14 مارس 2012

بسكاليا (3-3): الثورة في زَمن يُسري نصر الله



غُرفة المونتاج المُكَيَّفة ، على الرغم من برودَةِ تِلكَ اللَّيلة من شَهر نُوفمبر ، تكادُ تُكَسّر عِظامه ، يبقى وحيداً هُناك ، كعادته دائماً ، ويُشاهد المادَّة التي تم تصويرها من الفيلم خلال النّهار ، المُظاهرة المليونيَّة لـ"تَسْليم السُّلطة" ، يُتابع الصّور ، يُدَقَّق في كُل كادر ، من الصَّعبِ إيجاد ولو ذقن واحدة غير حليقة ، جُمعة "قندهار" أخرى ؟ ، يَبحث في المواقع الإجتماعية ، وشاشات التلفزيون ، عن أي أخبار تخصُّ الوضع في الميدان الآن ، الاعتصام المَفتوح الذي دُعِيَ إليه حتى يتم تنفيذ مطالب الثورة ، لا شيء ، فقط بضع عشرات تبقوا ، كعادة كل مَرّة خلال الأشهر الأخيرة ، يُعِيدُ النَّظر إلى شاشة المونتاج أمامه ، عَلَم السعوديَّة ، راية سوداء كُتِبَت عليها الشّهادة ، هل هذا هو ما ظَن أنه سيصوَّره خلال تِلك المرحلة حين بدء الفيلم ؟

40
وَرَقَة كَتبها في أسبوع ، ثم أشهر مُتتالية مِن الإرهاق ، مئات الساعات من المواد المُصَوَّرة ، ليال طَويلة وحده بداخل غُرفة المونتاج ، يُحاول حَلّ أُحْجِيَة الثَّورة ، من أين تَحَرَّكنا ، إلى أين سنصل ، وماذا سيتغيَّر ، أو يتبقَّى ، فينا بعد كل هذا ، كانت الصورة واضحة حين بدأ ، يعرفُ جيّداً ما يُريدُه ، ويُبْصِر الطَّريق الذي يَتجه إليه الفيلم/تَمشي فيه الثَّورة ، ومع الوقت بدأ الضَّباب ، ثم تَزايد كُلَّما تقدَّم ، حتى لم يَعُد هُناكَ غَيره .

يَفْتَح أول مَشهد صَوره في الفيلم ، قبل سَبعة أشهر ، فتاة تَرسم الجرافيتي في شوارع وَسط البلد ، يَتذكَّر وقتها ابتسامته لـ"منة شلبي" التي كانت تقوم بالدَّور ، بادلته الابتسام دون أن تفهم ، ولكنه كان يُفكَّر حينها أن بهذا المُعَدَّل الذي تَسِير به الأمور ، ستصير جُدران القاهرة كُلها لَوحات جرافيتي مُتتابعة ، للشُّهداء ، ولأحلامهم .

الأحلام كانت مُبرّر كُل هذا من البداية ، طوال الساعات التي قضاها بين الشوارع  يوم 28 يناير ، حتى وصل إلى الميدان ، كان يُفكّر في السبب الذي دَفع العَشرات ، ثُم الآلاف ، ثُم الملايين ، من حوله في النّزولِ ؟ ، كَيف حَرَّكهم الوَعْي الجَمعي نحو أفعال مُوَحَّدة دون أن يعرفوا إلى أين يُفضي كُل هذا ؟ ، لَم يجد الإجابة حينها سوى في نَفْسه ، حيث شعر أن كُل أمنية تمناها ، كل فيلم لم يُصَوّره ، كُل صديق صَدَّق أنه لن يره مرَّة أخرى ، كل ما ظَن يوماً أنه لن يُحَقّقه ، كان يَنتظره هُناك ، وبدا أنه قريب ، وعلى الأغلب فإن كُل شخص آخر قد شَعْر بنفسِ الشيء .

هل كانت الثورة رومانسية إلى هذا الحد ؟ أم أنها الذاكرة ؟ ، يُفَكّر يُسري ، يُنظر مليَّاً إلى مِنّة وهي تَرْسُم الجرافيتي ، كانت هادئة ورائعة ، هذا كُل ما يَذْكره عن الثورة ، لم تَكُن الأمور وردية ، ولكن كان هُناك الأهم: كل الأحلام بدت مُمْكِنَة .

وكان الفيلم عن تَتَبُّع أحد الأحلام وهي تَكْبُر ، "ريم ومحمود وفاطمة" ، هكذا أسماه ، وأسْمَاهم ، على اسمِ أكثر من أحبَّهُم في حياته رُبما ، كان يَمْلُك أسئلة ، الكثير منها ، حينَ عَلِمَ أن أهالي نَزلة السّمان ، الذين نَزلوا إلى الميدان يوم مَوقعة الجمل ، وتم تصدير فعلتهم باعتبارها الاعتداء الأكثر عنفاً وهمجيَّة على الثورة ، كانوا قد باعوا أغلب حيواناتهم من الجِمالِ والأحصنة ، بأسعارٍ بَخْسَة ، لعدم قُدرتهم على إطعامها ، بعد توقُّف السياحة بشكل كامل أثناء الثمانية عَشر يوماً ، الصورة كانت في ذهنهم أن "الثورة" قد أفقرتهم ، وسَلَبتهم القليل الذي يملكونه ، وبالتالي ، فقد نَزَلوا وقتها بإيمانٍ ، للدفاعِ عن الأمن والأمان بالنسبة لهم ، والسؤال .. لم يَكُن كيف استطاع النّظام تجنيدهم ، دون وَعي ، ليصبحوا جُزءً منه ، ويربُط وجودهم بوجوده ، ولكن كان: أين سيصبح هؤلاء بعد الثورة ؟ وإلى أيّ جانب سَيَنْتَمُون ؟ ولمصلحة مَن تم تصديرهم كأعداءِ الثورة بعد نهار الثاني من فبراير ؟ وتجاوز صورة أكثر بَشاعة ودمويَّة قد جَرَت لَيْلَتها لقناصة يَصْطادون المُعتصمين من فوق أسطُح العمارات ؟

