20 يونيو 2009

يُتَوّج بطلاً


بشكل من الأشكال جزء مهم من ارتباطي بالكورة قائم على بُعد عاطفي قوي بنفس قدر سذاجته – المحببة جداً لنفسي - ، بُعد بيحوّل اللعيبة من كونهم "لعيبة" لإنهم "ناس من لحم ودم" .. حاجة بتخليه بدل ما هو قطعة في لعبة شطرنج بيبقى "شخص" تعرفه ، بتحبه .. بتكرهه .. عارف عيوبه .. بِتسِبَّلُه أحياناً .. بتسقفله أحياناً .. ليك ذكريات كتير معاه ، حاجة بتنمو بـ ... مش لاقي مصطلح واضح بس وليكن "بالعِشْرة" ، لعيب كورة فريقك انتَ بتشوفه بمتوسط 45 ماتش في السنة .. 4000 دقيقة تقريباً هيكون فيها في حالات مختلفة .. مبسوط .. زعلان .. متحمس .. ضايع .. متعصب ، أغلب الأحاسيس البشرية فعلاً !!

في بداية تشجيعي للإسماعيلي مكنش محمد حمص هو البطل الرئيسي للفريق .. مكنش أول لعيب لفت نظري أو ابتديت أرتبط بلعبه وانفعالاته ووجوده في الملعب مع وجود ناس زي أحمد فتحي وسيد معوض وعمر جمال ومحمد فضل .. وطبعاً حسني عبد ربه !! ، محصلش ده في البداية بس مع الوقت بقى حمص بالنسبة لي هو روح الفريق وهويته لدرجة إني مش متخيل الفريق من غيره ممكن يبقى عامل إزاي .. ممكن أصلاً أفضل أشجعه بنفس الحماس ولا لأ ؟!

لنفترض إن ماتش الكورة ده ملحمة ، وإن لعيبة الكورة هما المحاربين ، منهم أبطال إغريق متوّجين بوضوح وظاهرين باستمرار .. ومنهم – طبعاً - ولاد كلب ، حُمص مش من الأبطال اللي ملامحهم واضحة أو اللي هتلاقيهم في مقدمة الصورة وتعرف من أول "بَصّة" إنهم أبطال ، بس في العُمق .. لجوا شوية .. هو البطل الأهم بالنسبة للإسماعيلي

مع الوقت برضه بقى مُبهِج بالنسبة لي جداً مجرد إني أشوف حُمص بيلعب .. قيادته للعيبة والتفافهم حواليه .. لمساته .. هدوءه .. حماسه وثقته .. ارتباطه وانتماءه للفريق .. حُب الناس ليه .. أخلاقياته جوا الملعب وبراه ، وابتسامته !! ، أنا ساذج كفاية لدرجة إن فيه ناس ابتسامتهم ممكن تخليني أنشكح وأنسى أي حاجة مضايقاني .. ناس ممكن أبص لصورهم بس أحس إن كل حاجة بتطيب وإن كفاية إن دول في الدنيا عشان أكون حاسس بالرضا .. ناس مبعرفش إني أبص لوشوشهم المتبسمة من غير ما أنا كمان أبتسم ، حُمص من الناس دي

------

قبل الماتش ، كان عندي شوية تفاءل مش بطالين حوالين إننا ممكن نتعادل مع إيطاليا لو لعبنا برجولة وتجاوزنا الأخطاء الهابلة اللي بنقع فيها دايماً

