضٍ وجملةٍ من شيخ؟

في البدء كان الشّيخ على حق، حين رأى أن له عائداً مادياً في الإسطوانات التي بيعَت لأغانٍ من ألحانه، وكانت الأنجح ربما خلال الأربعينات

والسّت، رأت أن خلافاً مادياً لا يجب أن يجعله يتجاوز العِشرة، أمانة العيش والمَلح على أصحابِهم، ويَسِر إلى "القصبجي" و"السنباطي" بالتوقُّف عن التَّلحين لها حتى تُزيد أجرهم، ثم يُصَرّح عنها للصّحفِ والجرائد، وكأن خمسة وعشرون عاماً من الرّفقة قد ذهبت سُدَىّ

كان كُل منهم بحاجة إلى تَطييبٍ للخاطِر، ولكن سنوات من العند والخِصام لم تُزد كل منهم إلا جموداً، وتبتعد الأيام القديمة –حرفياً- مع كل يوم يَمُر

كان زكريا يجلس على مقهاه المُفضَّل، مع "أهل الهوى"، يَرى صوتها وهو يملأ سماء القاهرة، وألحانه في المُقابل تَندثر وتُنسى بعيداً عنها، يَغْلُب من مُصالحة رَوحه، ثم يَكادُ يَنكسر حين يسمعها تغني كلمات "بيرم" من ألحانِ غيره، فيُهَدْهَدَ نفسه بالآهاتِ والأمل

والسّت في المُقابل لَم تَنْسَ، ولكن طِباعها العَنيدة والصَّلبة مَنعتها من جُبران خاطِره وهي في موقفٍ أقوى، خصوصاً حين التجأ إلى القضاء واتَّسَع الأمر أكثر، فأقسمت ألاَّ تَتَراجع، واكتفت بغناءِ الألحان القديمة في كُل مَرَّة افتقدت فيها لوجودِ الشيخ بالجوار

وكُل هذا قد انتهى في صُبَيْحَة يوم عادي من عام 1960، حين ذَهب كلاهما إلى المَحكمة، وأمام القاضي "عبد الغفار حسني" الذي ظَلّ يُحاول تَطْييب ما تركته الأيَّام لساعتين أو يَزيد، حتى نَطَقت السّت بكونها تُقدّر زكريا كثيراً وترتاح إليه، فردَّ الشَّيخ بأنها أعزّ الفنانات إلى نَفسه ولا يَقدر على مواصلة التقاضي مَعها، بَكَى وبَكِت، وبدا أن ثلاثة عَشر عاماً من الخِصام كانوا أهون كَثيراً من حُسْنِ الخاطِر المَجبور

خلال البقية الباقية من عام 60، اتفق الشَّيخ مع السّت على أن يُلحّن لها ثلاث أغنيّات، ولكن لَم يُمهله العُمر سوى لأن يسمع أغنية واحدة أخيرة لها منه.. وربما كان مَبلغ المَثَل في كَونها الأعظم: هو صحيح الهوى غلاّب؟

وكثيرون لم يعرفوا كيف انتهى خِصاماً طويلاً بخطبةٍ وجُملة، ولكن الإجابة كانت في السؤال.. الهوى غَلاّب



(2)
مَثَل الابن الضَّال



تِلك الليلة الباردة في باريس عام 2006 لابُد وأن لها دَخلاً في كُل ما جَرى بعد ذلك، "هنري" كان ينظر إلى "بيريز" الذي يخرج من الملعب بعد سبعة عشر دقيقة فقط من نهائي دوري الأبطال، يَشعر بثقل الخَيبة على وجهة بعد أن ظلوا لسنواتٍ يطاردوا هذا الحُلم مَعاً وفي النهاية لم يُمنح حتى بعض الوقت، الأسمر كان يُدرك أن تِلك المباراة لو لم تَنته بالفوز ستكون النهاية لأحد أعظم الأجيال في تاريخ كرة القدم

"فينجر" في المقابل لم يستطع النّظر في عيني "بيريز" مطلقاً بعد إخراجه من المباراة، ورغم يقينه الذاتي بأن ما فعله كان الصواب، لكن أحداً لن يفهم أن طرد حارس مرماك بعد ربع ساعة من النهائي الذي انتظرته لسنوات قد يدفعك لخيارات قاسية، ليست خيارات مُفضَّلة بأيّ حال

خَسر أرسنال النهائي في الدقائق الأخيرة، بيريز لم يَلعب بقميص النادي مرة أخرى، وهنري عَلم أن عِقد الفريق الأسطوري الذي فاز بالدوري دون خسارة قد بدأ في الانفراط، ذلك الذي حدث أسرع مما يظن

اعتزال "بيركامب"، وخروج "فييرا" ثم "بيريز" و"كامبل" و"لورين" في نفس الصيف، جَعل "هنري" يَمشي وحيداً في كُل مباراة، يَشعر بأنه يجب عليه أن يحمل ثُقل 10 لاعبين آخرين لأن الأنظار دائماً ستوجّه نَحوه، حِفنة من الأطفال يُنتظر أن يكون لهم أكثر من مُجرَّد قائد، مُلهم ومُخَلّص في كل مباراة، ما الذي يُمكن أن يبقيك هُنا؟ هل من الممكن أن تحقق شيئاً؟، يتوجه بهواجسه إلى "فينجر" بوضوح: "هل ستشتري أحداً هذا الصيف؟" ويُجيب المُعَلّم الفرنسي بأن "هؤلاء الفتية يَكبرون، يجب أن يشعر فلاميني وهليب وفابري وبيرسي بالثقة، بأن أرجلهم مُثبّتة في الأرض"، يُفاجئ هنري بأنه سيتخلى حتى عن "جيلبرتو" و"ليونبيرج" ليكتمل شعوره بالصحراء وَسط العُشب الأخضر، لماذا إذن لا يَقبل عَرضاً من برشلونة؟ ذلك الخِصم الآخر في نهائي باريس، "لقد أصبحت في الثلاثين، أريد على الأقل الحصول على دوري الأبطال"

رَحَل "هنري" إلى الجنوب، تاركاً وراءه إرثاً ضخماً لأعظم سنوات عُمره، ومن جَديد شعر بالغربة، كابنٍ ضال تلاحقه الوجوه المألوفة للوَطَن، صرخات الإنجليز الهيستيرية في المدرجات أو القسمات الحادة لوجه "فينجر" العجوز، كل ما لم يكن موجوداً في كتالونيا كان يُلاحقه، ورغم حصوله على دوري الأبطال بعد ذهابه بعامين إلا أن ذلك كان أقل من فوزِ مباراة واحدة هامة مع الأرسنال

في الموسم التالي أصبح "هنري" احتياطياً، كَهل في الثالثة والثلاثين لا يُعامل بالاحترام الكافي بعيداً عن الأهل، والأمور كانت تسوء مع أرسنال بالتوازي بفريقٍ لا ينضج، وظل هو –رغم العَتَب والغياب- رمز جماهيره الأول، ابن ضال فَضَّل الرحيل ولكنه في النهاية يَظَل ابناً، تُنتظر عَودته كالحلم، ويذبح له العِجل المُثْمِن إن جَاء، وهو ما حدث ليلة 31 مارس 2010، وفي الدقيقة 75 من مباراة الأرسنال وبرشلونة، الزيارة الأولى لهنري إلى ملعب الإمارات، حين نَزَلَ بديلاً، يشعر بالغربة من جديد وكأن كل الأرض قد صارت ضيّقة، لولا أن انتشلته تِلك التحيَّة العظيمة لستين ثانية أو يزيد، وقف فيها الجمهور كاملاً ليستقبله، مُحتفياً بأثرِ العِشرة مَهما تَهون، قوياً ومؤازراً ويصرخ باسمه حتى وإن كان غريباً، ليصبح الضيف أهلاً من جديد ويذوب الجليد في صَدره ببطءٍ

بعدها بعام عاد هنري إلى أرسنال لمدة شهرين أشبه بالحلم، وكأن الأيام عادت للوراء، وعند رحيله ثانيةً، إلى أمريكا هذه المرة، كان يعلم أن هناك وَطناً ينتظره مهما ابتعد، ولم يَعُد الضال ضالاً بعدها أبداً 



(3)
مَثل الصديق الخائن




"عندما يخونك صديقك يجب عليك أن تَرد، افعل ذلك"، تِلك هي الطريقة التي كان "ماكس" يرى عليها الأمور، ولكن ما استكانَ إليه "نودلز" في النهاية كان الخيار الوحيد الصائب الذي اتخذه طوال حياته.

