25 ديسمبر 2009

صديقةُ الصّبا العزيزة

في البدءِ ، كانت "الإسكندريّة" .. وكان يوسف

وفي المُنتهى ، سَنَجتَمِعُ فيها مُتّكئين على الآرائِكِ

وبينَ البدءِ والمُنتهى حَدَث كُلّ شيء ، الذكرياتِ والتفاصيل والأحلام ، الأفلامُ والأشعارُ والموسيقى ، مبارياتُ الكُرَة وعُشب النّجيلةُ الأخضر ، دموعِك في الليالي الحزينة ، وضحكتك التيّ تجعلها برداً وسلاماً ، اللحظات التي نتخاصم فيها .. فنتصالح .. كَي نصيرُ لبعضنا أقرب ، صُورتِك المرسومة في كل شوارع المدينة اليونانية ، والبحر الذي يسألني عَنكِ كُلما ذهبتُ إلى هناك ، حرف "الراء" على لسانِك ، وتكّاتُ أصابعِك الثلاث ، الخزعبلات التي آمنا بها .. فأثبتت كونها صدقاً ، والحقائق التي خلقناها سوياً .. فلَم نُحِد عنها أبداً ، البلاد التي فرّقتنا ، والبلد التي جمَّعتنا ، تِلكَ الأشياءِ التي لم تهمُّ أحدٌ سوانا أو تِلكَ التي اهتم بأمْرِها الجميع

بينَ البدءِ والمُنتهى ، عرفتكِ لنصف قرنٍ أو يزيد

عَرِفتُكِ حتى إذ ضَعَفَ نظرِك صرتُ أقرأ لكِ ، حتى إن نسيتي الذكريات ذكّرتِك ، وإن تاهَت تفاصيل الحدُّوتة قصصتها عليكِ من جديد

عرفتُكِ حتّى صار مَلْمَسُ يَدَيك كَوَرقِ الشَّجرِ في الخَرِيف

تغيّرت الوجوه من حولنا ، يذهبُ الأُناسُ ويجيئون ، تتبدل الأشياءِ كالفصول ، حتّى نحنُ كنَّا نتغيّر ، نبتعدُ حيناً دونَ أن نفترقُ يوماً ، إذ أنَّ المرء لا يُفارق روحه أبداً

والآن ، أتممتي يا صبيّتي أربعةٌ وعشرون عاماً

أربعةٌ وعشرون عاماً يا نسرين ، ولازِلتِ تِلكَ الطفلة التي تُخطِئ فتدمُع ثم تَبتسِمُ في وداعة ، فيرقُّ قَلبُ الفتى وإن كانَ حَجَراً

السّنونُ تمرّ ، نَكبُرُ أكثر ، "سنظلُّ القصة تُروى" ، وستبقين دوماً "صديقةُ الصّبا العزيزة" .. طِفلةٌ ذاتَ طِباعٌ عصبية وقلبٌ أخضر

إسكندريّة .. ليه ؟!


مارتن سكورسيزي
مكتبة الإسكندرية
23-12-2009
تصوير : نادية

الكيفية التي أقنعت نفسي بها على الذهاب - رغم المعوقات التي تمنع ذلك – كانت واضحة : هُناكَ ثلاث مخرجين اعتبرتهم دوماً "مخرجيني المُفضلين" ، اثنين منهما سأقابلهم في الجنّة .. والثالث يُمكنني مقابلته خلال أيام بدلاً من انتظاره هُناك