لما عرفت إن حمص ضمن التشكيلة الأساسية ، أصابتني بهجة تامة من إن أخيراً هياخد فرصة دولية حقيقية ، كان شيء ممتع جداً سرد سيناريوهات تخيلية للماتش يكون حُمص هو بطلها الأساسي .. أجملها وأفضلها كان إننا نكسب بجون هو اللي يجيبه ، ماشي هفرح في كل الأحوال لو مصر كسبت .. بس لو مصر كسبت وحمص هو اللي كسبها ده حاجة تانية !! ، كان جزء من الموضوع إن حمص أخيراً ينال جزء من حقه في التقدير ومصر كلها تعرف إن فيه واحد أسمراني مش مشهور ولا معروف ولا بيتعمله أغاني ولا بيعتبر من النجوم السوبر بس هو فعلاً لعيب عظيم ، سيناريوهات متتالية كنت إلى حد ما شايف إنها صعب تتحقق نظراً لصعوبة الماتش .. ونظراً لإن حمص في مشاركته الدولية الجدية الأولى هيكون خايف يغلط وبالتالي مش هيلعب بأريحية .. ونظراً لإن مركزه صعب يخليه كابتن ماجد المُنتظر اللي يكسبنا على إيطاليا 1-0

لما ابتدى الماتش كان حُمص زي ما توقعت بيلعب بقلق وبيباصي قُصير خوفاً من إنه يغلط ، صحيح مغلطش بس مكنش ليه تواجد ملموس يخليه فارق ، كنت بتفرج على الماتش بعين وعلى حمص بالعين التانية :) .. ومقلق جداً ليغلط أو يعمل باس غلط ويتشتم في القهوة اللي كنت بشوف الماتش فيها لإني ساعتها هضايق – رغم إن أبو تريكة شخصياً اتشتم ! – وفضل الماتش ماشي على وتيره هادية إلى حد ما وحمص ليه تواجد بس مش صانع فارق حقيقي

لحد الدقيقة 39 !!



دي أكتر مرة في حياتي تقريباً أصرّخ لما جون يدخل ! ، في البداية كان حُسني – بطلي الآخر في الملحمة :) – هو اللي شاط أول كورة مصرية على أفضل حارس مرمى في العالم تقريباً ، خرجت كورنر وأبو تريكة راح لها ، كنت بفكر لحظتها إن السيناريو الأفضل ممكن يتحقق في اللحظة دي .. حمص بيلعب براسه كويس .. كورنر حسني هو اللي جايبه .. في توقيت مثالي ، لعب أبو تريكة الكورة .. شفتها في الجون من غير ما أعرف في البداية مين جابها ، القهوة كلها قامت وقفت واتنططت وكله بيصرخ جووون .. لحد ما شفت حُمص ، مكنتش مصدق !! ، أكتر من دقيقتين تقريباً بقول بصوت عالي "جون .. حمص" ! ، كان شكلي عبيط أوي وقتها على ما أظن :) ، كنت حاسسها لحظة انتصار شخصية جداً ليّ وليه بصرف النظر عن مصر وفوزها ، ده أعظم سيناريو تخيلته في حياتي واتنفذ فعلاً !

بعد الماتش .. وأنا ماشي في الشارع أو راكب مواصلات ، الناس اللي بتبيع أعلام والناس اللي بتشتريها ، اللي بيرقصوا على الرصيف وللي بيهيّصوا في العربيات ، مَصر المُنْشَكِحَة جداً واللي الناس مبتفتكرهاش غير ساعة ماتشات الكورة ، كنت حاسس إني عايز أسلّم على كل واحد بيُشكُر في حمص وأقوله "مُتشكر" :) وكُنت ممتن جداً لإن بطل إغريقي عظيم غير متوّج كان سبب أساسي في فرحة الناس دي .. وفي فرحتي شخصياً

ده من أكتر الأجوان اللي فرحت بيها في حياتي .. لو مكنش أكترهم

أنا مبسوط !!

أُعلِنُ رضاي !






لفترة طويلة لم أفهم السبب الذي يمنح هذا الفيلم كل هذا الثقل والخلود .. الاحترام الكبير الذي يُقابل به .. الثناء النقدي الذي يناله في محافل كثيرة .. الالتفاف الجماهيري – الذي يضعه رابعاً في الموقع السينمائي الأكثر شهرة
-


الأكثر من ذلك : ما الذي يجعل مخرجاً بحجم كوينتن تارنتينو – بصرف النظر عن كونه "أهبلاً" – يضعه في صدر قائمته لأعظم الأفلام التي شاهدها والأكثر تأثيراً في العتة السينمائي الذي قدمه في خمسة أفلام – ثلاثة منها تتصف بالعظمة - ؟؟

بالأمس شاهدت عمل سيرجو ليوني الأشهر للمرة الثالثة في عُمري .. وللمرة الأولى منذ ما يقرب من سنواتٍ ثلاث ، بعد المشاهدة صمتُّ لدقائق ألملم فيها ما رأيته لأصفه بأنه "عمل مُتَوَحّش" ، لا أذكر أنني سبق أن وصفت عملاً سينمائياً بكونه "متوحشاً" من قَبل ، فيلم ليوني كذلك بالفعل !!