في العمل الأخير للمخرج "سيرجيو ليوني"، والذي استغرق فيه 14 عاماً من عمره حتى يُخرجه إلى النور، يتجلَّى في جانبه الأعظم جزئية نادراً ما اكتملت سينمائياً بتلك الصورة، وهي الذكريات، أن تكون جزءً من التجربة ولستُ مشاهداً لها، أن تتورَّط تماماً في الماضي الذي يحمله الشخصيات على عاتقهم، وتتفهم –لدرجة المُعايشة- كل خياراتهم وردود أفعالهم.

في الفيلم، تَدور الأحداث في قرابة الخمسين عاماً، نُشاهدها في أربع ساعات على الشاشة، و"نُعايش" أجزاءها الأهم، ولذلك فما يحدث في الساعة الأولى من زمن الفيلم
/السنوات الأولى من حياة الشخصيات، يتحوَّل في نهاية الساعة الثالثة –بعد أن صاروا كهولاً- إلى جانبٍ أساسي من ذاكرتنا وذاكرتهم، نُصبح مُثقلين به معهم درجة اتخاذ نفس القرارات.

"ماكس" الذي أَوهم "نُودلز" بكونه مَيتاً وتركه ليضلّ بعيداً يَصف الأمور بدقة عن "عينيك المغرورقتين بالدموع لدرجة أنَّك لَم تَر أنني الشخص المحروق على جانب الطّريق"، ويُجمل ما حدث بذات الوضوح "أخذت منك كل شيء، حياتك كلها، ولم أترك لَك إلا 35 عاماً من الحزن لأنك قتلتني"، التساءل بعدها يأتي في مَحله "لما لا تُطلق النار؟".. لما لا تَنتقم عزيزي "نودلز"؟

الإجابة لا يمكن أن تكون مُقنعة إلا بمُعايشتها، تِلك اللحظة التي يتوجّب عليك اتخاذ قرارات تؤثر على بقيَّة حياتك، إما أن تَنصر رَوحك أو تُلطّخها، "نودلز" كان يَعلم في تلك اللحظة تحديداً ما يتوجَّب عليه فعله، أن يَحفظ ما تبقى له، وأن يحفظ نفسه قبل كل شيء، ربما لأن خيانة الأصدقاء لا تُرد بالانتقام، ولكن بمساحاتِ النَّدم التي تتركها لهم.

يسأله "ماكس": "هل هذه هي طريقتك في الانتقام؟"

رُبّما كان الأمر كذلك، ولكنها أيضاً الطريقة التي أرى بها الأمور



(4)
مَثل يوسف وأخوته


هُناك العديد من الأسباب التي تجعل سورةِ "يوسف" هي المُفضَّلة عند مُعظم المصريين، الجانب القصصي الواضح والممتد من مَطلع السورة حتى آخرها، الحكايات المُتداخلة عن خيانة الأخوة والأب الثَّكِل والابن الضال دون اختياره، البلاغة القرآنية في لحظةِ الإغواء وقتامة جدران السّجن المُغلق لبضع سنين، ثم انفراجه بَعد ضيق، بسبعِ سنوات عجاف وسبعَ سُنبلاتٍ خُضر، وصولاً لتأويل الرؤى وسجود الشَّمس والقمر وأحد عشر أخاً.

ورغم ذلك، فإن السبب الأهم من كل هذا هو كونها سورة مثالية للمؤانسة، بالحُزنِ قبل أي شيء، وبانتظار تأويل الرؤى حتى عند اليأس، هِي سورة الرَّبت على الكَتف والبِشر بالصَّبر الجميل.

ومن بينَ كُل لَحظات الشدّة المُتتالية على مدارِ القَصَص في السورة، تَبدو لَحظة افتراء الأخوة على "يوسف" بعد اجتماعهم هي اللَّحظة الأقسى، عشرون عاماً أو يزيد قد مَرّت، هُناكَ الرَّمي في البئر والحِرمان من الأبِ والعَشيرة والبقاءِ ضالاً كغريبٍ حتى إن عُرِف، ولكن شيئاً من هذا لم يَكُن كتلك اللحظة التي رَأوه فيها دون أن يعرفوه، وافتروا على سيرته كذباً وقالوا "فقد سَرَقَ له أخٌ من قبل"، وكأن هذا هو ما يأتِ به ذكره طوال ما خلى من سنين، وكأنَّهم قد صَدَّقوا حِكايتهم حتى صارَت حقيقة بالنسبة لَهُم، فكان الأمر عليه أسوأ من غيابةِ الجُبِّ

ويوسف أَسَرّ الحُزنِ في نفسه، لم يُبدهِ لهم، وَضعه بجانِب كُل تِلك الرؤى التي تَنتظر التأويل، مُوْقِناً أن الله قَريب

أربع عشرة آية أخرى.. كان الأخوة يَطلبون الغُفران لأنهم خاطئين، فاكتفى المَكلوم بالعَتَب "هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه؟"، قبل أن يَرْحَم في آيةٍ تالية هيَ الفَصل في انتصارِ الرَّوح .. يُخبرهم فيها ألاَّ تَثريب عَليكم اليوم، وما يَتبقى منكم هو قميصٌ يُلقى على وجه الأب الكَظيم حتى يَرتد بَصِيراً، ويأتون إليه جميعاً.. يَعقوب كالشَّمس والأم كالقَمر والأخوة أحدَ عَشر كَوكبا، فتكتمل الرؤية والحَمد، ولُطْف الرَّب ولو بَعد حين


(5)
مَثَل الخير لأنفسكم


كُل واحدٌ منكم لَديه نَبْتَة صَالِحة، يَرويها كل يوم كي يحميها من الدَّهر، فإن أتى له أخٌ يُدنّسها، أيذهب وراءه ليؤذيه؟، أم يتركه ويجلس بجوارِ النّبتة حتى يُطَهّرها؟، أقول لَكم: هكذا يكون الفرح في السماء، بروحٍ لا تَقبل الدَّنس، وتترك المُدَنِّس ليشقى في البرية

وفي هذا أيضاً مَثل "الرفقة الصَّالحة"، كُل منكم يَمشي سنيناً في وادي الظُّلمات، ألا يُحيط نَفسه بمن يَعرفون المَسِير ليرشدونه إن ضَلّ؟، إن هذا إلا خير تقدّموه لأنفسكم فتجدوه

***

بالمثلِ، كانَ الشيخ الذي جُبِرَ خاطره بكلمةٍ حَسَنة، والجمهور الذي أبقى الضال ابناً إن جاء، الصّديق الذي لم يخسر نفسه حتى عند الخيانة، والنَّبَي الذي غَفَر لأخوته فاكتمل التأويل، جَلَسوا بجوارِ النّبتة حتى تُطَهَّر، لتفرح السّماء بخيرٍ لأنفسهم


(6)
مَثل قوسين يُغلق أحدهما الآخر


في البدءِ تكون الحكاية، الحياة التي تُعاش، المَحَبَّة المُطلقة غير المشروطة، مِثالية البدايات التي لا يبدو وراءها نهاية، ثم شدّة التجارب التي تَصهر كل شيء لتُظْهِر حقيقته

والحكاية حين تَكْتَمِل تُصبح مَثَلاً، ما بقى فينا من الدَّهر، وما مَر بنا من تجربة، نَكبر بها ونَنْضُج، وإن لم تُدَنَّس أرواحنا فإننا سَنَصير أشخاصاً أفضل

لذلك فالحكايةِ والمَثَل هُم قَوسين، تبدأ الحياة أحدهم وتُغلقه بالآخر، ورغم الخسائر التي تذهب في المسافة بين القوسين، ولكن يَنبغي في النهاية أن نَفرح ونُسَر، كالرجل الذي كان أعمى يوماً ثم رأى، طالما بَقى لَنا وفينا كل ما خُفنا يوماً من فقدانه

الآن يُغْلَق القوس ويَكْتَمِل المَثَل.

