31 مارس 2013

اكتب حُزن المَدينة


«والتر وايت» كان بحاجة حقاً إلى فعلٍ كَبير كمثلِ دَهس هَذين المُرَوّجين كي يُثبت أنه لازال شَخصاً جيداً، حتى لو ظَلّ صانعاً للمخدَّرات، الحياة لَيْسَت مكاناً سَهلاً للعيش، لذلك فنحن بحاجة إلى أقدارٍ ضخمة من التفهُّم كي نَتصالح مع رجل على وَشك أن يموت يُقرر استخدام موهبته الكيميائية ليجني بعض المال ويتركه لعائلته، «سكايلر» لا تعرف ذلك، ولكننا نَعرفه، «والتر» عاشه ولكن سَيران الحياة سيُنسيه أحياناً حَقيقة أنه كيميائي يحاول ترك بعض المال لعائلته قبل أن يموت.. وليس رجل عصابات، الفارق ضخم، خيارات كتلك هي التي تُثبت حقيقة ما نَحنُ عليه.

على الناحيةِ الأخرى من العالم، بدا «واتانابي» بحاجة فعلاً إلى أن يَترك كل شيء وراءه، صحيح أنه غادَر المكان الذي ماتَ فيه «كيزوكي»، ابتعد تماماً، وذهب إلى أرضٍ أخرى وبحر آخر، ولكنه حَمَل حُزن المَدينة مَعه مختبئاً في "ناوكو"، أعلم أن «ناوكو» جميلة وهادئة، ربما سَتَظل تُحبها، ولكنها تجُر الماضي كُله وراءها، مَلامح «كيزوكي» القَديمة، أوقات التسكُّع والطَّبخ والصَّمت واللَّهو، هذا شيء يجب أن تتركه وراءك يا «واتانابي» العزيز كي تتمكن من الاستمرار، ربما لن تتفهَّم هِيَ، ربما سَتَكرهك الآن، ولكن في وقتٍ ما.. بعد سنوات طَويلة.. وفي لحظة عادية جداً.. ستتذكرك، وهي تَسمع «الغابة النرويجية» ربما، وستتفاجأ بنفسها وقد سامَحَتْك.

وبالقرْبِ، بهاء كان يسير وحيداً، وصوته جاءَ واضحاً «مبشوفش غير شارع/لا بيْوَصّل ولا بقابلِك فيه»، بهاء يَعْرُف كُل شَيء.. كُل شَيء عن الحُزن، صحيح أننا لا نَعرف الكثير عن بهاء، ولكن يُمكن أن نبدأ الآن في التخيُّل: كان يُحب، يُحبَّها كثيراً، ولكنه أدرك في لحظةٍ ما، قاسية، أن ذلك ليسَ كافياً، وأن المُشكلة في كوننا نَكبر، وحين نَكبر تُصبح الحياة أكثر تعقيداً، والتجارب تزداد تشابكاً، دهشة الأشياء الأولى تَبتعد، تُصبح الصورة أقل شاعرية وأكثر غِلْظَة، وهذا صَعباً على القلبِ، صَعباً جداً، ولكنها قواعد المَراحل المُتقدمة من الحَيوات، بهاء أدرك ذلك، وحاول أن يُغيره، لذلك فقد تاه في شوارع كثيرة، وهَرِم قَلبه حتى وصِل إلى خِتامِ قصيدة «أنا بعتذر وبقول وأنا خجلان/معدش نافع الميعاد.. مش جاي»، لقد عَرِفَ الآن أنّ السَّير لَن يُوَصّل الدروب، مهما كان السَّعي صادقاً والقلب مُحِبَّاً.

ورَغم كل هذا، فهناك بعض الأشياء لم تَزَل تُبدد وُحْشَة المَدينة، تَحمل لـ«والتر» صورته الأولى مع زوجته وابنه في ظَهيرةٍ يومٍ هادئ قبل أن يتغيَّر كل شيء، وتُوقِف الزَّمن بين «واتانابي» و«ناوكو» عند تلك اللحظة الساحِرَة –التي سيتذكراها دائماً- حين ساروا بهدوء وسط الخُضرة وكان الماضي بعيداً جداً عنهما، وستُهَوّن طُرق بهاء وتَمْنَح لقلبه الأمل في وَصْلِ الضَّال. الزَّمَن يَثْبَت والحياة حينها ستَكون بخير.





كمثلِ تلك الصورة القاهريَة القديمة، برسمِ المَسيح في حائِطها الخَلفي وكلمة "محبَّة" بجانبه.. فساتين السماء المُلوَّنة والسيّدات الجميلات اللاتي بدأت وانتهت علاقتك بهن عند تلك الصورة، تَعلم أن أيّ منهن لن تحزن بعد ذلك أبداً. وأن المَدينة يُمكن أن تحمل للجميعِ الفَرح من بعيد. فتطمَئِن

*العنوان من مَقال لـ«علاء الديب» في «المصري اليوم».. عدد 31 مارس 2013