لَم يَكُن يملك أي إجابة ، هو فيلم يتحرَّك بالأسئلة قبل أي شيء ، مُحاولة الفهم ، الاستيعاب ، الاقتراب من "هُم" ، الذين قامَت لأجلهم الثورة وكانوا ضدَّها ، ليصبحوا "نَحْنُ" بكل الآمال التي وُلِدَت فينا ، ماذا سَيحدث ؟ ، ليس هناك إجابات ، فقط مَشاعر وأفكار ، ويقين كامل ، عن أن الثورة ستُغيّر في وجدانِ الناس ، ستُحَرّرهم من مخاوفهم ، وقرَّر أن يتتبع ذلك على مدار أشهر ، يرى شخصيَّاته وهي تتطوّر ، دون سيناريو ، فقط بالتفاعل مع كُل ما يحدث ، حتى إنتخابات الرئاسة ، التي يُفترض ، إن سارت الأحلام كما حَلِمْنَاها ، أن تُجرى خلال تِلك الأيام النُوفمبريَّة .

يُعيد النَّظَر إلى صفحات المواقع الإجتماعيَّة ، لا جديد ، صورة للميدان شِبة الخالي ، إلا مِن بضع عشرات ، يُحرّك الصفحة لأسفل في رَتَابة ، التَّعليق رقم 58 على صفحة "كُلنا خالد سعيد" ، الذي يَضَع صاحبه صورة الشهيد مينا دانيال ، يَقول في غضبٍ مكتوم: "عُدت من الميدان قبل دقائق ، بعد أن نزلت من البيت بنية الاعتصام حتى "تسليم السلطة" كما كان مُعلناً ، ولكني لم أجد أحد ، الشارع يسير الآن بشكل عادي ، المواطنون يشعرون بالسعادة لأن المليونية قد فشلت ، ومائة مُعتصم أمام المُجَمَّع سيَظلُّوا هناك لأسبوعٍ قبل أن يتم تفريقهم ، أشعر أن الثورة قد انتهت ، أمر مُحزن ، ولكن الأكثر حُزناً هو السؤال الذي يتردد في ذهني كل ثانية: لماذا قُمنا بها من البداية ؟ لأجلِ ماذا قدم الشُّهداء أرواحهم ؟ ، ثُمَّ: ما الذي سيبقينا هُنا بعد كُل هذا العَفَن ؟" .

ما الذي يُبقينا ؟ ، يُفَكَّر يُسري ، ووحدها كلمات "كفافيس" ، التي افتتح بها فيلمه قبل ثلاثة عشر عاماً ، حَمَلت الإجابة: "ستُلاحِقُكَ المَدينة وستهيمُ في الشّوارع ذاتها/سَيَدِبُّ الشّيب إلى رأسِك/وسَتَصِلُ على الدَّوام إلى تِلكَ الأحياء بعينها" ، يَكْتِبُ يُسري التَّعْلِيق رقم 59: "ومادُمْت قد خَرَّبت حياتُكَ هُنا/في تِلكَ البُقعةِ الصغيرة من العالم/فهيَ خراب أيْنما حَلَلْت في الوجود" .

فِي تِلْكَ الليلة ، أغلق يُسري المُكَيّف ، وكل الأجهزة الكهربائية الأخرى في غُرفةِ المونتاج ، نامَ على كُرسيه مُتعباً ، ولم يَكُن يعلم أن تِلكَ هي آخر مرَة سينام فيها ، لثلاث ليالٍ قادمة .

(2)
الحِلم كان نَفسه ، في كُل مرّة غَفا فيها خلال تلك الأيام ، يرى المَسِيح ، جاء من آخر الزّمان ، وشَقَّ ثائراً شارع مَحَمَّد مَحمود ، حتى وَصَل إلى المُقَدَّمة ، تَنَشَّق الغاز ، ورَمَى الطُّوب ، كانَ الجَمع من حَوْلِه كَثيراً ، ولَم يَكُن لَهُم ما يَأْكُلون ، فَخَاف عَليْهم من أن يَخُوروا ، وأتى بسبعِ خُبزات ، وَضَعَهم على الأرضِ ، ثُمَّ شَكَر وكَسَر ، وقدَّم إلى من حَوله ، وكان الآكلون نَحْوَ أربعمائة أو يَزيدُ قَليلاً ، فـأخذَ من بَيْنَهم بيدِ الأعمى ، إلى أوَّلِ الشَّارع ، وتَفَلَ في عَيْنَيه ، وَوَضع يَدَيه عليها ، وسأله: هل أبْصَرَ شيئاً ؟ ، فَتَطَلَّع وقال: "أُبْصِرُ النَّاسِ كَملائِكَةٍ يَمْشُون" .