03 سبتمبر 2012

19 أغسطس 2012

عن انتصارِ الروح وجبران الخاطِر



لأجلِ رَوح هبة وخاطِرها
.
.
.

الله، حينَ خَلَقَ الكَون، أوجَدَ كُل الحياة في النّهار، هو الحَركة والعَمل، جِيئَة الناس وذهابهم، هو النُّور الذي يَنبع من السماء، وفي المُقابل.. فإن اللّيلِ هُوَ الظُّلمة، السّكون والنَّوم، هو الوُحْشَة.. لا لمَن سَهِروه ولكن لِلّيلِ نَفسه الذي يَخلو فيه العالم من الحياة.

لذلك، فإن الله حينَ شَرَّع العبادات.. جَعَلَ ناشِئة اللّيل خَير أوقات العِبادة، أمر النّاس بقيامه، وتَرتيل القرآن فيه، وخَصَّه بخيرِ الطَّاعات. كان الله يَجبر بخاطِر الليل ويَنتصر لروحه.

وبالمثلِ، فإن الله قَسَّم الحياة على أماكِنها، أوجد المُدن والرّيف لمعيشة الإنسان، خلقَ الغابات التي يرتادها رغبةً في حيواناتٍ تَسكنها، البحر كان لأسماكه، والنَّهر ليشرب منه، كل الأماكن مُرادة، إلا الصحاري.. يَمُر فوقها عابراً ويرغب في الانتهاء منها كي يَصِل بين أرضين للحياة.

لذلك، فإن الله قد اختص الصحاري بالنَّفطِ أكثر من غيرها، ليرتادها الإنسان ويَسكنها. والله بذلك كان يَجبر بخاطِر الصحراء ويَنتصر لروحها.

بينَ الناس، جَعَل الله جُبران الخاطِر وانتصار الرَّوح بينهم وبين بَعضهم، أنتَ شَخص جَيد.. ليسَ لأجلِ نَفسك ولكن لأجلِ الناس، أنتَ لو سَقَطت ستكسر جانباً من خاطِرهم الذي رَجَاك، ورَوحهم التي عُلّقت بك، أنتَ جبران الله للخاطِر وانتصاره للروحِ.

وبالمثلِ أيضاً، فإن الله قد جَعل فيكَ الحَسَن، وحينَ اشتدَّت الظُّلمة أظهره وأوضحه، ليؤانس تِلك البنت التي دَعَت بأن يعود الغائِب إن كان فيه خَيراً من الله. والله أعاده. بصدقٍ في كُل ما جَرى، ليجبر بخاطِرها ويَنْتصر لروحها في نَفسِك.

وما يتبقى من انتصارِ رَوحك هو أن تَدَع ما يُريبك إلى ما لا يُريبك، تترُك القبيح في مُقابل الحَسَن، وتَذْهَب بالخيرِ عن الشّر، أن تَنْظُر لتسعةٍ وتسعين لازلت تَمْلكهم، ولا تَذهب وراء ضال لن تَجده، وأن تَحْمَد، تَحْمَد كثيراً، لأننا –رغم كل شيء- يَنْبغي أن نَفرح ونَسُر، لكونِ أخاكَ هذا كان ميتاً فعاش، وكان ضالاً فُوُجِد. ولأنّكَ كِدتَ تَموت فَعِشت، وكِدت تُضَل فوُجِدت. ولأنّ الله ظَل دوماً بالجوارِ، يخبر الخواطِر المَكْسورة ويَنتصر للأرواحِ النّقية.

27 يوليو 2012

أيام "شاهين" الستة


في البدءِ خلق الله السماوات والأرض، ستة أيام ثُم فَرغ، ورأى كُل ما عَمله حَسن جداً، وفي المُنتهى.. تَبقى روح المرءِ مُعلّقة، لأيام ستة أيضاً، تنظر إلى ما عَملت في سنينٍ عدّة، قبل أن تصعد إلى السماء.

وبالمِثلِ كانت روح «يوسف»، بدأت بغَيبوبةٍ كاملة لمدّة شهر ونصف بين مستشفيات القاهرة وباريس، مُعافرة ومُناطَحة من يأبى مُغادرة الحياة التي ملأها صَخباً لثمانين حولاً دون أن يَسأم، وفي النهاية أصبحت الرّوح مُعلّقة: بين هذا الجسد الغائب في فراشه ويترك فيه حَيزاً غائراً بطولِ ما بقى عليه، وبين كُل ما تركه قبل تِلك اللحظة التي جاءَ فيها هُنا، بنزيفٍ حاد في المُخ وقلب مُعتل من أثرِ السنين وعمليتي القلب المفتوح اللتين أجراهما.

شاهين لَم يَكن يَشعر بشيء وفي ذهنه لم يكن هناك إلا أحلام يرها لأفلامٍ لم يحققها، مُحبُّوه في المقابل تمنوا أن تستمر حياته أبداً، وأن يكون الأمر كوباء «الكوليرا» الذي تناوله في أحد أعظم أفلامه: يَصمد لستة أيام ضد المرض ثم يَعيش، أما الرَّوح ذاتها فكانت تتجوَّل بين إرث الأيام قبل أن يُقضى الأمر بالحياةِ أو الموت:



اليوم الأول: 14 نوفمبر 1948

الصَّقيع لم يَكن مُحتملاً في تلك الليلة الشتوية، ولكن دفء قَلب الفتى الصّغير والهَش للحظة التي انتظرها طوال عامين في بلادِ بعيدة لم يجعل جسده يشعر بشيء، فقط كان يرى الدخّان الأبيض الخارج من فمه، ويبتسم في سعادة وهو ينظر إلى البحرِ المُمتد ويفكر في أن ساعات قليلة تفصله عن شاطئ الإسكندرية من جديد.

كان «شاهين» يحمل على كتفه شنطة صغيرة بها ملابس قليلة، إلى جانب الكثير من الأحلام التي صارت قريبة من التحقق، تِلك التي احتمل لأجلها قَحط الثلاث سنوات الماضية منذ انتهى من الدراسة في «فيكتوريا كوليدج»، وصولاً للجري بأقصى ما يستطيع وراء السراب الممثل في السفر إلى أمريكا لدراسة السينما، ثم مُعجزة أنه استطاع اللحاق به، وسافر، وفي حين اعتقد أن الجزء الأصعب قد انتهى.. كان في الحقيقة قد بدأ لتوه، مواجهة حقيقة أنه صغير جداً بالنسبة للعالم من حوله، أنه فتى مصري صغير وفقير وغريب في بلادٍ غريبة، وأن هناك الآلاف مثله يحلمون بالسينما والأفلام والتعلم، ولكي يُصبح شيئاً فإنه بحاجة إلى الوصول لأبعد من السراب الذي لحقه قبل وقت قليل.

تِلك الأحلام فقط هي التي جعلته يحتمل، تِلك التي كان يعبئها بداخل حقيبته كل ليلة، حلماً وراء حلم، ويكبر الفتى بداخله بالتجربة ليعرف الكثير عن الحياة، أن يعرف الفارق الضخم بين ما يستطيع أن يفعله.. وما يريد أن يفعله، ويذهب كل مرة وراء الثانية، أن يزداد إيماناً بضرورة أن يكمل المَسير مهما كان الطريق أطول من اعتقاده أو احتماله أو مؤنه القليلة التي حملها، أن يفكر دائماً فيما سيحدث عندما يعود وفي الآمال التي تعلقها عليه العائلة، أن يجد في أمريكا إجابة السؤال الذي سمعه على لسان جدته وهو في الرابعة من عمره حين مات أخيه الأكبر: «مش كان الصغيَّر هو اللي مات؟»، والأهم: أن تكون الإجابة «لا».