لم يكن من الممكن أن تضيع تلك الذكرى

عرفتُ جيداً كل ما قاله ، كل الحواديت التي سردها رددتها معه

ولكن الجلوس على بُعد أمتار من "مارتي" كان هو الحدث في حد ذاته

10 ديسمبر 2009

عبّاس كياروستامي


"السينما تبدأ عند جريفيث ، وتنتهي عند عباس كياروستامي" .. جان لوك جودار

مِنْ أينَ أبدأ ؟؟

شاهَدتُ أول فيلم لكياروستامي قبل ما يُقارب الثلاث أعوام ، كانَ "طَعْم الكَرَز" ، شاهدت قبله بِضْع تَجارُب خَرَجَت مِن إيران ونَالت شُهرة عالَمِيّة واسعة ، أَعْجَبَنِي بعضها ، احترمتُ الآخر ، لَم يكن "طَعْم الكَرَز" ضمن أكثر ما أعجبني – حينها - ، الصورة التي انطبعت عِنْدي عن كياروستامي – من خلال فيلمه ، وبضع أحاديث شاهدتها لها ، ثُمّ من خلال كليشيهات نقدية من عينة "فيلسوف السينما الإيرانية" – أنه مُدّعِي بأكثر مما هو صادِق فيما يَفْعَل .. مُقَيّم بأكثر مما يَسْتَحِق .. مَغْرُور وصانع لسينما تجريبية تصلح للمهرجانات أكثر مما تصلح للمُشاهدة ، تَرَسّخ ذلك بعد مشاهدة "عبر أشجار الزيتون" ، أعجبني أكثر من "الكَرَز" ، ولكن مُجْمَلاً لَم أُقَدّر الرّجل كثيراً ، وظل مُدَعِيَاً في نظري

حسناً .. كُنْتُ أَعْمَى ، الآن أنا أَرى

"
يُمَثّل كياروستامي أعلى مراحل الفنية في تاريخ السينما" .. مارتن سكورسيزي

مُنذُ ثلاثة أسابيع شاهدتُ "Close-Up" لأول مرة – بعد أن أَلَحّ أصدقائي لثلاثة أشهر - ، عند نهايته – بواحد من أعظم المشاهد وأقربها إليّ – خُلِقَ لَديّ شعوراً لا يمكن وصفه ، على المستوى الإنساني كان هُناك شعور بالصفاء النفسي .. "الطيبة" الشديدة التي تتجلّى عبر كل تفاصيل الفيلم ، وعلى المُستوى السينمائي كانت التجربة مختلفة عن أي شيء آخر كُنتُ قد شاهدته .. أصالة مُبهرة .. صِادقة لدرجة الدّهشة : كيف يمكن أن تكون "السينما حَيَاة" إلى تِلكَ الدّرجة ؟؟

بدءً من تلك اللحظة – وعَبْرَ ثلاثة أسابيع – بَدأتُ في مشاهدة أفلام الرجل من جديدة ، ربما هُنَاك بعض المُبالغة – المطلوبة والمُحَبّبَة – في جملتي جودار وسكورسيزي بالأعلى ، ولكن – دونَ ذَرّة مُبالغة – كياروستامي واحد من أعظم التجارب المتكاملة في تاريخ السينما

Close-Up :
------------

أعتقد أن "كلوس آب" لم يكن فقط لحظة مفصلية بالنسبة لعلاقتي بسينما كياروستامي ، هو بالأهم لحظة مفصلية في علاقته هو نفسه بسينماه والأفلام التي يُريد تقديمها

قبل "كلوس آب" كان هُناك مرحلة تمتد لقرابة العشرين عامل امتلك فيها كياروستامي تصوّراً عاماً لما يريد تقديمه ، ولكنه لم يصل إليه ، كان الرجل يريد تقديم سينما واقعية عن إيران ، تحدث عبر قصص بسيطة للغاية ، بسيطة لدرجة أنها قد لا تستغرق في سردها أكثر من دقيقة أو دقيقتين ولم يهتم أحد في نقلها للسينما من قبل – رغم تكرارها دائماً في الحياة - ، لذلك فالـ"حدوتة" بالنسبة له ليست هي الهامة لأنها في حد ذاتها لن تخلق فيلماً ، ولكن المهم هو التماهي مع تفاصيل الحياة عموماً

"
لم أمتلك أبداً سيناريوهات كاملة لأفلامي ، فقط أمتلك خَطّ عام وشخصية رئيسية في رأسي ، ولا أبدأ في تصوير أي شيء إلا حين أجد هذه الشخصية في الواقع ، حينها أجعلها تبدأ في الحركة ومُعايشة الحياة عبر بضع تفاصيل وملاحظات فقط أقوم بوضعها ، لذلك فأنا أقترب من شخصيات أفلامي وأسافر عبرها .. ولا أجعلها تتحرّك من خلالي" .. عباس كياروستامي .. 1988