الأمر أشبة بأن تُحضر روح جون فورد .. أكيرا كوراساوا .. ديفيد لين في عملٍ واحد يتلمسهم جميعاً ومع ذلك – وهنا جزء أساسي من العظمة – يبدو شديد الأصالة ، أصالة سيرجو ليوني .. الرجل الذي لم يقدم للسينما سوى سبعة أفلام كفته – وحدها – كيّ يُصبِح "مُعَلّماً" وعَلَماً

بالأمس كنتُ مبهوراً من تلك الطريقة التي ينتقل بها ليوني في مناطق مختلفة ومع ذلك لا يفقد ولو لبرهة وحدة فيلمه ، ليوني متأثر بوضوح بمنشأة الإيطالي والسينما التي تربى عليها .. سينما العصابات الإيطالية .. الطلقات السريعة .. الجثث التي تتساقط بلا حساب .. البطل والبطل المضاد .. الصراع المحتدم الذي لا ينتهي سوى مع آخر طلقة مسدس في العمل ، توازي ذلك مع ولهة بسينما الويسترن الأمريكية : أفلام المعلم العظيم جون فورد ورفاقه ، هذا التداخل صنع له أسلوباً سينمائياً لا مثيل له .. لم تشهده السينما من قبله وتأثرت به كثيراً بعد ذلك ، أن تجلب عصابات إيطاليا إلى صحاري أمريكا وتتركها تعبث عبر أربع ملاحم متتالية .. هذا كان الأثر الأكبر للسيد ليوني !


بالأمس لاحظت أيضاً – للمرة الأولى – كم كان ليوني متأثراً بكيراساوا ، وأن عظمة كيراساوا نفسه لا تتعلق فقط بروعة أفلامه ولكن بتأثيرها الشديد – لدرجة الإعجاز – في كل مفاصل السينما .. من سيرجو ليوني حتى جورج لوكاس ومن جون وو حتى زانج يمو ، ليوني هنا ليس متأثراً فقط بروح الساموراي الياباني .. هو في أحيانٍ كثيرة يرفع له القبعة ويحييه ناطقاً بالسينما ، ثالوث ليوني هنا "البطل .. ورفيقه .. وخصمه" مُستلهماً كلياً مِن هناك : الشرف والأخلاقيات التي يتمتع به من مُنِحَ صِفة "الطيب" رغم لا أخلاقية ما يفعله صورة كربونية من "حارس كيراساوا الخاص" .. خصمه في المقابل يحمل كل صفات القسوة واللا أخلاقية ويستحق كونه "شريراً" .. فروقٌ بينهم تبدو واضحة للمُشَاهِد رغم أن ما يفعلانه يبدو في أحيان كثيرة واحداً ، في أفلام كيراساوا الملحمية يتخذ التأسيس لشخصيات الأبطال جزءً كبيراً من مقدمة الفيلم لنتعرف عليهم .. هل كان عبثاً أن يكون تقديم ليوني لشخصياته بهذا الشكل الذي لا يُنسى وفيما يقارب النصف ساعة كاملة ؟؟ .. منه أيضاً يستلهم مسيرة رفيقين يجابهان خمسة رجال في ممر طويل بمعركة مسدسات لا تُنسى ولقطات وديكورات – شبة كربونية – لبعض المشاهد ، هو بالأحرى يستلهم الثقة والقوة من سيف ساموراي ويمنحها لمسدسات أمريكية ذات نكهة إيطالية !