لم يستطع من فرطِ الحماس أن ينام في تلك الليلة، وراح يتنقل على سطحِ السفينة بخفة ورقص، يجلس مع كل شخص وجده مستيقظاً ليحكي له عن الإسكندرية وعن رائحة البحر التي لا تشبه فيها أي مدينة أخرى، تبدو أسئلتهم في المقابل أكثر عقلانية مما يحتمل قلبه المنطلق «ماذا تعلمت هناك يا يوسف؟».. «ماذا تعلّمت هناك؟»  يرددها على مسامع نفسه، الكثير من التقنيات بالتأكيد، كيف يخلق الصورة وعن مفهوم الجمال فيها الذي سيختلف في كل مرة، «تعلمت أيضاً كيف أحكي الحكاية، كيف أروي الحدوتة بشكل جذاب»، ثم «ماذا تعلمت أيضاً يا يوسف؟».. ربما أهم شيء تعلمه هو «الإحساس»، وهو أهم ما جذبه للسينما من البداية، كيف تضع جزءً من روحك في كل فيلم تصنعه، كيف يبدو الأمر كأنك تنظر في المرآة، الذكريات الصغيرة والتفاصيل والأسماء، كيف تصبح الأفلام هي ذاكرة حياتك وحياتنا لشدّة التصاقك بها، «كان هذا أهم ما تعلمته» قالها يوسف للسيدة اليونانية العجوز التي كان يحدثها حين لاحظ أن الإسكندرية قد بدأت تظهر في الأفق.

صعد إلى أعلى نقطة يستطيعها في السفينة، وصرخ بأقصى ما يستطيع، وكأنه ينادي المدينة فعلاً كي تسمعه، المدينة كلها بتلك الشوارع والبيوت والدكاكين التي عاش بينها وفيها، وراجع للمرة الأخيرة كل ما يحمله.. هناك هاملت وشكسبير وجين كيلي وفريد إستير والموسيقى والرقص، هناك سينما، الكثير من السينما المُختلفة والتي يعرف جيداً أن أحداً لن يقدمها في بلاده غيره.

كان يوسف يشعر في تلك الليلة أنه أحضر العالم في قلبه من الجهة الأخرى كي يزرعه في شواطئ مدينته، ولن ينتظر طويلاً كي يرى الحصاد.





اليوم الثاني: 15 أغسطس 1961

كم هي المسافة بين الأحلام العظيمة التي تَصل حدود السماء والإحباطات التي تدفن كل شيء دون رحمة؟ ما هو الفارق بين الفتى الذي عاد يحمل العالم في قلبه ويريد أن يغير وطنه وبين الكهل الأربعييني الذي غيره هذا الوطن وأغرقه في الواقعِ المُر الذي لا يسمح لأي حلم أن يتنفس؟، كم عام مر لتدرك يا يوسف أنك مازلت صغيراً جداً أمام هذا العالم؟

تلك هي الأسئلة التي كانت تدور في رأسه بعد أن انتهى لتوه من مكالمة مع «سميرة أحمد»، بطلة ومنتجة فيلمه الأخير «رجل في حياتي»، تخبره بأن الفيلم لم يدر عليها أي دخل، أغلق الهاتف في هدوء وهو يشعر بنغزة معتادة في قلبه، حتى مع كل التنازلات التي قام بها.. فالحصاد كان فشلاً جديداً.

ومع كل فشل كان يتذكَّر ليلة «باب الحديد» التي لن ينساها، ثلاث سنوات مرت ومع ذلك كانت كل التفاصيل لازالت واضحة: الجمهور الذي كَسَّر قاعة العرض، الفيلم الذي رُفع بعد ثلاثة أيام من عرضه، منتجه الذي كاد أن يفلس وأخبره أنه لن يتعامل معه مرة أخرى، النجوم الذين أعرضوا عنه في حال ظل على هذا «التعقيد» الذي لن يفهمه المتفرجين، وكان الأهم: تلك «البصقة» الغاضبة من أحد المتفرجين والتي بدت كنهاية للعالم، عالمه على الأقل.

مَسح يوسف بيده على وجهه وكأنه يحمل عجز الدنيا
كله، طفل تائه لا يعرف أين يذهب أو ماذا يفعل، يتذكر كل مواجعه وآلامه وكأنها تتجسد من جديد وتخرج له لسانها، يتذكر سؤال جدته المُحَمَّل بالتمني «مش كان الصغير؟» ولا يجد الإجابة، ربما كان أفضل أن يموت.

لن يفهم أحد ماذا عنى «باب الحديد» له، كيف أحال بينه وبين «الموت» ولا شيء أقل من ذلك بعد أن فقد الحبيبة لشخصٍ فَتي، وكل ما كان يريده هو أن يتكلم، وحين لم يستمع أحد، بل ونهروه لمجرد التعبير عن آلامه، عاد الموت من جديد، إعياء كامل لأسابيعٍ طويلة، يمر فيها بكل ساعة وهو يفكر أنه لن يستطيع أن يكمل للساعة القادمة، وفي النهاية استسلم تماماً، سأصنع تلك القصص التي تريدونها، سأحكي الحواديت، من أحب ومن تزوج ومن شُلّت ومن أصبحت راقصة، لابد من نجوم كما يريدهم الجمهور.. لم لا؟ برلنتي عبدالحميد أو نادية لطفي أو شكري سرحان أو أحمد رمزي أو سميرة أحمد كعمياء في ميلودراما مفجعة، ألا تريدون الخيرِ خيراً مطلقاً والشر شراً مطلقاً؟ لما لا؟ طالما سيسعد الجميع

والحقيقة أن أحداً لم يسعد، وحمل هو كل الحزن وحده، فشل وراء الآخر، ثلاث سنوات هي الأسوأ، حتى مضاعفة عدد السجائر التي لم تعد تنطفئ ليس كافياً ليعبر عن احتراقِ روحه كل يوم.

حتى مشاهدته للقطات التصوير بين المعابد في «صراع في الوادي» لم يكن يؤانسه، حتى تذكره كيف سهر مع المصور «أحمد خورشيد» حتى الصباح لكي يضعوا عدة مرايات تعكس ضوء الشمس للتصوير بداخل مقبرة فرعونية، حتى عشقه لأداءه في باب الحديد أو لمشهد الطوفان في ابن النيل أو حب الجمهور لـ«جميلة بوحريد» التي اخترعها دون أن يرها أو يرى الجزائر، كل هذا لم يكن كافياً ليشعره أنه فقط مخرجاً جيداً، آلاف الكادرات تتزاحم كشريط المونتاج في رأسه والسؤال الأكبر الذي يراوده «هل لكل هذا قيمة؟».

كان يشعر لمرةٍ جديدة أن العالم سينتهي في تلك الليلة وما من صباحٍ، الهاتف يرن من جديد، ويكاد قلبه ينخلع، ولكن ما حدث بعد عدة دقائق أن الروحِ عادت إليه.

كانت مكالمة من «عز الدين ذو الفقار» يطلب رؤيته، والسبب: إخراج فيلم «صلاح الدين» الذي يحضره ذو الفقار منذ سنوات ويحول المرض بينه وبين إكماله ويريده هو تحديداً أن يخرجه، حاول شاهين الاعتذار لأنه ليس «فيلمه» و«لا يعرف شيئاً عنه» والأهم -الذي لم يقله- أنه لا يحتمل فشلاً جديداً سيقضي حتماً على حياته، رد ذو الفقار في هدوء أن «كل مخرجي مصر يسعون لهذا الفيلم ولكن أعتقد أنك الوحيد الذي يستطيع إخراجه بصورة جيدة»، ورغم أن شاهين لم يكن مقتنعاً بعد إلا أن الجملة التالية فقط كانت كافية لإقناعه، لأنها في الحقيقة ما كان بحاجة لسماعه في تلك اللحظة، حين أوضح ذو الفقار سبب تمسكه به: «لأنك أفضل مخرجي مصر».

أغلق شاهين الهاتف بموافقة مبدئية وموعد مع ذو الفقار والسيدة «آسيا» منتجة الفيلم، عادت كل الأحلام لتحتل الغرفة، أخذ يفكر في مشاهد بعينها سيخرجها، وأنه سيصنع فيلماً تاريخياً يضاهي أكبر أفلام هوليوود، في العائلة التي ستفخر به والمهرجانات التي ستكرمه وفي الناس الذين سيعاملونه لأول مرة كـ«مخرج كبير»، وأن تلك هي «الفرصة الأخيرة» كي يخرج من بئر الفشل والإحباط الذي سَقط فيه ويعود للعالم الذي مازال يحمله في قلبه، أشعل السيجارة الأخيرة في علبته وابتسم برضا لأول مرة منذ زمن وفكر في أن الحصاد تلك المرة سيكون مختلفاً.