الأمْرُ يبدو واضحاً تماماً منذ فيلمه القصير الأول "الخبر والممر – 1970" - شاهِدُه هُنا - الذي يروي فيه في عشر دقائق رغبة طفل في الوصول لبيته عبر ممر يوجد به كَلْب مُخِيف ، الهاجس الطفولي الذي مرّ به كل منّأ – الخوف من الكلاب والتعامل معها – كان عَمَل كياروستامي الأول ، مُعَبّراً فيه – بشكل مبدئي – عن نظرته للسينما ، يقول كياروستامي "عملي الأول كان صعب جداً ، كان عليّ التعامل مع طفل صغير للغاية .. وكلب .. وطاقم فني غير محترف باستثناء المُصَوّر وقد اختلفت معه بشدّة هو الآخر" ، كان الاختلاف حينها عن طريقة تصوير مشهد الختام .. أرد المُصَوّر تصويرها في ثلاث لقطات ولكن كياروستامي أرادها في لقطة واحدة كي تضع المشاهد مع الطفل في خوفه كاملاً ، وهو أسلوب فنّي سيتّبعه كثيراً فيما بعد

في 74 حَقّق فيلمه الطويل الأول ، "مُسَافِر" ، قصة طفل ريفي من إحدى قُرى إيران يُريدُ الذهاب إلى مباراة كرة قدم للمنتخب الوطني في العاصمة ، وفي سبيل ذلك يقوم بالكثير من الخِدَع والحِيَل كَيّ يجمع المال الذي يذهب به إلى طهران كي يُشاهد المُباراة ، الفيلم – الذي بدا في نظري متأثراً بوضوح برائعة تروفو "The 400 Blows"كان تنظيراً غير مقصوداً لنوع السينما التي سيستمر في تقديمها وكل التفاصيل النقدية التي ستجمع أفلامه فيما بعد : يدورُ في قرية إيرانية صغيرة .. بطولة طِفْل .. يعكس دون مباشرة – أو حتى قصد - الوضع في إيران .. إغراق كامل في تفاصيل الحياة .. القدرة على جعلنا نتماهى مع أشياء قد تبدو تافهة – كرغبة طفل في حضور مباراة كرة - ، وتقنياً كان هناك اعتماداً على اللقطات الطويلة .. مَشَاهِد كلها مصورة خارجياً .. استخدام ممثلين غير محترفين .. قلة الموسيقى التصويرية ثم استخدامها بقوة في مشهد الخِتام – الذي دائماً ما يكون عظيماً - ، كلها أشياء ستتكرر فيما بعد في كل أفلامه

القرار الأبرز والأهم في حياته خلال تلك المرحلة كان عدم تركه إيران بعد قيام ثورة الخوميني عام 1979 ، ترك حينها الكثير من السينمائيين إيران ، الأوضاع لم تكن مستقرة ، ولكنه اختصر الأمر بقوله "حينما تأخُذ شجرة مثمرة من مكانها وتزرعها في مكانٍ آخر فهي ببساطة لن تُثمر" ، هذا القرار هو الأهم لأن عباس كياروستامي لم يكن يستطيع أن يصنع أي سينما – ولا يوجد أي مُنْتِج كان ليقبله – خارج إيران

تلك المرحلة الطويلة من التجريب – والتي أنتجت خلال خمسة عشر عاماً فيلمين طويلين والعديد من الأفلام القصيرة – وصلت لذروتها عام 1987 مع فيلم"أين يقع منزل صديقي ؟" ، القصة التي حدثت لنا جميعاً وربما شكّلت جزءً من كوابيسنا ، أن يحضر المُدرّس ويطلب رؤية كراسة الواجب التي نسيتها في المنزل ، تقديري لهذا الفيلم ينبع من شيء أساسي : لم أشاهد قبله فيلماً يتماهى – ويجبرنا كذلك على التماهي – مع مخاوف طفل قد تبدو تافهة لأشخاص ناضجين مثل هذا الفيلم ، قصة الطفل "أحمد" الذي يبحث عن منزل صديقه "محمد رضا" كي يعطيه كراسة واجبه التي نسيها معه لعلمه أن المدرّس سيعاقبه غداً لم لو يقم بواجبه ، كان الفيلم هو بداية شهرة كياروستامي وصعود نجمه إلى خارج إيران ، عُرِض الفيلم في مهرجان لوكارنو ، نال مديح النقاد ، ليُعْرَض بعد ذلك في اليابان ويُشاهده أسطورتها "أكيرا كوراساوا" ويعلن اندهاشه وإعجابه الشديد بكياروستامي وأنه مستقبل السينما

1990
------

العام الأهم في مسيرة عباس كياروستامي ، والمرحلة التي صنع بعدها أهم أفلامه وخَلَق بوضوح بصمته وأسلوبه وما عُرِفَ بَعْدَ ذلك بالـ"Kiarostamian"

