04 أبريل 2009

فجرُ قديمٌ مستعاد


إلى ... ياسمين

( 1 )


الأمر بسيطاً حتى وإن بدا مجنوناً أو – في أحيانٍ أخرى – ساذجاً : يحدد رقم تليفون ما عن طريق تواريخ الأفلام التي يحبها ، ثم يرسل له رسالةٍ قرب الشروق ، رسالة لا تحوي الكثير ولا يعرف هو نفسه قبل لحظة إرسالها ماذا يمكن أن تحوي ، ربماً بيتاً من الشعر .. أو جملة من رواية .. أو أخرى من فيلم .. ذات مرة أرسل ترنيمة موسيقية مميزة بالأحرف .. وفي مرة أخرى أرسل كلمة واحدة ( هتعدي ) ، أحياناً ما كان يفتح كتاباً في يده بشكل عشوائي ويرسل أول جملة تقع عليها عيناه حتى وإن لم يكن لها معنى واضح ، مستنداً في ذلك كله على سبب قد يبدو هشاً وقد يبدو بالغ القوة : القدر لا يعبث

بدأ الأمر تحديداً حين أرسل ذات مرة رسالة لصديقة ، انتظر حينها رداً لم يأتِ ، ولكن بعدها بعدة ساعات رن هاتفه برقمٍ لا يعرفه .. اعتاد دائماً ألا يردّ على الأرقام الغريبة لذلك لم يرد في المرةِ الأولى .. ولكن في المرة الثانية نظر إلى الرقم أكثر فوجده رقماً مميزاً جداً ، لا لتشابه أرقامه ولكن لكونها تحمل – بتتابعها – تواريخ ثلاثة أفلام يحبها بشدة .. أحدهم أعاد مشاهدته بالأمس ، ابتسم واعتقد أن هذا سبباً كافياً ليرد ، جاءه صوت بنت لا يعرفها أخبرته بأن هاتفه قد بعث لها برسالة منذ عدة ساعات .. استغرب ثم اعتذر .. ردت قائلة "لأ بالعكس أنا اللي عايزة أشكرك" ، بعد المكالمة اتصل بصديقته مستغرباً وأخبرها بما حدث كله وأن الرسالة قد وصلت لرقم آخر رغم أنه جاء برقمها من ذاكرة الهاتف .. كانت مجنونة مثله .. تؤمن بأن حتى اللا معقول له معناه .. فأخبرته بلهجة تتراوح بين الجدّ والمزاح : "تفتكر إنها شكرتك في الآخر عشان كانت هتنتحر ورسالتك أنقذتها ؟"

لفترة طويلة بعدها نسى الأمر ولم يتذكره سوى على فترات متباعدة ولكن بشكل عميق .. يفكر في سيناريوهات مختلفة لسبب تحويل الرسالة لمسارها .. ويفكر بإحساس البنت حينما قرأتها .. يفكر بالتداخلات القدرية التي شكلت حكاية بسيطة كهذه
  ..

بعدها بفترة فعل ذلك ثانياً ولكن قاصداً هذه المرة ، والمرة صارت تتكرر على فتراتٍ متباعدة تاركاً الدفة كلها لشعورٍ يحركه .. سواء للحظات التي يختارها .. أو الأفلام التي تشكل أرقاماً يرسل إليها .. أو حتى في كلمات الرسالة – القليلة دائماً - ، واعتاد أيضاً ألا يرد على تلك الأرقام بعد أن يرسل رسالته معتبراً أن الأمر انتهى لحظة وصول الرسالة

كثيراً ما كان يشعر بمدى غباء ما يفعله ويفكر في كونه محض سذاجة وأن الرسالة التي بدأت كل ذلك لم تكن سوى عطل في شبكة شركة المحمول وليس قدراً محدد الخطى كما حاول هو تفسير الأمر .. كثيراً ما كان يفكر في السبب الذي لا يجعل القدر يتدخل ويرسل له رسالة من رقمٍ لا يعرفه حينما يكون محبطاً أو شاعراً بالحزن ..كثيراً ما كان يملأه الفضول ليعرف مصير تلك الرسائل الغريبة وهل هي فعلاً لها معنى ؟؟ ، وكثيراً ما رغب في الرد على اتصالات تلك الأرقام ليعرف – فقط – رد فعلهم حين يحدثونه ، ولكنه – دائماً - ما كان يكبح فضوله أو إحباطه أو شعوره بلا جدوى الأمر لسببٍ رآه كافياً : طالما أن الأمر من البداية مفتقراً للمنطق ومستنداً على قدرٍ لا نعرف وجهته .. فليظل الأمر كذلك حتى يقرر التوقف أو يحدث ما يجبره على ذلك

لذلك فقد ظل ملبياً للشعور الذي يأتيه على فترات متباعدة أن يُحادث أُناسٌ لا يعرفهم عن أشياء يعرفونها بجملةٍ واحدة .. أو ربما كلمة

( 2 )