 اليوم الثالث: 10 مايو 1970

كالعادة لا يستطيع البقاء في صالة على شاشتها أحد أفلامه، خصوصاً لو كان العرضِ الأول، يُشعل السيجارة الخامسة من العلبة التي اشتراها قبل دقائق من الدخول، ويتحرك جيئةً وذهاباً في الطُرقة الخارجية للقاعة التي تعرض الفيلم بمهرجان «كان»، يحاول أن يتلمَّس أي رد فعل من الجمهور على ما يشاهده، ولكن لا شيء، فقط صوت فيلمه وموسيقى علي إسماعيل.. الكورال وهو يغنّي «الأرض لو عَطشانة» والتترات وهي تنتهي لتوّها، ليبدأ الفيلم.

«الراجل أبو سويلم ده مش هيجيبها لبر أبداً، بيحفر قبره بإيده، أخرته وحشة»

أدرك شاهين أن الوقت المتبقي لكي يعرف رد فعل الناس مازال طويلاً وسيصبح جحيماً إذا ظل يسير في الطرقة بهذا الشكل كالمجنون، جَلس في مكانه وأسند ظهره إلى الحائط وحاول أن يهدأ: لقد انتهيت لتوّكَ يا يوسف من أعظم أفلامك، أنتَ تعرف ذلك وليرى العالم بعد ذلك ما يرى، فهم لا يعلمون ماذا عنى لك، لا يعرفون شيئاً عن قضاء الأيام وسط الفلاحين لكي تسرق تفصيلة من هنا وهناك، لا يعرفون شيئاً عن الجلوسِ في «الأرض» بالساعات وملامسة طينتها كي تصدق ما تتحدث عنه، لا يعرفون شيئاً عن إعادة تصوير كل لقطة عشرات المرات حتى تصل إلى ما تتخيَّله، وهم –حتماً- لا يعرفون شيئاً عن مشاعر الخزي والضعف والخيانة والخوف التي كانت تُحركك أثناء إخراجه، مشاعر النكسة.

«البقرة وقعت في الساقية.. الحقني يا عبدالهادي.. الحقوني»

الأمر يبدو واضحاً بالنسبةِ له، إذا كان «باب الحديد» قد صنع رداً على الموت، فإن «الأرض» قد صنع رداً على الهزيمة الأشبة بالموت، هزيمته الشخصية، لا تحتاج إلى أن تكون مسؤولاً في الدولة أو حتى جندي في أرضِ سيناء كي تشعر بأنّك أحد المتسبّبين فيها، يكفي فقط أن تكون في ذات الوقت بالجنوب تصنع فيلماً كـ«الناس والنيل» عن «مجد السد العالي» و«الشراكة المثمرة بين مصر والإتحاد السوفييتي» كي تشعر بأنك فعلت ما هو أسوأ: تزييف وجدان الناس وتصدير ما هو غير حقيقي، حتى لو كنت أنتَ نفسك مؤمناً به، «الناصر» صلاح الدين؟ «الناصر» كان منتصراً فأين نحن الآن من الانتصار؟ أين نحن الآن من «الثورة» التي بدأت –كبداية كل شيء- هادئة ورائعة؟

كل مرة سار فيها في الشارع ورأى رؤوس الناس المُنَكَّسَة، كل مرة لاحظ أنهم لا ينظرون مباشرةً في عيون بعضهم، كان يُدرك أن لديه شيئاً يريد أن يقوله، بدافع من الذنب نعم ولكن أيضاً بدافعِ من الإيمان، أن تلك ليست النهاية وأنَّكم -أنتم- الثورة والحياة كلها، لذلك يجب أن نتمسَّك بالأرض، ونؤمن أنها ستعود ولو بعد حين، أدمع للحظاتٍ وهو يستمع لصوتِ «أبو سويلم» من داخل القاعة:

«على أمل تيجي يا شيخ حسونة وتنفخ في صدورنا نصحى من جديد نصحى من جديد»

كان يريد أن يَنفخ الرَّوح، في نفسه قبل أن يكون في الآخرين، ويتذكَّر جيداً تصوير هذا المشهد تحديداً..  أراده بعثاً للحياة، ثلاثة دقائق وعشرون ثانية دون أن تتوقف الكاميرا لأنه لا يريد للمونتاج أن يقلل من حماسة وحميمية اللحظة، عشرون مرّة أعاد المشهد مع المليجي، في كل مرة كان الأستوديو يصفق ولكنه يريد أكثر، ينظر في عين ممثله وهو مدرك أنه سيفهمه، وفي النهاية.. حين وصل إلى اللقطة التي يريدها لم يصفق.. ذهب إلى المليجي وقبَّل يده وبَكى بشدّة، لأن الرّوح كانت قد عادت إليه مع نهاية المشهد وأدرك أن ذلك سيكون شعور كل من سيشاهده.

ورغم ذلك، رغم كل شيء، كان شعور الذنب مازال مسيطراً عليه، والغضب اتجاه نفسه واتجاه جيله كله، اتجاه «المثقفين» الذين كان يجب عليهم أن يكونوا في صف الشعب، وإذا بهم يندمجون تماماً مع رؤية وكاريزما السلطة، ويمارسون تناقضاً مُدهشاً بين ما ينادون به وبين ما يفعلونه، يذكرونه بالقصة التي حكاها له «نجيب محفوظ» قبل سفره إلى «كان» عن الشقيق الذي قتل شقيقه التوأم ليعيش حياتين، أحدهم وسط مجتمع السلطة والآخر وسط الناس، بوجهين، مثلهم كان ولا شيء يمكن أن يغفر له ذلك، حتى مشاهد الدماء التي تسيل على القطن الأبيض، حتى يد «أبو سويلم» المسحول التي تتمسَّك بالأرض، حتى شعور الرفض والحماسة و«الثورة» الذي يتركه الفيلم بداخل الجمهور الذي سَمعه هو الآن، في تلك اللحظة تحديداً، يُصفّق بعنف بعد نهاية «أفضل أفلام دورة المهرجان» حسبما قال له أحد النقاد الفرنسيين الذي خرج ليبحث عنه.

دخل القاعة بخطى خجلة، يستمع لتعليقات كلها إيجابية، صديقه «مارسيل مارتن» يخبره أن هذا الفيلم «فتحاً للسينما العربية»، «كلود ميشيل» كان يقارنه بفيلم «أندريه روبلوف» للروسي «أندريه تاركوفسكي» كملاحم عظيمة وصارمة، و«جيرارد كونستابل» قال له أنه «أعظم فيلم سينمائي شاهده في السنوات الخمس الأخيرة على الأقل»، والأهم من كل شيء كان التصفيق الذي لم يتوقف، من مشاهدين فضل أغلبهم أن يقف احتراماً لما انتهوا منه لتوهم.

خلال البقية الباقية من تلك الليلة ظل يوسف وحيداً في غرفته يزاوج بين مشاعر اليأس والأمل فيما هو قادم، بين الإيمان والكفر بما يمكن له سينمائي أن يفعله في وجدان جمهوره، يشعر بالرضا والفرحة وحلم ملامسة الجائزة الكبرى للمهرجان نعم.. ولكن في مقابلها كان يفكر أنه رد على الهزيمة في «الأرض» ويتبقى له الآن أن يفهم لماذا حدثت، والمؤكد أنه شعر بالثقة كي يقول ما يريد بالشكل الذي يريد لأول مرة منذ «باب الحديد»، سيتوقف عن سردِ الحواديت دون أن يخافَ الناس، لن يخاف بعد الآن سوى من نفسه التي سيقابلها في نهاية الرحلة، في نهاية الرحلة الطويلة.








اليوم الرابع: 27 يناير 1978

لم يكن مُضطراً -على غير عادته- أن يعيد كل مشهد عشرات المرات، خصوصاً في المشاهد التي جمعت هذا الفتى الصغير بالمليجي، كان الأخير قد أصبح ركناً دائماً في أفلامه، وصار مع طول العشرة الممتدة -لعشرين عام أو يزيد- يفهمه ويشعر بإحساسه منذ اللقطة الأولى، ولكن ماذا عن هذا الفتى الصغير، المُدهش، صورته الصغرى في المرآة، الحلم الأخير الذي تحقق فجعل لكل الأحلام الأخرى معنى.