هناك حدثين هامين في عام 90 خلقا هذا التأثير ، الأول هو القبض على شخص يُدعى "حُسين سابزيان" انتحل شخصية المُخرج الإيراني الشهير "محسن مخملباف" أمام إحدى عائلات طهران ، والحدث الثاني هو كارثة زلزال مدينة "كوكر" في شمال إيران والذي راح ضحيته أكثر من خمسين ألف مواطن إيراني

حسين سابزيان وClose-Up :
---------------------

الأمر بسيط : كان كياروستامي يجهّز لأحد أفلامه حين قرأ في إحدى المجلات الإيرانية خبر يخص مُنتحل لشخصية مخرج إيراني شهير وتقديمه للمُحاكمة ، تقصّى عن الأمر ثم قرر أن يُؤجل فيلمه الحالي وأن يصنع فيلماً عن تلك الحادثة ، قرر تصوير المُحاكمة ، وتصوير لقاء له مع المُنتحل ، ليملك مادة وثائقية لم يُدرك في البداية ماذا يمكن أن يفعل بها ، ولكنه في النهاية خَلَق أحد أعظم الأفلام في التاريخ ، الفيلم الذي جَعَل جودار يقول أن السينما تنتهي عنده .. وجعل سكورسيزي يقول أنه أعلى مراحل الفنية السينمائية .. وجعل تارنتينو يُصفق لخمس دقائق بعد مشاهدته .. وجعل ناني موريتي يصنع فيلماً قصيراً عن ليلة افتتاحه في روما

Close-Up
هو قِصّة شَغَف وحُبّ للسينما قبل أيّ شيء ، سابزيان انتحل شخصية مُحسن مخملباف لأن حلمه كان أن يصبح مخرجاً وصانعاً للأفلام ، كياروستامي يرى أن كل من مخرجي جيله هو سابزيان والفارق فقط هو الفرصة التي مُنِحت لهم جعلتهم يصنعون أفلاماً بعد ذلك ، يرى كذلك أن سابزيان هو بطل "مُسافر" – المقطوعة الموسيقية العظيمة التي ينتهي بها الفيلمين واحدة – الفقير الذي نتغاضى عن عدم أخلاقية ما فعله لأننا نتماهى مع رغبته .. كذلك يحدث لنا هنا ، لا نُفكر أبداً في أن فعله سابزيان خاطئه .. نتعاطف معه .. نتفهمه .. نقدر تماماً شغفه بالسينما .. ونتلمّس كذلك بحثه عن الاحترام الذي يجده في أعين تلك العائلة التي تعاملت معه كمخملباف
عظمة العمل كذلك تتعلّق بقُدرة كياروستامي على أن يحقق "حِلم" سابزيان في أن يُصبح سينمائياً عبر صُنع فيلم عنه ، كيف تصبح "السينما حياة .. والحياة سينما" إلى هذا الحد الذي يتحقق هنا ؟؟

هذا الأمر يدفعنا أيضاً "للأسلوب الفنّي" ، هذا الدمج بين الوثائقي والروائي والذي سيصبح أسلوباً لكياروستامي بعد ذلك ، هو فعلياً لم يمتلك سوى مادة المُحاكمة ، ثم بعد ذلك أعاد تصوير كافة المشاهد الأخرى ، ولكننا نعلم أن تلك الأشياء حقيقية وحدثت فعلاً ، لذلك فلا يمكن اعتبارها "خيالاً" كاملاً ولا يمكن اعتبار الفيلم نفسه فيلم روائياً ، كما أن "إعادة تمثيل المشاهد" وتغيير بعض أحداثها لا يجعله وثائقياً ، هو دمج مثالي – وغير مسبوق – للاثنين معاً يمكن اختصاره في جملة كياروستامي نفسه "لا يمكن أبداً أن نقترب من الحقيقة إلا عبر الخيال" ، لذلك عند تعاملنا مع الفيلم نتعامل معه كحقيقة مُسَلّم بها .. شيء حَدث في الحياة وبالصدفة تحوّل إلى شريط "35 مللي" ونصدَّقه نحنُ دون مناقشة

