05 ديسمبر 2009

اهدأ مُحمّد .. تنشـَّق رائحة ميم


ثُمّ ماذا بعد ؟؟

يقولُ الكِتَاب المُقَدّس
: "رُبّما انتهينا من الماضي ، ولكن الماضي لم ينتهِ منّا"

ظلّ ليومين يُفكّر فيما يتوجّب عليه قوله ، وفي ثنائية "الذكريات والمسئولية" التي تحركه في تلك اللحظة ، كانت تلك هي أول جملة يقرأها في صفحة الكتاب الذي فَتَحه بعد أسبوعاً من عُزلتِه عن الحياة :
ما نحنُ إلا ذكرياتنا والمسئولية التي نتحملها ، فمن غير ذكرى لا وجود لنا ، ومن غيرِ مسئولية لا نستحق الحياة * ، فماذا إن ذَكّرْت ولم تنفع الذَّكْرَى ؟ .. ماذا أصلاً إذا تعارضت الذكرى مع المسئولية ؟

في اللحظات نفسها التي كان يفكر فيما سيستفيض في شرحه لها ، كانت تُجَهّز نفسها للُقْيَاه كطفلة تتجمل بفستانها الأحمر بانتظار بابا نويل ليلة عيد الميلاد ، تُفَكّر في طَرْحَةِ الشّعر التي يُحبها ، العِطْر الذي يملأ به أنفاسه ، واللون الأبيض الذي يُزيدها في نظره جمالاً ، تُفكّر في كم سيسعد حين تخبره بأنها قد شاهدت لتوّها فيلمه المُفضّل ، وأنه قد صارَ – بعد أن أخذت منه عينيه وشاهدته بها – فيلمها المُفَضّل كذلك ، تُفكّر في أن الكُوفيّة الحمراء ستكون مُناسبة ، وأن حضناً سريعاً قد يكون كافياً ليغمرها بالدفءِ حتى لو توّرد خدّيها بعد ذلك خَجَلاً

لم يكن هو في المقابل بكل تلك الأنانية ، فبخلاف إحضاره الكثير من الدموع والأحزان والأسئلة التي سترهقها كثيراً طوال الأيامِ المُقبلة ، لم ينسَ أن يُحضر لها "الطوفي" الذي تُحبُّه

في اعتقادي أنه لم يكن أنانياً بنفس القدر الذي قد تفرضه طريقة سرد أخرى لنفس الحدوتة ، الأمر بكامله يتعلق بافتقاره لليقين ، افتقار اليقين يفتح أبواباً للخيارات ، ربما أتعبه حمله لاختياراته ، ورغب في أن يُصير تعبه هو حمله لتبعاتها !

في المقابل ، فإن كل الأشكال التي يمكن أن تُسرد بها الحدوتة لن تغيّر شيئاً من كونها الطرف الأطيب .. الأطهر .. والأصدق ، تَحْمِلُ اليقين ، وبالتالي فخيارها كان مُحدداً ، أنها تُريده ، ومع ذلك فهي – الوحيدة – التي ستتحمل فيما بعد تبعات خيارات الغير وليس فقط خياراتها


"اهدأ .. تنشّق رائحتها" ، كل ذلك التردد والألم الذي شعر به طوال الأيام الماضية يكاد لا يوازي شيئاً بجانب تلك الرعشة التي ملأته حينَ احتضنته ، لحظة واحدة ، رُدّد داخله صوتٌ يَكادُ يُسْمَع : "اهدأ .. فقط تنشق رائحتها" ، كل محاولات التماسك التي استجمعها ليخبرها "باختياره" قد تفتت ، ابتسامتها الخَجِلَة .. خدّيها المحمّرين .. ابتسامتها الصافية .. صوتها الهادئ حيثُ تُخبره : "أصلك كنت واحشني أوي"

قبّل يديها إصبعاً إصبع

سألها – بعينيه – لماذا تجعل الأمر بكل تلك الصعوبة ؟ ، وكيف استطاعت أن تجعل أبعد ما قد يُنْطَق على لسانه هو قوله لها "أنني مُفارق" ؟

جلسَ أمامها ، أمسكت بيديها الدافئة يديه المُثَلَّجتين ، حاول للمرة الأخيرة أن يستجمع قوته كي يخبرها ، تحدثت هي بدلاً منه ، ظل ينظر إليها مشدوهاً وصامتاً ، وحين عَلَت هواجسه من جديد ، انتقل لكل يجلس بجانبها بدلاً من جلوسه أمامها .. وضع رأسها فوقَ صدره .. احتضنها .. تنشَّق رائحتها من جديد .. فهدأ

ولكنّ الكتابُ المقدّس يقول : "
ربما انتهينا من الماضي ، ولكن الماضي لم ينتهِ منّا"

فماذا بعد ؟؟

--

* جوزيه ساراماجو .. كتاب
"الذكريات الصغيرة"
** العنوان : مُسْتوحَى من ديوان أدونيس : "
اهدأ هاملت .. تنشق جنون أوفيليا"