فَتَح يُسري عَينيه ، أَبصر تلاميذه ، ولم يَرُهم ، حيث كانت كراسي القاعة فارغة أمامه ، نظر إلى ساعته ،     وجدها العاشرة إلا رُبع ، يتبقى خمس عشرة دقيقة  ، على مَوعد المُحاضرة التي يُلقيها في معهد السينما ، صباح يوم الاثنين .

الصفحة الشخصية له على تويتر لم تحمل أخباراً جديدة بشأن المعركة الدَّائرة في مَنْطِقةٍ أخرى من نفسِ المدينة ، منذ متى لَمْ يَرَ شيئاً كهذا ؟ ، حَضَر حرب لبنان في شبابه ، صَوَّر فيلماً ملحمياً عن فلسطين ، يعرف جيّداً رائحة الدَّم ، وطَعم الحُزن ، ما كان يَجْري لم يَكُن يبتعد أبداً عن ذلك ، في محمد محمود هُناكَ حرباً ، رِجال وملائكة ، في مَواجهة وحوش سوداء ، والحَقُّ واضح بينهم .

عدم وجود جديد ، جَعله يدخُل ، تلقائياً ، إلى صفحة "أحمد البحَّار" ، ويقرأ ، لمرةٍ لا يعرف عددها ، "التويتة" التي كتبها صباح أمس ، عن طَبيب الأسنان الذي فقد إحدى عينيه في 28 يناير ، وفَقَد الأخرى قبل يومين ، حين كان في الصفوفِ الأولى ببداية المَعركة .

"
الناس بتكلم عن دكتور أسنان فقد عنيه فى مرحلتين ومستقبله راح ، لكن ده صاحبى أنا بتاعى أنا بتكلم عن حرارة اللى بيعتبر نفسه فرفور من المعادى ، أ*ا أمال مين البطل يا ع*ص أنا ؟ ،، امبارح أمه وقرايبه تكلمه من المغرب يروح " زى كل معركة راحها وهو بعين واحدة العباسية أو موقعة البالون " ، رد عليها قالها الناس كتير ، قلتله أنا الناس كتير بس إحنا اللى بنتفشخ لوحدنا والباقى مع*ص بيهتف ، قالى خليها ع الله .. أهو خليناها ع الله يا حرارة إيه النتيجة ؟؟ مفيش كلب مات منهم واللى مات وإتصابو مننا إحنا أنت مش هتشوف النور تانى مش هتشوف أمك تانى مش هعرف أعملك تاج لأنك مش هتعرف تحط كومنت .. ليه مجتش فيا وكملنا عور إحنا الإتنين ؟ أقسم بالله مكنت هزعل .. اه وألف اه يا صاحبى"

حين قرأها يُسري لأولِ مرة ، بدأ المَسِيح يَزوره حِين يَغفو ، ويأخذ ، في كُلّ مرة ، بيدِ الأعمى .

يَنْتَبه يُسري على صوتِ باب القاعة الذي يُفتح ، العاشرة إلا خمس دقائق ، أحمد أبو الفضل ، طبيب الأسنان ، والطَّالب في السنة الثانية بالمعهد ، يَدْخُل ، ويُسَلّم عليه في وِدّ ، يَجْلِس في مكانه على الكُرسي الأول من ناحية اليَسَار ، ولكن دون أن يحمل حقيبته المُعتادة ، يَسأله يُسري عن الميدان ، وهو يعرف بكونه كان هُناك دون معلومة مؤكدة ، فيجيبه ، باقتضاب ، أنَّهُ بخير .

أحمد كان قد قَضَى ليلته في الميدانِ ، وحيداً للمرة الأولى منذ بداية الثورة ، إلاَّ من أُنسِ الله ، وملائكته التي كادَ يُقسُم أنه رآها فوقَ شارع محمد محمود ، أحمد بَكَى كثيراً على أحد الأرصفة ، قُرب ساعات الفجر الأولى ، وهو يَشْعُر وكأن الثورة قَد بُعِثَت فيها الرَّوحِ من جديد ، وصَلَّى الفجر ، باكياً وشاكراً ، قبل أن يَلْحَظ أن الإمام الذي أقام الصلاة ، كان الشيخ عماد عِفَت ، الذي يَعرفه منذ أن حَضَرَ عنده ، قبل سنوات ، دروس دينية في الأزهر ، فذهب ليُسَلّم عليه .

أحمد لم يَكُن يعلم لحظتها أن يُسري أيضاً يَبِيتُ في الميدان على مَقربة ، قضى ليلته أمام "سفير للسياحة" ، في نَفسِ المكان الذي شاهَد أمامه جُثَث الشُّهداء المُتراصة قبل ساعات ، وصَمَّم أن يَظَلّ فيه ، لأنه كان يَعْرِف جيداً قَسَمات وجه الموت ، وقد رآها ، وجَزَع ، ولكن مِثْلَه كَمَثلِ كل من ظَلَّ في الميدان وقتها ، قرَّر المُقاومة ، وبقى ، يَسْمع من الشارع القريب أصوات المَعركة التي لا تتوقف ، سنوات عُمره الستين لم تُعينه على أن يكون مع الفتية هُناك ، ولكن في كُل هذا كان يرى انتصاراً للروحِ ، واستقواء بالحق ، وعودة للثورة .