ثلاثية "كوكر" :
-----------

الحدث الثاني الذي أثّر في مسيرة عباس كياروستامي عام 90 كان زلزال كوكر ، فإذا كان "كلوس آب" قد حقق تأثيره على مستوى الشكل الفني – الدمج بين الوثائقي والروائي .. الواقع والخيال - ، فإن الزلزال حقق أثره على مستوى الأفكار ، ثُنائية الحياة والموت التي لم تُبارِح فيلماً من أفلامه منذُ تلك اللحظة

"
ذَهبتُ إلى كوكر بعد ثلاثة أيام من الزلزال ، 50 ألف شخص كانوا قد توفوا تحت الأنقاض ، كُنتُ حزيناً ومكتئباً ، ولكن ما لفت نظري أكثر هو قدرة الناس على مواصلة حياتهم ، الزلزال حدث في الخامسة صباحاً ، أي شخص من هؤلاء الأحياء كان يمكن أن يكون نائماً ويموت أيضاً ، كان هناك امتنان عند كل منهم لبقاءه حياً" .. عباس كياروستامي .. 1990

فعلياً كان كياروستامي قد ذهب إلى "كوكر" بحثاً عن "أحمد" بطل فيلمه "أين يقع منزل صديقي ؟" وكي يتأكد فقط من كونه على قيد الحياة ، ليصنع من تجربته "الوثائقية" فيلمه الروائي "... والحياة تستمر" عام 91 ، فيلمٌ عن قدرة هؤلاء الناس على مواصلة حياتهم .. كيف يحاولون التجاوز ونسيان الكارثة .. عن الطفل الذي يحاول الذهاب لمدرسته .. وعن الفتى الذي تزوج بعد يوم واحد من الزلزال .. وأهل القرية الذين يحاولون مشاهدة مباراة كرة قدم ، فيلم عن غريزة البقاء وعن الامتنان للحياة التي تستمر رغم كل شيء

الجزء الثالث من "ثلاثية كوكر" هو "عبر أشجار الزيتون" ، فيلم داخل فيلم ، يقدم فيه كياروستامي مشهداً سبق تصويره في "والحياة تستمر" بين الفتى المتزوج حديثاً وزوجته ، ليخلق من ذلك قصة "الممثل" فارهاد الذي يريد اقناع "الممثلة" طاهرة بالزواج منه أثناء تصوير الفيلم – الذي يُسمّى بداخل الفيلم أيضاً "عبر أشجار الزيتون" – ويدور في نفس فترة الزلزال

طَعْم الكَرَز ، والريح ستحملنا :
-------------------

مَنَح "عبر أشجار الزيتون" كياروستامي ترشيحه الأول لسعفة كان عام 1994 ، والتي انتظر ثلاث سنوات كي ينالها عن رائعته "طَعْم الكَرَز" ، قصة رجل يُريد الانتحار ، ويبحث عمن يدفنه بعد انتحاره ، وأثناء ذلك يُجري ثلاث محادثات طويلة ، مع مُجَنّد كُردي .. شاب أفغاني .. ورجل تركي عجوز له محاولة انتحار سابقة ، وعبر حوار شاعري للغاية ورؤية بصرية شديدة الروعة يحاول كياروستامي من جديد الاحتفاء بالحياة والامتنان لتفاصيلها الصغيرة ، نفس الاحتفاء الذي جعله يقدم في نهاية العِقد آخر أفلامه الكُبرى في نظري "الريح ستحملنا"

رائعة كياروستامي الأخيرة كانت شعراً بحق ، حسناً .. أعلم أن أوصاف من قبيل "قصيدة سينمائية" "يُشْعِر بالسينما" .. إلخ قد أصبحت في طور الكليشيهات غير المرغوبة وفقدت صدقها من كثرة ما تُستخدم ، ولكن فعلياً "الريح سَتَحْمِلُنَا" فيلماً حُقَّق بالشعر ، بدءً من اسمه المُقتبس من قصيدة للشاعرة الإيرانية الشهيرة "فروخ فرخزاد" .. مروراً للعديد من مقاطع الشعر الفارسي الذي تُنثَر في حواره .. وصولاً لتجريديته الشديدة في قصته ، كياروستامي كان يعلم أن فيلماً كهذا لن يحقق مبتغاه إلا عَبْر رؤية بصرية شديدة النضوج ، لذلك فهو الفيلم الأعظم – من الناحية البصرية – في مسيرته ، وهو كذلك التلاقي الأوضح والأكبر بين "الحياة والموت" في أفلامه ، عبر قصة ثلاث رجال ينزلون على قرية بانتظار موت سيدة عجوز دون سبب مفهوم ، نفس السيدة التي يساعدها أهل القرية جميعاً كي تبقى على قيد الحياة