ديفيد لين كذلك له حضور قوي هنا .. في جزء خاص وكأنه إهداء للإنجليزي العظيم ، الأمر لا يرتبط فقط بالصحاري – التي نطقت كأبدع ما يكون في تحفة لين "لورانس العرب" وعادت لتنطق هنا أيضاً – ولكن مرتبط أكثر بـ"شرف الحرب" ، جسر على نهر كواي هو عملي المفضل لديفيد لين – أخرجه عام 57 – - مُعطياً فيه رؤيته الخاصة "لأخلاقيات الحرب" عبر قصة جسر يُبنى خلال الحرب العالمية الثانية من خلال الأسرى الأمريكان لينقل معدات الجيش الياباني عبره ويبرز الفيلم التناقض الحاد بين وجهتي نظر أحدهما هي أن الحرب ستنتهي اليوم أو غداً ولكن الجسر سيبقى لسنوات شاهداً على عظمة الجندي الأمريكي .. والأخرى ترى أن هدمه ضروري لمنع تفوق اليابانيين لأن انتصاراً حربياً أهم كثيراً من تخليد ذكرى الجنود ، قصة قريبة تُروى هنا بروحٍ مشابهة ونهاية واحدة عن جِسرٍ آخر يجب أن يُهدم كي يمنح لأبطال ليوني الفرصة لإكمال مسيرتهم ..


حينما أنظر إلى حجم "تأثر" ليوني بالسينما التي سبقته ورغم ذلك حفاظه على أصالة عمله ، وحجم "تأثيره" في السينما التي تلته كي يصبح هو "أساسها" ، لا أجد سبباً لذلك سوى لغة سينمائية خاصة به تمنح أفلامه وصف الملحمة وتمنحه وصف "المُعَلّم" !

لغة سينمائية متناغمة وخاصة جداً من "رفقة ليوني" في كافة أفلامه ، هذه "الرفقة" طيبة فعلاً لدرجة من الصعب فصل أيًّ من جزيئاتها ، تصوير ديللي كولي شديد الجمال والتألق .. مونتاج نيلو بارالي الثوري بحق .. موسيقى العظيم إينيو موريكوني التي صارت واحدة من أشهر موسيقات السينما كلها ، هل من الممكن مثلاً تفهم عظمة الخاتمة بفصل ثلاثتهم ؟ هل كان من الممكن أن يصبح هذا الفيلم عظيماً لو افتقد أيًّ منهم ؟!

وختاماً هناك تلك "المتعة" الخالصة التي يمنحها ليوني لفيلمه ، بدءً من التقديم بالغ الذكاء والترقب لكلًّ من أبطاله الثلاث .. مروراً بالصراع – الطريف والحاد – بين الأشقر وتوكو .. وصولاً لهما كرفيقين يكنان كراهية خاصة لبعضهم ورغم ذلك يصبح كل منهم شديد الحرص على حياة الآخر فقط لأنه يحمل نصف السر– في تناقض بارع ومبهر ! - .. وكذلك كخصمين يتحدان ضد عدو – كآنجل آيز – فقط لأنه يبدو أكثر خطراً على كليهما ، متعة قائمة على بناء مُثير لكلّ تتابع في الفيلم لدرجة أنه لو فُصِل سيبدو فيلماً قصيراً متماسكاً .. قائمة كذلك على تحدي وصراع مستمر ومحتدم في كل لحظة ، ليتوّج كل ذلك في النهاية بخاتمة لا تنسى .. خاتمة تتحدث فيها السينما بكل أدواتها !


هذا الفيلم عظيم !

لازلتُ أرى – بالطبع – أن تُحفتا سيرجو ليوني "حدث ذات مرة في أمريكا" – أحد أهم أفلامي المفضلة! – و"حدث ذات مرة في الغرب" – أفضل أفلام السباغيتي ويسترن في نظري – هما أفضل ما قدمه ، الفارق فقط أنني بالأمس صرت أعتبره قد قدم للسينما ثلاث تُحَف بدلاً من تحفتين .. تغيّر نسبي كان جديراً بالتسجيل ربما !