وحينَ كان ، بين كُل ساعة وأخرى ، يَهتزُّ ويَسْتَقوى ، بعد أن يقرأ " أمال مين اللي بطل يا ع*ص أنا؟" ، لم يَكُن يُسري يَعلم أن البحَّار يَبيت ليلته في شارع محمد محمود ، بمعركةِ لا تنتهي ، ولكنها تزيد من كانوا هُناكَ إصراراً ، ومع الوقت .. استأنسوا الرَّصاص ، وتآلفوا مع الغاز المُسيل ، ومَنَحُوا حياتهم ، راضيين ، لِتلْكَ الثورة .

البَحَّار ، كان يُمارس الإحلال في كُلّ لحظة ، بين مشاعر اليأس والهَزيمة ويُبَدّلها بمشاعر الأمل والانتصار ، يُقرر ألاَّ يُحَمّل الثورة حُزنه ، وإنسانيته المسلوبة ، لا فقد من أحبهم ، ولا دموع الأقرباءِ عليهم ، لا عَينا حرارة ، ولا ساعات العَتْمة الكئيبة التي سيعيشها لبقيةِ عمره ، يَتسامح مع كل شيء ، وكل ما فقده من رفيقٍ أو شعور ، فقط لتبقى الثورة مُستمرة .

أحمد كان يَبْكِي الشُّهداء بين يَدَي الشيخ عِماد ، الذي رَبَتَ على كَتفه ، أخبره بأن تِلكَ آية عن القِلة القليلة التي تَغلب فئةً كثيرة بإذنٍ من الله ، وذَلِكَ فَصْلٌ عن الانتصارِ للحَقّ والرَّوح ، آنَسَه بقولِ عُمر بعد أُحِد "شُهداءنا في الجنّة وقتلاهم في النَّار" ، وذَكَّره بأنهم أحياءٌ عند رَبّهم يرزقون ، وتَمنَّى أن يَكْتبه الله مَعهم ، دون سواهِم ، وقال مُبتسماً ، أنه يَنْبَغِي لنا أن نَفرَح ونَسُر ، لأن تِلْكَ الثورة كانت مَيتة فعاشَت ، وكانت ضالَة فوُجِدَت .

هدأ أحمد ، وكان مرتاح البال ، ولذلك ، فحينَ سأله يُسري ، صباح اليوم ، عن الميدان ، تَحَجَّرت الكلمات في فَمِه ، وأجاب بكل ما يعرفه في تِلكَ اللحظة: "أنَّه بخير" .

العاشرة وخَمْس دقائق ، تبدأ المُحاضرة

(3)
لماذا نَصْنَع الأفلام ؟

لماذا كُل هذا المجهود الذي بذله في تَجربةٍ عَصيبة كتِلك ؟ ، "لأن الأفلام هي ذاكرة حياتنا" ، يُخبر يُسري طُلاَّبه ، يوماً ما ، بعد سنوات ، طالت أو قصرت ، ستتساقط منّي التفاصيل ، لن أعرف متى جرى كُل هذا ، ما كُنت أشعره أثناء حدوثه ، كَيف وصلنا إلى تِلْكَ النُّقطة ، الأفلام تَحْفَظ الذكريات ، تُبقيها حَيَّة .

قَرَّر يُسري أن يُنهي فيلمه ، بعد شهور طويلة من التصوير ، في نوفمبر أيضاً ، ولكن بدلاً من انتخابات الرئاسة ، سَيجعل الخِتام صورة أخرى ، في جُمعة 25 نوفمبر المُقبلة ، بالميدان الذي بدأ منه كُل شيء ، وبدلاً من الحِكاية التي أرادَ أن يحكيها ، عن تحرُّر الشخصية المصرية من الخوفِ ، استبدل ذلك بحكايةٍ أخرى ، أبسط ، يَوماً ما قُمنا بثورة ، ثورة عظيمة ، ولكنها سُرِقت مِنّا ، ولم نَستعدها سوى في مَحَمّد محمود .

لاحقاً ، في ساعةٍ أخرى من ذلك اليوم البعيد ، قابل أحمد أصدقاءه في الميدان ، ولم يَذهب إلى هُناك وحده مرة أخرى ، تَعِبَ البَحَّار ولم يَعُد يتقدم كثيراً للصفوفِ الأولى ، ولكنه بَقَى في محمد محمود طوال الوقت ، الشّيخ عِماد اصْطَحِب ابنه إلى الميدان ، وصُدْفَةً قابَلَ حَرارة الذي عَلِمَ أنه سَيفقد عينيه إلى الأبد ، فكان أول ما فعله هو العودة إلى مَكَانِه ، ويُسري نصر الله انضم إلى مسيرةِ الفنانين التي انطلقت من أمام النقابة إلى الميدان ، ومَشَى إلى جانب إبراهيم أصلان ، وداوود عبد السيّد ، ومحمد خان ، الذين لم يَرُهُم منذ وقت طويل ، المَسِيح ظَل يَزوره في المَنَام كُلما غفا ، والثورة كانت مُستمرَّة .