ربما لم أشاهد في حياتي فيلماً أكثر اتصالاً بالطبيعة – باستثناء أفلام أندريه تاركوفسكي بالطبع – من هذا الفيلم ، صوت الريح ، الزَّرْعُ الذي يهتز على أثرها ، التلاقي المستمر بين الأخضر والأصفر في مُحيط الصورة ، السُلحفاة التي تُقلب على ظهرها فَتَعْتَدِل من جديد ، التأكيد المُستمر على "الحياة" والاحتفاء بها في مقابلة الموت – تلك "التيمة" القريبة مني للغاية - ، تتويج كافة أفكار كياروستامي التي عبر عنها حواراً من خلال أفلامه الثلاثة التي سبقت "الريح ستحملنا" ، ولكنه يعبر عنها هنا شعراً وصورة وعبر كل تفصيلة ممكنة ، هل يمكن عدم ملاحظة أن كل مشاهد الفيلم تدور في النهار وليسَ الليل ؟

لم يقدم كياروستامي بعد ذلك وعبر عشر سنوات – منذ 99 حتى الآن – ما يوازي روائعه الأهم ، بضع أفلام وثائقية صريحة عن الطبيعة حيناً وعن تجربته في صناعة أفلامه حيناً آخر ، هناك تجربة جيّدة وهامة في فيلمه "عشرة" الذي يُحَقّق عبر عشر مشاهد طويلة بكاميرا مُثبتة في سيارة أجرة تعرض المحادثات الدائرة بين ركّابها والسيدة التي تعمل عليها ، و"شيرين" التجربة الصامتة التي يصنعها ملتقطاً لتعبير 114 ممثلة في قاعة عرض سينمائية يشاهدون أسطورة فارسية شهيرة ، ورغم تقديري للتجربتين إلا أن كلاهما لم يَزِد عن طَوْر "التجربة" وافتقد شيئاً من العظمة التي حَمّل بها الرجل أفلامه الستة الأهم

"
أين يقع منزل صديقي ؟" .. "كلوس آب" .. "والحياة تستمر" .. "عبر أشجار الزيتون" .. "طَعْم الكَرَز" .. "ستحملنا الريح"، ستة أفلام فرضت "عباس كياروستامي" واحد من أهم وأعظم المخرجين على مستوى العالم ، وصنعت له بصمة سينمائية لا تُخطئها العين ، وأصبحت قصص القُرى البسيطة .. مشاكل الأطفال غير الهامة للناضجين .. محادثات السيارات .. اللقطات الطويلة بكاميرا المُثَبّتة .. الدمج المُذهل بين الوثائقي والروائي ، ترتبط باسم عبّاس كياروستامي قبل أي سينمائي آخر

"
أعتقد أن المخرج الإيراني عباس كياروستامي مخرج استثنائي ، الكلمات وحدها لا تستطيع أن تصف مشاعري نحوه ، أقترح فقط أن تشاهد أفلامه ، وقتها ستدرك ما أعنيه" .. أكيرا كوراساوا .. 1991

Five Dedicated to Kiarostami

1


"طاهرة ، متفتكريش إننا لما نتجوّز هتعبك بطلباتي زي ما بيحصل بين بقيت الناس ، أنا مش عايز أتجوّزك عشان تطبخي لي ولا عشان تكوي لي هدومي ، أنا عايز أتجوزّك عشان ده هيخليني مبسوط من غير ما أعوز أي حاجة تانية من الدنيا ، وانتِ هخليكِ تستمري في دراستك لو عايزة ، هفضل أشتغل عشانّا ، هآكل برّة لمّا تكونِ مشغولة ، الحاجة الوحيدة اللي نفسي فيها إني أقدر أسعدك وأخلَّيكِِ مبسوطة ، انتِ بتحبّيني مش كده ؟؟"


2


"أنا صاحِب يوسف ، في الحقيقة أنا رئيسه ، ارفعي المصباح عشان أشوفك ، أنا مشفتش يوسف ، على الأقل خليني أشوفِك انتِ ، مش هتقولي لي اسمك ؟ مش هتخلّيني أشوفِك ؟"