كان في اليوم السادس من تصوير عمله الجديد الذي يتناول فيه سيرته الذاتية بشكلٍ مباشر بعد وقت طويل من وضع جزء منه في أعماله السابقة، حين قام بتصوير هذا المشهد، مشهد بسيط يجلس فيه «يحيى» مع والده «شكري مراد» على الشاطئ، الأخير يصطاد والأول يخبره أنه لا يريد دراسة الهندسة ويفكر في دراسة السينما، كان الأمر يمر عادياً حتى رأى هو تلك النظرة، شَعر برعشةٍ قوية بداخله، كأن الأيام قد عادت للوراء، نفس النّظرة ونفس الشعور ونفس طريقة النُّطق والتّهْتَهة، كان المليجي يبدو كوالده بالمللي، و«محسن» يتجسد تماماً بالشكل الذي كانه هو يوماً.

يفكر في تسمية الفيلم «إسكندرية ليه؟!»، و«ليه؟!» هذه هي الحكاية كلها، البحث والتفكير في زمنه وجيله والنقطة التي بدأ منها كل شيء، جيل الثورة والأحلام العظيمة، ثم الانكسارات والنكسات العظيمة أيضاً، يجب أن يفهم ثم يتصالح كي يكمل حياته بصورة أفضل، يجب أن يحدث الناس بصوتٍ عالي كي يفهموا معه، ليس نرجسية وليس لأن سيرته هي المهمة، ولكن المهم هي سيرة جيل كامل.

بدأ كل شيء بعدما انتهى من ثلاثيّة الهزيمة، بعد أن حاول يفهم وبصوتٍ عالٍ أيضاً كيف حدثت، كيف خان المثقف مجتمعه وصار صوتاً للسلطة في «الاختيار»، وكيف ازداد الفساد بداخل السلطة نفسها لدرجة غير مسبوقة أدت للهزيمة في «العصفور»، ومن نهاية الأخير التي كانت صرخة رفض جديدة –بعد نهاية الأرض- ترفض الخضوع والانكسار وتؤكد «هَنْحارب» بدأ عمله الأخير «عودة الابن الضال» لكي يجد إجابة سؤال «ماذا بعد؟» والتي كانت في جيلٍ جديد يتحرَّر من الماضي بكل ما فيه وبكل ما يحمله من أحلام وأشباح، ينظر إلى الأمام ويخلق مستقبله الذي يغيّر كل شيء.

وبعدما انتهى من كل هذا، من السؤال الذي حيَّره لمدة عشرة سنوات «لماذا انهزمنا وانهزم جيلنا كله؟» شعر بأنه فرغ، خواء كامل، وفكّر في الاعتزال لأنه صار في عامه الخمسين ولا يجد ما يقوله، قبل أن يخرج من داخله صوت عميق ويخبره بأن لديه الخمسين عاماً كاملة، حكايته وحكاية زمنه وحياته والبذر الذي أنبت كل ما عايشه لسنواتٍ طويلة، لذلك عاد وقرر أن يحكي ويقول، وما كان ينقصه وينتظره هو هذا الفتى ولا شيء آخر، وفي اليومِ السادس من التصوير أدرك قيمة ما امتلكه الآن.

عين «محسن» التي حملت نظرة يوسف في عمره جعلت كل الأحلام التي ظن أنها فاتت تعود من جديد، فرصة ثانية لكل شيء، صار هناك معنى لأن يحكي سيرته طالما هناك من يمثّله بذلك التطابق، يفكر في احتمالية أن يصنع فيلماً يهديه إلى «جين كيلي» ويملأه بالغناء والرقص، ويشعر للمرة الأولى أن «هاملت» الذي تمنى أن يجسده يوماً بات قريباً للغاية.

كان الأمر أشبة بأن تُبعث ذاتك التي كنتها في العشرين من عمرك أمامك من جديد، لتصحح بها كل الأخطاء التي ارتكبتها، وتحقق كل الأمنيات التي فاتتك مع مرور السنين، كان الأمر عودة بالزمن وتدفُّق للدماء إلى القلب ورجوع الأحلام كي ترقص في الغرفة من جديد، لفرطِ الحماس لكل شيء، ولكل الأفلام التي آن لها أن تُصَوَّر.

صرخ يوسف «قفشتها» لينهي هذا المشهد، كان ينظر إلى «مُحسن» وهو يتحرّك في الكواليس ويشعر بعظمة المعجزة التي تحدث له الآن، ويفكر بامتنانٍ أنَّك تستحق ذلك يا يوسف، لطولِ الصبر وكثرة الآلام والظلم والجروح التي لا تحتمل، يَطيب وجدانك للمرة الأولى منذ سنوات بعيدة وتجري وراء الأحلام في رأسك كي تحققها كلها، ينظر في الورقة في يده ويجد اسم «هاملت»، ربما يجب أن يكون ذلك هو الفيلم القادم.






اليوم الخامس: 18 مايو 1997

الثقل الذي يشعر به في أذنه ويزداد مع مرور السنين جعله لا يسمع «إيزابيل إدجاني» حين نطقت باسمه، لَكزة خفيفة من «جيل جاكوب» -رئيس مهرجان «كان» المنتظر- نبهته إلى اللحظة الأهم في حياته كلها.

ولكن لم يكن الثقل الأذني فقط، كان في الحقيقة كل تلك الأفكار والذكريات التي غرق فيها طوال الساعات الماضية، تلك التي عرف فيها أن المهرجان سيكرمه بجائزة الدورة رقم 50 عن أعماله، عن حياته كلها.

كان يجمع بداخل رأسه كل الأشخاص الذين رغب بتواجدهم في تلك اللحظة، يجمع كل الآلام واللحظات المُرَّة ويفرقها بين كراسي القاعة، يجمع المنتجين والممثلين والجمهور، يأتي بالرجل الذي بصق في وجهه ليلة افتتاح «باب الحديد»، والآخر الذي شتمه وقت عرض «الاختيار»، يجلب المدرس الذي ضربه بعنف حين كان طفلاً، ورئيسه في العمل الذي سخر منه حين أخبره برغبته الدراسة في أمريكا، أن يبعث بروح والده المتوفي ووالدته إلى الحياة من جديد، يجيء بحبيبته القديمة التي تزوّجت نجماً سينمائياً، وممثله الذي تركه وفرَّط في كل الأحلام، أن يحضر كل حياته بدقائقها وتفاصيلها وناسها هُنا في تلك القاعة الصغيرة، ويخبرهم أن يروا.. ها أنا قد أصبحت مرأى العالم بعد أن حملته في قلبي لسنينٍ عدّة.

فكَّر في أنه قد وصل إلى هُنا حين بدأ التصالح مع كل شيء، وأمضى الكثير من الوقت كي يحدث هذا، حتى الجرح الذي لم يندمل برحيلِ «محسن» عنه، أفرد له فيلماً كاملاً.. يقسو على ذاته، ويختبر أوهامه، ويحاول أن يفهم، أن يرى المستحيل في صور، أن يحقق كل شيء لمرةٍ أخيرة، أن يرقص ويغني ويعود للإسكندر وكليوباترا، أن يجمع الحياة كلها على شريط فيلمه، والنتيجة كانت مذهلة.. «إسكندرية كمان وكمان» صالحه على نفسه، ككهلٍ وعجوزٍ جاوز الستين يعلم أن النهاية ستحين في أي لحظة ويعلم أيضاً أنه سيكون راضياً.

لكزة «جاكوب» تلك، والتي رافقها سماعه لدويّ التصفيق في القاعة، أخرجته من أفكاره، تحرَّك في خطى بطيئة تليق بالعَجائز، صَعد إلى المسرح، ونظر إلى الجميع، صفوة سينمائيي العالم يقفون ليصفقوا للرجل الذي صاحب مصر من وراء الكاميرا لخمسة عقود، وللدَّهشة والخجل وضع يده على فمه بساعدٍ مُرتعش دلالة على أنه لا يجد الكلمات، وحين نطق لم يسعفه سوى وصف وحيد «أشعر بالفراشات وهي ترقص بداخل بطني».

في تلك الليلة وجد يوسف إجابة السؤال الذي أرقه لعقود طويلة، يكادَ يسمع صوت جدته وهي تقوله:«مش كان الصغير هو اللي مات؟»، وللمرة الأولى يستطيع أن يجيبها: «لا، لم يكن، كان يوسف يستحق الحياة».