لَم يَعُد يتبقى شيئاً من كُل هذا ، كان الليل ينقضي ، والهدوء يتراجع ، كما تتراجع الأحلام .

07 مارس 2012

بسكاليا (2-3): زمن اللّعب رَاح يا خان



الشّوارع تبدو مُوْحِشَة مُجدداً ، والمدينة لم تَزَل مُعْتِمَة ، الغيوم تَكْسُو سَماء القاهرة ، وكأنّ الشمس قد قرَّرت الاحتجابِ حُزناً ، وجوه المارَة ، القليلين في السادسة صباحاً ، حتى لو كان ذلك بميدانِ رمسيس ، تَمُر أمامُه مُكْفَهِرَّة ، بخطى ثقيلة ، لا أَحَد ينظُر في عَيْنَي الآخر ، لا أحد يتحدَّث .

كان الجميع وكأنَّهم قد استيقظوا من النَّوم لتوّهم ، على كابوسٍ واحد مُشترك ، يُحاولون الهَرب منه ، ولو بالتواطؤ صَمتاً حتَّى يَنسوا ، وما مِن مَهرَبٍ كان أو نسيان .

ظَنَّ ، وهُوَ يَسِير بين شوارع وَسَط البلد ، التي صاحبها لخمسين عاماً ، من رمسيس حتى ميدان التّحرير ، مروراً بعمادِ الدّين والألفي وطَلْعَت حَرب ، أن تِلكَ المَدينة لن يُفارقها الحُزن بعد ذلك أبداً ، وكأنَّه في مَشهد النهاية ، بأولِ أفلامه ، ولا يَتبقى الكثير حتى تُحال الشَّاشة إلى سوادٍ كامِل .

في السَّابعةِ صباحاً ، كان قد وَصَل إلى بَيته ، وكانت الشَّمس لَم تَزل مُحتجبة ، وِسَام كانت نائمة ، والتلفزيون كان مُشَغَّلاً دونَ صوت ، جَلَس على الكُرسي بجوار السّرير ، نَظَرَ إلى الشَّاشَة ، الكلام الأبيض المَكتوب على خلفية سوداء ، ظَلَّ ثوانٍ حتى أدرك ، كان يَعلم أنه لو قام برفع الصَّوت سَيَسمع أحمد زَكِي ، ولكنَّه  رَدَّد بدلاً مِنه "فيه ناس بتلعب كورة في الشَّارع" ، وحين وصل إلى أنَّ "الناس بتشتم بعض .. تضرب بعض .. تقتل بعض في الشَّارع" ، كان الجالس على كُرسيه قَد غَفَا .


قبل اثنتى عشر ساعة من كُلّ هذا ، كانت الأمور هادئة ، رُبما أكثر من العادي ، لأن خان قد قرّر أن يُمارس هوايته المُفضَّلة الثانية ، بعد الإخراج ، ويُحَضّر الطعام ، له ولوسام ، ومَزاجه كان رائقاً لذلك .

لديه نظريَّة قديمة ، عن كَونِ تحضير الطّعام ، أشبة ، تماماً ، بإخراجِ الفيلم ، كيفَ تَضع جُزء من رَوحك في الأمرِ كُل مرّة ؟ ، تُحافظ على أن يَحدث كل شيء في اللحظة المُناسبة ، أن تَقْطَع المشهد هُنا وليس بعد ثانيتين ، في مُقابل أن تُضيفُ بقيّة الخضروات حين يَصِلُ البَصَل إلى اللَّونِ المَطلوب ، مَتى يُمكن أن تَدْخُل الموسيقى ، وكم من البُهارات يجب أن تضعها ، أي زاوية تختار لِلَقطة الفينالة التي تُنهي كُل شيء ، واللحظة التي يُمكن فيها إطفاء النَّار بعد أن طُهِيَ الطّعام لدرجةٍ مِثاليّة ، كُلها أشياء تَخْضَع للرَّوح والذَّائِقة ، سواء سُمّيَ "الإيقاع" في السيّنما ، أو "النَّفَس" في الطَّعام ، الآن صار كُل شيء جاهزاً .

في كُلّ فيلم من أفلامه كان هُناك مشهداً ، على الأقل ، حولَ مائدة طعام ، يحيى الفخراني قرَّر البقاء في الرّيف لأن نَفَس فريد شوقي في الطَّبخ كان عظيماً ، لم تجد سعاد حُسني ما هو أكثر قسوة من أن تَقْتُل نفسها مع حسين فهمي وهم جالسين على العَشَاء ، اللَّحظة التي أدركت فيها ميرفت أمين أن أحمد زكي قد تغيَّر كانت حين انفعل عليها أثناء الأكل .

لذلك فلا يُمكن أن تصنع طعاماً سيئاً ، أو فيلماً ، إذا نَفَّذته مُحِبَّاً ، يُقَطَّع الفِلفل ، الطَّماطِم ، يَستخدم "الموس" للحصول على شرائح رَفيعة من الثَّومِ ، كَم كبير من عَصِير اللّيمون كَي تُتَبّل فيه الفراخ ، يترك المَكرونة كَيّ تُسْلَق ، يتذكَّر حين أحضر منّة وهند إلى بيته ، ليطبخوا جميعاً ، قبل الذهاب إلى وسط البلد ، فشعرتا بالفعل أنَّهن صديقتين قديمتين ، لأن صُنع الطّعام يَخلق أُلفة تلقائية ، يَبتسم حين يُفكَّر أنه طَباخ ماهِر ، تماماً كموهبته  كمُخرج ، ستكون أكلة رائعة ، فـ متى يصنع فيلماً رائعاً من جديد ؟!