3


"أنا هحكيلك على حاجة حصلت لي بعد ما اتجوّزت بشوية ، حوالي سنة 60 كده، وقتها كل حاجة كانت ملخبطة في حياتي ، كنت غضبان وحاسس إن مفيش فايدة ، عشان كده قررت أخلص من كل حاجة ، طلعت يوم قبل الفجر وخدت معايا حبل في العربية ، ومشيت "لميرانا" لحد ما وصلت لمزرعة توت ، وقفت هناك وكان لسه الصبح مطلعش ، رميت الحبل على الشجرة بس ممسكش فيها ، مرة واتنين وتلاتة ، آخر ما زهقت طلعت في الشجرة وثبّت الحبل جامد ، لحظتها حسيت بحاجة ناعمة تحت إيدي ، كان توت ، كلت واحدة .. اتنين ، كان حلو أوي ، كلت تلاتة أربعة ، فجأة شفت الشمس وهيّ بتشرق فوق الجبل ، الشمس طلعت ونوّرت كُل الخُضرة اللي كانت حواليا ، وفجأة برضه سمعت الأطفال وهما رايحين لمدارسهم ، وقفوا بصولي وقالولي أهزّ الشجرة ، هزتها ، وقع التوت عليهم وفضلوا يكلوه وهما بيتنططوا ، حسيت لحظتها إني مبسوط ، خدت شوية توت معايا وروّحت بيهم ، كانت مراتي لسه نايمة ، ولما صحيت كلنا التوت سوا وكانت هي كمان مبسوطة ، حَبّة توت أنقذوا حياتي .. تخيّل ؟ ، الحزن والمشاكل والوجع والعجز كلها أشياء رهيبة ، بس فيه حاجة أسوأ من كل ده ، الموت ، لما تقفل عينيك عن العالم ده ، عن كل الجمال وعجايب الطبيعة ونعم ربنا ، ده معناه إنك مش هترجع مرة تانية ، بيقولوا إن الآخرة أجمل .. بس مين جه من هناك عشان يقولنا ؟ ، الحياة أجمل من الجنّة"


4


"طاهِرَة ، طَاهِرَة ، أنا مش هقدر أرجع تاني عشان أشوفك ، لو عايزة جاوبيني دلوقتي ، متفكريش زي جدتك ، الجدات مش بيفكروا غير بعقلهم وبيحسبوها بالراجل الغني اللي عنده بيت وفلوس ، بس التفاهم والحُب مطلوب برضه ، أنا عايز أعيش معاكِ ومش عايز أي حاجة تانية من الدنيا ، ربنا يشهد عليّ ، مش عشان جمالك ولا عشان أي حاجة تانية ، فيه بنات أجمل منك .. فيه بنات أحسن منك .. ممكن أتجوّز أي بنت منهم بس أنا مش هعمل كده ، أنا عايز أتجوّزك انتِ ، جاوبيني ، تعالي نتجوّز ونعيش مع بعض ، هنكون إيد واحدة ونبني بيت جديد ، لو عايزاني قولي آه عايزاك ، طَاِهِرَة .. رُدّي عليّ !"


5


وراء تلك النافذة يرتجف الليل‏

والأرض تكف عن الدوران.‏

وراء تلك النافذة شيء ما غامض:‏

قلق لي ولك.‏

يا من كله أخضر‏

يداك اللتان مثل ذكرى ملتهبة‏

ضعهما بين يدي العاشقتين، ‏

وشفتاك‏

كأنهما إحساس دافئ بالوجود‏

ضعهما برفق على شفتي العاشقتين.‏

ستأخذنا الريح معها‏

ستأخذنا الريح‏

05 ديسمبر 2009

اهدأ مُحمّد .. تنشـَّق رائحة ميم


ثُمّ ماذا بعد ؟؟

يقولُ الكِتَاب المُقَدّس
: "رُبّما انتهينا من الماضي ، ولكن الماضي لم ينتهِ منّا"

ظلّ ليومين يُفكّر فيما يتوجّب عليه قوله ، وفي ثنائية "الذكريات والمسئولية" التي تحركه في تلك اللحظة ، كانت تلك هي أول جملة يقرأها في صفحة الكتاب الذي فَتَحه بعد أسبوعاً من عُزلتِه عن الحياة :
ما نحنُ إلا ذكرياتنا والمسئولية التي نتحملها ، فمن غير ذكرى لا وجود لنا ، ومن غيرِ مسئولية لا نستحق الحياة * ، فماذا إن ذَكّرْت ولم تنفع الذَّكْرَى ؟ .. ماذا أصلاً إذا تعارضت الذكرى مع المسئولية ؟