اليوم السادس: 8 يوليو 2007

العَجز، إنه العجز ولا شيء سواه، أن تظل بجسدك هنا ولكن كَكَومة لَحم عَجوز، غير قادرة على تغيير شيء، تُراقب فقط من بعيد، تجلس على كرسي المخرج الذي يحمل اسمك دون أن يكون ما يحدث أمام الكاميرا هو حقاً فيلمك، ولكن –رغم كل شيء- هناك فقط هذا المشهد، هذا المشهد الأخير.

يوسف كان يعرف قَسمات وجه الموت، وقد رآه قريباً، وبدأت الحكاية حين أراد أن يكون فيلمه الذي يعلم بكونه الأخير يحمل اسم «نهاية النظام»، ويعبر من خلاله عن كل الحراك السياسي الذي جرى في مصر خلال السنوات الأخيرة وأمنيته
/نبوءته بـ«ثورة»، الفيلم صار يُسمى «هي فوضى»، ومع تغيير الاسم تغيّر كل شيء آخر وبصمة تلميذه الذي أبقاه بجانبه لسنوات قد مَحت بصمته هو نفسه، وما تبقى منه فقط هو تلك النبوءة الختامية: «نهاية النظام».

في هذا اليوم.. صور يوسف المشهد
الأخير له في حياته، النبوءة التي كان يراها في خياله رؤى العَين: شعب يتحرّك ويحاصر قسم الشرطة ثم يقتحمه، ويسقط عقوداً طويلة من الظلمِ والقهر، النبوءة التي كان يراها في خياله ثورية وتجعل لكل ما عاشه وقدمه وأخرجه في حياته معنى.

في اليومِ السادس، صَعدت الرَّوح إلى السماء بعد جولة في حياة كاملة.

ويوسف مات، وبقيت النبوءة.

26 يوليو 2012

أيام العَجب والموت


في أيامِ العَجب والموت، يَنقطع الشَّاعر عن شعره، وينكفي كموظفٍ في الأرشيف، يَتوه في الشوارع التي يعرفها، ويَدوخ إن مَشى فيها خطوتين أو ثلاث، فيفرد ذراعيه لا رغبة في الطيرانِ ولكن خوفاً من الوقوع

في أيامِ العَجب والموت، تغيب مَلامح الأصدقاء القُدامى، وترى الدنيا من وراءِ ستار كالأعمش، فتخاف النظر في أعينِ النّاس

في أيامِ العَجب والموت، يَستند الوالد على ذراعِ المَولود، وتُمحى التواريخ من تراويس الجرائد، ولا يبقى من الوطن إلا بعض الأسطر والمشاعر القديمة

في أيامِ العَجب والموت، كان هو، أو كُنا نَحنُ، من أثرِ الدَّوخة والإعياء، نَسْتند بحياءٍ على الحوائط عند صعود السّلم، ونَسْمع نَعي الأحباء في الرَّاديو أثناء المرور من أمام بيت الجيران، نَقبل الظُّلم اللي في الأشياء ونصبر على الشكوى كي لا تكون لغير الله

في أيّام العَجب والموت، "أمشي زي الخنفسة والبد/جنب حيطة في رُكن عَ السّلم/الحَجر الأصفر بيتألم/فيه أثر للعِشْرة مهما تهون"*

في أيامِ العجب والموت، تأبى الدقائق أن تنقضي، ويبدو أن العالم سينتهي .. هنا والآن

*فؤاد حدّاد/أيام العَجب والموت (1980-1982)


23 مايو 2012

كان 2012: انطباعات ما قبل المُشاهدة



الأمر في النهاية يتعلَّق بالتأريخِ الذاتي ، أريد العَوْدَة بعد عِدة أشهر ، قراءة ما كُنت أتوقعه أو أتمناه ، ومقارنته بما حَدث فعلاً ، مُحاولة لِحفظِ الإنطباعات والذكريات أكثر من أي شيء آخر:



.

.

.








07- "Killing Them Softly": القَتل برقّة

08- "You Ain't Seen Nothin' Yet": حِكاية مُخرج في التّسعين

09- "Cosmopolis": مصّاص دماء الرأسماليَّة

10- "Reality": فيليني يُبْعَث من جديد

11- "Holy Motors": وجوه كاراكس السبعة

12- "بعد الموقعة": ريم ومحمود وفاطمة



17 أبريل 2012

خمس حكايات قصيرة عن "الست"


لأجلِ هِبة
 .
.
.

أنا لَمَّا حَبّيتَك خَطَر على بالي


تَقول الحِكاية ، أن النّاس اشتروا تذاكر الحفل الأخير لأم كلثوم ، والذي سيُقام في فبراير 1973 ، وحينَ لم تَعُد قادرة على مُغالَبَة مَرضها ، والحِفاظ على صورتها ، "السّت" ، بكُلّ ما تَحْمَله الكلمة مِن كَمَالٍ ، قرّرت إلغاء الحَفل ، وقامت الشركة المُنَظّمة بفتحِ شِبّاك التذاكر ، لإعادة ثَمَنها إلى الجمهور ...


(1)

واللّي هَوِيته اليّوم دايم وصاله دوم


يَذْكُر عارفو الشيخ "أبو العلا محمد" ، أنه كان شديد الخوف على أم كلثوم ، ويتوقّع لها حياةً قصيرة .

كان هو واحداً من أهم المُجددين في الموسيقى العربية مَطْلَع القرن الماضي ، من أوائِل من أدركوا أهمية التوافق بين الكَلِمَة واللّحن ، وكانت هي الفتاة الريفية ، التي تمتلك صوتاً عظيماً ، رآه الفرصة الحقيقيّة بالنسبةِ له كي يُعيد الغناء العربي إلى تُراثِه ، ويَبعث الرّوح في الموسيقى الشرقيّة بعد قرون كادت فيها أن تَنْدَثِر .

والشّيخ كان يؤمن أن الألحان يُنْشِئها الرّجال ، لكن يُجَوّدها النِساء ، وأم كلثوم كانت بالنسبةِ له أعظم المُجَوّداتِ من نساءِ العَرَب ، ولذلك كانَ يَخافُ عليها ، ويَعتقد أنها لن تُعَمّر في الحياةِ كثيراً ، لأنها ، كَما قال ، "تُغَنّي بدمها" ، تَحرق نفسها في الغِناء ، بكل رَوْحها .

لم يرها وهي ، في مَرحلةٍ لاحقة ، تُغنّي بكلّ جُزء في جسدها ، يَدها ، وجهها ، حركتها ، تَضْحَك وتَبكي مع كل كلمة تَنطقها ، لَم يَر ، ولكنه كان يعلم مُبكراً ما هِيَ عليه .

لم يَمر وقت طويل قبل أن يُصاب الشيخ بالشلل في عُمرٍ صغير ، توقف عن الغناءِ والتلحين ، ومُتابعة مشروعه مع أم كلثوم ، اكتفى فَقَط بأن أطلقها ، ساعدها في البداية ، وبقى معها لخمسِ سنوات ، ثم تركها وهو يعلم إلى أين سَتَصِل .

والشّيخ مات ، وبَقت السّت .


(2)

وإيه يفيد الزّمن مع اللي عاش في الخيال


ذاتَ يوم ، بعد أربع سنوات من لقاءهم الأول ، جَلَسَ أحمد رامي وقرّر أن يَكْتُب لأم كلثوم كُل ما يَحمله قلبه نحوها ، ويُحَاول أن يصل إلى نهايةٍ واضحة لكُلّ هَذا ، ولَم يَقُم من على كُرسيه حتى انتهى ، وفي الصّباح ذهبَ إليها يَحْمِل كِتابَه ، وقرأ عَليها "إن كُنت أسامح وآنسى الأسية" ، وحين وَصَل إلى "اوعى تجافيني يا نور عينيّ أحسن بعادك يهون عليّ" ، أدمعت عيناها .

في وقتٍ قريب من هذا الصباح ، نَظمَ القصبجي لَحناً مُدهشا للكلماتِ ، وأم كلثوم وَضَعت فيها جُزءً من روحها ، لتغنّيها على المسرح أول مرة ، فيُرَى الحضور وقد مَسّت في كُل منهم ضالاً يُلاحقه ، حُلماً لا يَكْتمل ولا يُترَك ، فأصبحت أنجح أغاني العشرينات كُلها ، وباعَت ، حين طُرحت على إسطوانات ، رُبع مليون نُسخة ، وكانت هي اللحظة التي أصبحت فيها "السّت" على القِمّة التي بقت عليها للأبد .