تَمُرّ الفكرة حادّة كالنَّصل ، وكأنَّه قد لَسَع يديه فجأة ، متّى ؟؟ ، لا يعرف ، يُلقي بنظره تلقائياً على الجوائز ، وشهادات التقدير التي قرر منذ فترة طويلة أن يصنع لها براويز ، ولم يفعل لأن خاطر قال له أنه يجب أن يُحقق المزيد من الأفلام قبل أن يبدأ في أمرِ البراويز .

كان ذلك وقت تكريمه في المهرجان القومي للسينما قبل ثلاث أعوام ، "محمد خان .. ذاكرة سينمائية تتحدّى النسيان" ، يُفكَّر في أنه كان عنواناً مثالياً لكتابٍ عنه ، فقد وَضَع كُل التفاصيل التي مرَّت عليه في حياته بداخل أفلامه ، حتى لا ينساها حين يَكْبر ويَشِيخ .

كان مُمتناً ، وقتها ، لأجواءِ الاحتفال ، الأصدقاء القدامى ، التلاميذ الذين صاروا زملاء ، الجمهور ، مَحَبّة الغرباء قبل الأقرباء ، حتى الأسئلة السَّخيفة المُعتادة لم يغضب منها ، "إيه رأيك في المهرجان السنة دي؟" ، "تحب تقول إيه عن اختيارك بين المُكرّمين؟" ، "بتعتقد إن الدولة بتقدر مُبدعيها الأحياء؟" ، "إيه إحساسك بالتكريم؟" ، ما هو إحساسه بالتكريم ؟ ، "لا أعلم ، أنا سعيد ، سعيد لأني حَيُّ أُرزق ، لأنني لازلتُ قادراً على إخراج المزيد من الأفلام" ، يَصمت قليلاً ثُم يُكمل "بالنسبة لي التكريم ليس لي ، هو لأفلامي الماضية ، التي صارت كائنات مُستقلة عني ، التّكريم الذي يخصني هو الذي يأتي عن فيلمٍ جديد ، لازال مُلتصقاً بي" ، "طيّب امتى هنشوف فيلمك الجديد ؟"

يَرِنّ السؤال بدويٍّ مُزعج الآن ، "امتى ؟!!" ، أيُّ فيلم هو المقصود أصلاً ؟ ، خمس سنوات ، خمس مشاريع ، في كُلّ مَرة يَضغ جزء من روحه ، رُبما روحه كاملةً في الأمر ، "ستانلي" "نسمة" "الأستاذ إحسان" "المسطول" "فتاة المصنع" ، تتزاحم الأحداث والشخصيات داخل رأسه الآن ، أُرهق من دوران الأمر بنفسِ الشكل كل مرة: تِطَلَّع نَفسِك على ورق ، مشاكل مع الرقابة ، شِحاتة التمويل ، تِدَوَّر على من سَيُصَدُّق ويؤمن بما تُريد حَكْيه ، تِلاقي نفسك مَلْطَشة لمن أحب ومن لم يُحب ، ثم في النهاية: يُوضع كل شيء في دُرجِ المَكتب ، وخبر جانبي بالصُّحف "تأجيل الفيلم الجديد للمخرج محمد خان بسبب مشاكل إنتاجية" ، ليست مشاكل إنتاجية ، ولكن فساد احتل كُلّ شيء ، حتى السينما ، يسأله صَحَفي منذ عدّة أشهر "إزّاي مُخرج بقيمة محمّد خان بقاله خمس سنين معملش أفلام ؟" ، يُجيب "انتَ بتسألني أنا ؟!" .

ورغم ذلك فمازال يُفكَّر ، ويتحمَّس لكلّ فيلم كأنه أول فيلم ، ويشعر أنه سيموت لو لم يَفعله الآن ، ويؤمن أنه سيموت بالفعل حين يتوقف عن الشعور بذلك ، المُخرج ، أيّ مُخرج ، يجب أن يحمل دائماً شيئاً يُريد حَكْيه ، موقف ، نُكتة ، تفصيلة ، فكرة يعبَّر عنها ، أو إحساس يوصَّله .

فِي تِلك اللحظة: كاد الخُضار أن يَسْتَوي ، واستعد خان لأن يُضِيف الصَّلْصَة ، وعَقله مازال مشغولاً بشأنِ فيلمه القادم ، فارس كان يَلْهث في الثُّلث الأخير من فيلم "الحريف" الذي تعرضه إحدى قنوات التلفزيون ، وفي قناة أخرى ، كان المصري يُحرز هَدَفُه الأول في الأهلي .