في اللحظات نفسها التي كان يفكر فيما سيستفيض في شرحه لها ، كانت تُجَهّز نفسها للُقْيَاه كطفلة تتجمل بفستانها الأحمر بانتظار بابا نويل ليلة عيد الميلاد ، تُفَكّر في طَرْحَةِ الشّعر التي يُحبها ، العِطْر الذي يملأ به أنفاسه ، واللون الأبيض الذي يُزيدها في نظره جمالاً ، تُفكّر في كم سيسعد حين تخبره بأنها قد شاهدت لتوّها فيلمه المُفضّل ، وأنه قد صارَ – بعد أن أخذت منه عينيه وشاهدته بها – فيلمها المُفَضّل كذلك ، تُفكّر في أن الكُوفيّة الحمراء ستكون مُناسبة ، وأن حضناً سريعاً قد يكون كافياً ليغمرها بالدفءِ حتى لو توّرد خدّيها بعد ذلك خَجَلاً

لم يكن هو في المقابل بكل تلك الأنانية ، فبخلاف إحضاره الكثير من الدموع والأحزان والأسئلة التي سترهقها كثيراً طوال الأيامِ المُقبلة ، لم ينسَ أن يُحضر لها "الطوفي" الذي تُحبُّه

في اعتقادي أنه لم يكن أنانياً بنفس القدر الذي قد تفرضه طريقة سرد أخرى لنفس الحدوتة ، الأمر بكامله يتعلق بافتقاره لليقين ، افتقار اليقين يفتح أبواباً للخيارات ، ربما أتعبه حمله لاختياراته ، ورغب في أن يُصير تعبه هو حمله لتبعاتها !

في المقابل ، فإن كل الأشكال التي يمكن أن تُسرد بها الحدوتة لن تغيّر شيئاً من كونها الطرف الأطيب .. الأطهر .. والأصدق ، تَحْمِلُ اليقين ، وبالتالي فخيارها كان مُحدداً ، أنها تُريده ، ومع ذلك فهي – الوحيدة – التي ستتحمل فيما بعد تبعات خيارات الغير وليس فقط خياراتها


"اهدأ .. تنشّق رائحتها" ، كل ذلك التردد والألم الذي شعر به طوال الأيام الماضية يكاد لا يوازي شيئاً بجانب تلك الرعشة التي ملأته حينَ احتضنته ، لحظة واحدة ، رُدّد داخله صوتٌ يَكادُ يُسْمَع : "اهدأ .. فقط تنشق رائحتها" ، كل محاولات التماسك التي استجمعها ليخبرها "باختياره" قد تفتت ، ابتسامتها الخَجِلَة .. خدّيها المحمّرين .. ابتسامتها الصافية .. صوتها الهادئ حيثُ تُخبره : "أصلك كنت واحشني أوي"

قبّل يديها إصبعاً إصبع

سألها – بعينيه – لماذا تجعل الأمر بكل تلك الصعوبة ؟ ، وكيف استطاعت أن تجعل أبعد ما قد يُنْطَق على لسانه هو قوله لها "أنني مُفارق" ؟

جلسَ أمامها ، أمسكت بيديها الدافئة يديه المُثَلَّجتين ، حاول للمرة الأخيرة أن يستجمع قوته كي يخبرها ، تحدثت هي بدلاً منه ، ظل ينظر إليها مشدوهاً وصامتاً ، وحين عَلَت هواجسه من جديد ، انتقل لكل يجلس بجانبها بدلاً من جلوسه أمامها .. وضع رأسها فوقَ صدره .. احتضنها .. تنشَّق رائحتها من جديد .. فهدأ

ولكنّ الكتابُ المقدّس يقول : "
ربما انتهينا من الماضي ، ولكن الماضي لم ينتهِ منّا"

فماذا بعد ؟؟

--

* جوزيه ساراماجو .. كتاب
"الذكريات الصغيرة"
** العنوان : مُسْتوحَى من ديوان أدونيس : "
اهدأ هاملت .. تنشق جنون أوفيليا"

03 ديسمبر 2009

The Wind will Carry Us


place your hands like a burning memory
in my loving hands
give your lips to the caresses
of my loving lips
like the warm perception of being
the wind will take us
the wind will take us

The Poem By : Forough Farrokhzad