يوم أن سمع صوتها أول مرة كانت تتحدث عن القدر

يومها ، حادثه أحد أصدقاءه على موبايله حيثُ تصادف وجوده في الجيزة ، أخبره أن يمرّ عليه بالجامعة .. لم يكن قد رآه منذ فترة طويلة ولم يكن ذهب إلى الجامعة نفسها منذ فترة أطول لذلك فقد أخبره بأنه آتٍ إليه ، لحظة أن أغلق الهاتف مرّ بجانبه طفلاً ورمى في يده ورقة إعلانية لم يهتم بقراءة ما فيها .. لم يرَ ربما سوى كلمة "@ مكتوب.كوم" ، رمى الورقة وأكمل سيره ناحية الجامعة التي لا يفرقها عن الجيزة – سيراً – أكثر من عشر دقائق

في الجامعة .. رأى إعلاناً معلقاً على إحدى جدران الجامعة يٌفيد بعرض فيلم يحبه هناك .. "ماجنوليا" ، نظر لموعد العرض فوجده اليوم .. الأربعاء 6 فبراير .. في الرابعة عصراً ، كانت الثالثة في ساعته ..

أحبّ دوماً مشاهدة أفلام يحبها في عروض يحضرها آخرين لا يعرفهم وكأن الأمر خيطاً خفياً يجمعه بهم ويمنح ذكرى مشاهدة الفيلم معهم – حتى لو لم يتبين ملامح أيًّ منهم – شيئاً مميزاً ، فكر في دقائق الفيلم الأولى أن هؤلاء من حوله – وهم قليلين جداً – الذين قطعوا من وقتهم ساعاتٍ ثلاث ليشاهدون فيلماً يحبه بهذا القدر .. لابد أن هناك شيئاً يصلهم تماماً كهؤلاء على الشاشة أمامهم ، انتبه لصوت الفيلم :


This Was Not Just A Matter Of Chance. Ohhhh. These strange things happen all the time


ثم أمطرت السماء

بعد نهاية الفيلم فكّر في الرحيل بسرعة ولا داعي للاستماع للمناقشة ، ولكنه قرر – حتى مع عدم اهتمامه بالمشاركة في المناقشة – أن يبقى مستمعاً لما قد يقوله من حوله ، مرّ الأمر عادياً حتى تحدثت "البنت ذات الحجاب الأزرق"

"كنير بفكّر في اللي زمن بياخده مننا ويبقى ماضي ومجرد ذكرى مؤلمة ، وكتير بفكر ليه ده بيحصل ، الفيلم ده بيحسسني دايماً إني مش لوحدي ، مثلاً مرة زمان كان عندي صاحبة أقرب ليّ من نفسي ، البعد سحبنا من بعض من غير ما نقصد أو نعوز ، ساءت أموري وساءت أمورها ودايماً كنت أقول لنفسي إن دي حاجات بتحصل ومش بإدينا ، بس مع ذلك كتير بفتكرها واسأل نفسي "هي لسه فاكراني ؟" ، لما بفتكر الفيلم ده بكون متأكدة إنها بتفكر فيّا في نفس اللحظة ، ومتأكدة برضه إن فيه معنى لكل حاجة بتحصل مهما كانت قاسية ومها وجعت قلبنا"

أدهشته السلاسة التي تحدثت بها عن نفسها وعن الفيلم

بعد انتهاء العرض والمناقشة ، تحرك الأفراد القليلون في المدرج من أجل الذهاب ، تحر
ك هو في الطرقة المؤدية للسلم وكانت خلفه بعدة خطوات قليلة .. فكر في كونه يجب أن يتحدث الآن وإلا فلن يتحدث أبداً ، التفت ووقف أمامها مباشرةً :مفكرتيش تبعتي لصاحبتك أو تكلميها وتقولي لها إنك لسه فاكراها ؟؟

مضى الكثير من الوقت يومها وهما يتحدثان ويحكيان الكثير ، شعر بأنه من الصعب أن تكون تلك هي أول مرة يتحدثان فيها ، وحين أوصلها لمكان ركوبها طلب رؤيتها ثانية واتفقا أن يتقابلا في الجامعة بعدها بيومين

وبعدها بيومين تقابلا وظل حديثهم متصلاً ، أخبرته بأنها فكرت بمسمى لما حدث منذ يومين ، لم تجد أفضل من كلمة ( تآلف ) .. ابتسم ولم يرد وحينما أوصلها في ذات اليوم لمكان ركوبها مرة أخرى أخبرها :

( قلتلك قبل كده إن "التآلف" مستحيل يكون من طرف واحد ؟ التآلف إحساس مشترك يا ييجي للطرفين يا إما لأ )

تبادلا يومها أرقام التليفون .. كانت أرقاماً مميزة من المستحيل عليه أن ينساها تحوي – متتابعة – تواريخ ثلاثة أفلام يحبها .. ومن ضمنهم ماجنوليا

( 3 )


مستنداً في ذلك كله على سبب قد يبدو هشاً وقد يبدو بالغ القوة : القدر لا يعبث

***


 
يوم أن سمع صوتها أول مرة كانت تتحدث عن القدر

***

أخبرها يوماً – قبل أن يراها أو حتى يعرفها - : ( هات من ماضي العمر حاجات .. تنوّر الممشى اللي في ذاكرة .. وتنشر النور فوق النجيلة )