يُضيف الصَّلْصَة ، وتَسْتَمِر الأفكار في مُداعبته ، غالباً ما حَرَّكه "إحساس يُريد إيصاله" أكثر من أي شيء ، أمرٌ عابِر ، إعلان في الجرنان عن اختفاء مُوظَّف خَرج من بيته ولم يَعُد ، امرأة تقوم كل ليلة بلعب البوكَر في شَقة جارتها ، عامِل بسيط ذو شُهرة فائقة في الكورة الشَّراب بداخِل حَيُّه ، يتحوّل الأمر لأشخاص ، ثُم تفاصيل ، ثُم فيلم ، لا يعرف كيف يبدأ كُل هذا ، ولكنه ينتهي في قاعة عرض يُشاهد بها عمله لأول مرَّة ، يَفْخَر بأنه لَم يُقدّم أي قصة لم يُحبّها أو يضع فيها جزءً منه ، لذلك فهو يعتقد أنه لم يُقدّم أي فيلم سيء ، ولكن فَخره بذلك لا يكون صافياً ، يُحاول الهرب ، ولكن دائماً ما يتذكر "السادات" ، دائماً ما يتذكره الجميع .

في تِلك اللَّحظة ، كان على خان أن يُقَلّب الصَّلصة مع الخُضار ، وأن يُهَدّئ النار كَي يَسْمح لهم بطهوٍ جَيّد ، ولكن انفعاله بالدفاعِ عن نفسه ، للمرة الألف خلال عشر سنوات ، جعله يغفل ذلك ، في نفسِ الوقت .. كان المصري قد جاء بهدفٍ ثانٍ ، ونزلت بعض جماهيره إلى أرض المَلعب كي تحتفل مع لاعبيها أثناء المباراة دون أن يمنعهم أحد ، وكريم عادل ، أحد قادة ألتراس الأهلي ، كان يتمنى ، للمرّة الأولى في حياته ، أن ينتهي الأمر بانهزامِ فريقه ، كي يُحافظ على حياة أفراد المَجموعة ، إزاء غَضب الجماهير على الناحيةِ الأخرى ، والأمن الذي بدا غائباً ، وفارس كان قد قرَّر تَرك الكُرة الشراب والشُّغل مع شعبان في التَّهريب ، يُخبر ابن عَمُّه أن "كُلّنا غلابة يا مُحْسِن" .

"السادات" ، يَنطقها بغضب مكتوم ، كان فيلماً جيّداً ، كان عملاً جديداً في السينما ، 12 مليون جنية إيرادات في عصر اللمبي ؟ ، تكريمات مُتتالية ، من رئاسة الجمهورية ؟ لا بل من الدولة ، "لم أقم بإظهار جوانبه السيئة لأن الأمر كله بمثابة صورة ذاتية عن نفسه ، مُقتبس عن كتابه ، كما أن السيناريو كاملاً كتبه أحمد بهجت ويُسْأل هو عنه" ، يتنفس بعمق وكأنه قد فرغ لتوّة من لهاثٍ ، "ومنذُ مَتى لا تُشارك في السيناريو ؟ ، أليسَ هذا هو الفيلم الوحيد الذي لم تَكْتُب فيه أو تَصنع له الدّيكوباج ؟" ، يَشُم رائحة الخُضار الذي حُرِقَ قَعره على النار ، يتوتّر ويُقَلّب في غضب ، يُحاول أن يُقنع نفسه بأن ما من شيءٍ سيء قد حدث ، يُهدّئ النَّار ، "نعم لم أكتب في السيناريو والدّيكوباج ، نعم لم أرضَ عنه بشكل كامل ، وربما تراه فيلماً سيئاً ، ولكن أتذكر ما هو الأكثر سوءً ؟ الجلوس في المنزل ست سنوات دونَ عمل ، أن ترى السينما وهي تتحرَّك للأمام وتبدو كأنها قد نَسَتْك ، أن تَقول كلمة "أكشن" وأنتَ وحدك لأنك تفتقد شعور التواجد وراء الكاميرا ، أن يَمُوتَ عاطف ، ويَتَّجه خيري للتلفزيون ، ويَظَلّ داوود يُجاهد بين كل فيلم وآخر ، وكأن أحداً لم يَعُد يُريد جيلاً كاملاً كان الأهم لسينما تَحْتَضِر" ، يَتَصَبَّب عرقاً وهو يُقَلّب بآليَّة ، يشعر بثُقلٍ شديد ، "نفس الأمر الذي يتكرَّر الآن ، لو عُرِضَ عليكَ السَّادات مرّة أخرى في تِلك اللحظة ، هل سترفضه ؟!" ، لا يُجيب خان على نَفْسِه .