وليست الحِكاية هُنا عن نجاحِ الأغنية ، أو صعود أم كلثوم ، ولكنها عن رامي ، الشاعر الذي بقى مُحباً لخمسين عاماً أو يَزيد ، والذي لم يَكُن سعيداً حين وَقف مُشاهداً نجاح "إن كُنت أسامح" في المسرحِ أول مرة ، وهي تَمَسّ في الحضور وتراً موصول بجرحٍ عند كل منهم ، لأن ، ببساطة ، كانت هذه هي آلامه هو ، وجراحه هو .

وما قد يُرى من تِلك الحِكاية ، هي الصورة الأسطورية عن "أم كلثوم" ، المُتْوَحَشّة ، التي جَمَعت مُحبّيها حَولها ، تَمُص دَمُهم ، مجازاً ليس بعيداً عن الأسطورة ، من أجل البقاءِ على القمّة .

ولكِن ، أم كلثوم ، التي ظَلّت لا تُغنّي أي قصيدة لشاعرٍ حَي لسنواتٍ طويلة ، حفاظاً فقط على شعور رامي ، أسمته "شاعرها وخلِيلُها" حين سُئِلَت عما يعنيه بالنسبة لها ، أم كلثوم التي لَم تُحِبُّه ، ولكنها لم تُبدِ في أي وقت عدم احترام لمحبّته ، وتركت له حريّة القُربِ والبُعد دوماً .

أم كلثوم لم تَكُن مَصَّاصة دِمَاء ، وإلاّ لما بَقى كُرسي القصبجي فارغاً بعد وفاته ؟


(3)

هُوَ انتَ تِقدر .. تِقدر تِسلاني ؟!


القصبجي أحب أم كلثوم ، لأن الجميع يُحِبُّون أم كلثوم ! ، الجاذبيّة الأنثويّة الخاصة التي تَحملها ، الخَلِيط المُدْهِش بين الكِبرياء والدَّلَع ، ما يدفع الرّجال ، ليس فقط لأن يحبّونها ، ولكن أن يفضّلوا دوماً البقاءِ بقربها ، مهما بدا ذلك قاسياً وصعباً .

ولَم يَكُن القصبجي يَعلم أن "رق الحَبيب" ، من أواخِر ما سيُلحنه لها، بعد عشرون عاماً من الرّفقة كان فيها أعظم مُلحنيها ، ولكنه مع ذلك أخرج فيها كُل ما يعرفه عن الموسيقى ، وعن العِشقِ ، ثُمَ نَضَب ، أو رأت أم كلثوم ذلك ، وظَلّت على مدارِ سنوات تُشجّعه على مُحاولة التّلحين لها ، ثُمّ ترى أن ألحانه صارت مُفتقدة للبصمة التي مَيّزته .

كانت أم كلثوم لا تَطِيق الفَشَل ، ولذلك لم تَرِد المُخاطرة ، بقى بجانبها أستاذاً ومُعلماً ، كما وَصفته دوماً ، مُديراً لفرقتها ، وعازف العود الوحيد ، سَيّد عازفي العود في القرنِ كاملاً ، ولكنه لم يُلحّن لها منذ نهاية الأربعينات .

مات قصب في مارس 1966 ، قَبل أن يَحضر أعظم نَجاحات أم كلثوم ، في الحفلة التي تَلَت وفاته مباشرةً ، حينَ غنّت "الأطلال" لأولِ مرة ، كان كُرسيه فارغاً لا يَحمل سوى عوده ، والفرقة ظَلّت خالية من عازِف لأربعِ سنوات كاملة ، وحين سُئِلَت "السّت" ، أجابت بأن الكُرسي خالٍ من جسده فقط ، ولكنها تَشعر بروحه تُصاحبها دَوماً أثناء الغناء على المسرح ، وتشعر بالرّهبةِ منه .


(4)

وإن مَرّ يوم من غير لُقياك ...


بنهاية الأربعينات ، بدا وكأن رياض السُّنباطي قد تَسَلّم أم كلثوم يداً مِن يَدِ الأساتذة ، كانت قد توقّفت عن الغِناء للقصبجي ، وجرى الخِصام الطويل بينها وبين الشّيخ زكريا على خلافٍ مادِي ، لم يَبْقَ غير السّنباطي ، وكان كافياً .

طوال الخَمسينات ، لَم تُغَنّ أم كلثوم سوى سِت أغنيّات من غيرِ ألحانه ، والأبعد من ذَلِك ، أنه كان يُدَقق في ألحانِ غيره ، لأن الوقت جَعلهما لا يَنْفَصلا ، لَم يَعُد يُلَحّن لغيرها ، دونَ حُب القصبجي الذي أفقده رَوحه ، ولم تَعُد تغني لغيره ، إلاّ فيما نَدَر .

مع بداية الستّينات ، أدركت أم كلثوم أن الوقت يَمُر ، وأن المِياة تَجري ، وأنها يَجِب ألاّ تَشِيخ ، لذلك فقد قرّرت أن تبدأ مَرحلة جديدة ، تقترب بها أكثر من رَوحٍ شبابية ، مثّلها شِعراً عبدالوهاب محمد ومرسي جميل عزيز وأحمد شفيق كامل ومأمون الشناوي ، ومثّلها لَحنا بليغ حمدي .

والسّنباطي لَم يَكُن راضياً عن كُل هذا ، وجرى الخِصام القصير بينهم مَطلع الستينات ،و الذي امتد لعدة أشهر ، بعد رَفضه تَلحين أغنية ذات كلمات مُبتذلة كـ"حُب إيه" ، بل ورفضه لغناءها لها لأن ذلك لَيس من قيمتها ، ومُهاجمته لِلَحنِ بَليغ ، الذي لا يَلِيق بـ"السّت" .

صالحته أم كلثوم لاحقاً ، وبقى بالقربِ ، ليس مُلحناً وحيداً ، ولكن ظل الأكثر كَثافة ، ورأيه هو الأهم فيما تُغَنّيه ، رُبما لَم يَكُن راضياً عن "سيرة الحب" و"ألف ليلة وليلة" ، بالتأكيد كان يغضب ، مثلي ، من "الحُب كله" و"حَكَم علينا الهَوى" ، ولكنّه في المُقابل لَحّن لها "لسه فاكِر" و"ليلي ونهاري" و"القلب يعشق كُل جميل" ، أعادَ تقديم "أراكَ عَصِيّ الدّمع" بلحنٍ مُدْهش الجَمال ، وهو ، قبل كُل شيء ، قَدّم لها "الأطلال" .

وحِينَ رحلت أم كلثوم ، لَم يُلَحّن السّنباطي بعدها ، عجوزاً كان يَخْجِل من البُكاء ، تَرَكَ العود لستِ سنواتٍ بقت في حياته ، ومات بالرّبوِ عام 1981 ، قبل أن يَصِف كُل ما مَرّ به لسبعة عقود أو يزيد بأن "قصة حياتي هي أم كلثوم" .


(5)

يورد على خاطري كُل اللي بينّا اتقال


كان هُناك بيرم والشّيخ زكريا ، ولاحقاً صار هُناكَ محمد عبد الوهاب ، مَرّ صلاح جاهين وكمال الطويل ومحمد الموجي ، الشوقيّات التّسع ، وقصيدة ناجي العَظيمة ، وفي كل هذا كانت هِيَ ، "السّت" وكَفَى .

.
.
.

...... والنّاس ، الذين اشتروا تذاكر حفلها الأخير ، لم يَرُد أي منهم تذكرته بعد إلغاءه ، وبقى الجميع مُحافظاً على مَكانِ كُرسيه ، بانتظارِ عودة "السّت" لإقامة حَفلها من جديد .

وما تبقّى من كل هذا هو الحِكاية الأهم ، صوتها الذي يملأ شوارع القاهرة كُل لَيلة ، ويُشَكّل جُزءً من رَوْحِ المدينة ، العادة التي أبقى عليها المصريين رغم تغيُّر كُل شيء آخر .