ظلَّ لفترة لم يُجب ، كانت كافية لأن يُحرز المَصري هَدَفه الثالث ، عَبدنيو ، قائد آخر للألتراس ، نَزِلَ من فوق السَّماعة التي يقودُ من خلالها المَجموعة ، وآثر تجميعهم سوياً في مُنتصف المُدَرَّج ، قلِقاً من الأجواء الغريبة التي كانت في الإستاد ، فارس كان يلعب مباراته الأخيرة في الفيلم الذي ستُعيد القناة عرضه صباح اليوم التالي ، يوسَف محمَّد ، أحد أعضاء مجموعة الألتراس ، من المطريَّة ، أدرك أن المُبارة قد انتهت ، ذَهَبَ إلى الحَمام بعد أن تحامل على نفسه منذ بداية الشَّوط ، وخان كان غاضباً ، لم يَعُد يستمتع بأكلته ، أدرك يقيناً أنها ستكون سيئة ، صَفَّر الحَكم ، نَزَلَ الآلاف أرض الملعب ، باتجاه مُدرَّج النادي الأهلي ، تَرَك خان الأواني على حالها ، وغادر المَطبخ ، صَارَ المُدَرَّج مُحاصراً بشكلٍ كامل ، وبدأت المجموعة تَتَّجه ، لاهِثَة ، نحو مَمَر الخروج ، هَرباً مما بدا أنه الموت ، فارس كان يَلْهَث أيضاً ، البوابات كانت مُغلقة ، شَعرَ خان وكأنه يَختنق بأفكاره ، الشهيدُ الأول ثُم الثاني ، يَسأل بَكر "مش هتلعب تاني يابا صحيح" ، هذا هو الشّهيد العاشر ، يَظْهر عبر البَثّ المُباشر ، لم يَكُن هواء القاهرة يَكفي خان كي يَتَنَفَّس ، يَلهث فارس ، يعود يوسف من دورة المِياة ، يُحاول كَسر الباب المُغلق ، يَنْكَسِرُ عليه ، ويَسْقُط شهيداً جديداً ، يَحْتَضِن فارس ابنه "خلاص يا بكر .. زَمَن اللّعب رَاح" .


في السَّاعاتِ التَّالية ، ظَلّ خان يُتابع أعداد الشُّهداء التي تتزايد كُلّ دقيقة ، يَشعر بالقَهْرِ ، والعَجْز ، وما هُوَ أكثر كثيراً من الحُزن ، صُورة المُشِير الذي خَرج ليُعلن ، بعد أن قارَب الشُّهداء على الثمانين ، أن هذا يَحْدُث في أي حتّة في الدنيا ، ملأته بالغَضَب ، وفي الثانية صباحاً عَرِفَ أن أهالي الشُّهداء سَيَتَّجهون إلى مَحَطَّة مصر ، أملاً في أن يعود أبناءهم على القطار القادم من بورسعيد ، يَتَّجه إلى هُناك ، وفي المحطَّة يَقِفُ مَذهولاً ، يُحاول أن يُردَّد مع الهِتافات المُنْطَلِقَة ، "يَسْقُط يَسْقُط حُكم العَسْكَر" ، ولَكِن صوته يَخْتَنِق ، يَنظر إلى الآباءِ والأمهات ، الأخوة ، الأصدقاء ، وهُم يمرّرون بينهم أسماء الشُّهداء المُعلنة حتى الآن ، يَقترب ، يبدو تائهاً ، كَكُلّ الوجوة حَوله ، يربت على كَتِفه شاب يُبدي تماسكاً ظاهرياً ، "إن شاء الله يا حاج يرجع سَليم أو مُصاب ومتلاقيش اسمه" ، ثُم يُعطيه وَرقة بالأسماء ، يُمَرّر عينه ، يتوقف عند كل اسم ، قبل أن ينقل عينيه إلى آخر بصعوبة ، لا يستطيع أن يُكمل عند نصف الورقة ، بعد أن أصابته دُوخة ، لَم يَعُد يَحْتَمِل ، أصوات البُكاء ، النَّحِيب المَكتوم حوله ، والهِتافات الآتية من على شَريط القطار ، يجلس على أحد الأرصفة ، يَسْنِد ظَهره على عامود ، تَغْفَو عينيه من الحُزن .

تُوْقِظه وِسام قُرابة العاشِرة صباحاً ، كي يَترك الكُرسي ويَنام على السّرير ، يَشعر ، لأول مرة في حياته ، أنَّه بالفعل عَجوزاً في السَّبعين ، ينتقل بصعوبة إلى سريره .

وبين النّوم واليَقظة ، يَمُر على باله أن الحِلم الوحيد الذي تمناه طوال حياته ، هو أن يَصْنَع فيلماً فيه الحقيقة كُلها ، عن نفسه ، وعما حَوله ، صادق بنسبةٍ كاملة ، وعندما قامِت الثَّورة ، تحديداً في جمعة النَّصر ، حِينَ نَزل إلى التَّحرير ، كانت أكثر لحظة في حياته شَعَر فيها أن حِلمه يُقارب التحقُّق ، كان ذِهنه صافياً ، كَكُل شيء حينها ، ما هو حِلمه الآن ؟ ، لم يَعُد حتى يَعْرِف الإجابة

خلال البقية الباقية من شهرِ فبراير ، لم يَدْخُل خان إلى مَطْبخه مرة أخرى ، وبقت كُل أواني الطَّهي على حالِهَا ، لم تعرض أي قناة تلفزيونيّة فيلم "الحرّيف" ، ولم يَجُد هُو التمويل لإنناجِ فيلم جديد ،  اسْتُشْهِدَ يوسف ، وظَهَر كريم وعَبدنيو لأول مرة على التلفزيون يُطالبان بِحَقّ الشُّهداء ، لم تَعُد الكُرَة تُلْعَب ، وبدا واضحاً ، كما قال فارس ، أنّ زَمَن اللّعب قَد راح ، حتى أن هِتاف الألتراس الشَّهير الذي كَان "يوم ما أبطَّل أشجَّع هَكُون مَيّت أكيد" ، قَد صارَ تَرنيمة حَزينة يُرددها الجَميع بصوتٍ خفيض: "أخويا مَات شَهِيد / مِ الغدر في بورسعيد / ويوم ما أفرَّط في حَقُّه / هَكُون مَيّت أكيد" .