19 يوليو 2013

بعدنا طيّبين


في رمضانِ الماضي، كُنتُ أجلِسُ على نَفسِ المَكْتَب، وحيداً جداً، وحَزيناً جداً، أرى الدُّنيا من وراءِ ستار كالأَعْمَش، وأَبْحَث عَمَّن أحُادثه عن «أيامِ العَجَب والموت» التي تأبى أن تَنْقَضِي

كُنتُ أَخطو 13 خطوة نحو آخر طُرقَة الجريدة، وأَنسى ما خَطوت لأجله، فأعود لمكاني مرة أخرى


أنزِل إلى الشارع عقب الأذان، وأشرب الشاي على مَقهى فارغ، أشعر بثقلِ النَّفس الداخِل والخارج، وأنا مُوقِنٍ من أن صَدري لَن يحتمل لأكثر من ثلاثِ دقائق أخرى

أذهب إلى بيتِ فَضل، أو أعود إلى بيتِ أهلي، أُسَرْسِبُ حُزني على رُوحِ يوسف، وأُحادث صَديقة قَديمة آمَنتها بضعُ من نَفسي، أتوه في الشوارع التي أعرفها، وأركَب التاكسيات كل يوم لأن قلبي لا يقوى على مَشَقَّة ركوب المواصلات، وأخشى الرّيح.. لأنني هَشاً.. سأتهاوى إن مَسَّنِي

كنت أشعر أن العالم سَينتهي، لن يبقى لدقيقةٍ أخرى، ولكنه كان يَستمر، وكلما أظن أنه وصل لنقطته الأسوا، يأتي إلىَّ حاملاً المَزيد، حتى أنني لازِلتُ أشعر بثُقلِ القلب حين أتحدث عن تلك الأيام، أو أتذكرها، أو أكتب عنها، تماماً كما أشعر الآن

وما جَرى بعد ذلك أن العالم قد بقى، وبَقَيت معه، لرمضانِ الحالي، أجلسُ على نفسِ المَكتب، ولكني لا أشعر بالوحدة ولا بالحُزنِ، وأعلم حينَ أخطو 13 خطوة لآخر طُرقة الجَريدة إلى أين أنا ذاهب

أَشُمُّ رائحة الأقرباء، وأَسْتَوْحِشُ من غابَت بحنوٍ، أَلِفُّ بالعَجَلة في شوارع المَدينة دون أن أخافُ الرّيح، وأَلْمَس انتصار الرُّوح الذي بُشّرت به.. فأقرأ «ولَسَوفَ يُعْطِيكَ رَبُّك فَتَرضى»

أقف فوق مئذنة "الأشرف برسباي" في وسط القاهرة، من تَحتي المَدينة كاملة، وأرى السنة الفائتة، كل شيء واضح، والنَّفس طَيبة رغم كل ما جَرى

وحين أنظر، ثانيةً، إلى الصورة التي التقطتها نُهى هُناك أثناء غروب شَمس اليوم السَّادس، و«حسين سابزيان» الذي التقط له «كياروستامي» لحظة هدوء مُشابهة في شوارع «طَهران» قبل 23 عاماً. أشعر أن تِلك الصورة هي حِكاية العام كُله. بعدنا طيّبين كما أسمى صَديقاً عزيزاً كتابه عن مرَّة مُشاهدته الأولى لـ
Close Up
 و«كل شيء جميل فعلاً» كجملةِ الختام فيواحدٍ من أكثر أفلامي المُفضَّلة قُرباً إليّ وشَبهاً بي

13 يوليو 2013

أوّل الصيف اللي فات (نسخة فُصحى)

(1)

في واحدة من أكثر اللحظات المُشرقة في رواية «الغابة النرويجية»، التي اكتشفت مؤخراً أنها روايتي المُفضَّلة على الإطلاق، تحضر «ميدوري» لمقابلة «واتانابي» بعد أسابيع من غيابه، في نهاية اللقاء تعطيه جواباً كتبته في الفترة التي ذهب فيها ليحضر لهما الطعام، أخبرته بأنها كانت تنوي أن تَبيت معه تلك الليلة، تَطْبُخ له، تَرعاه بشدَّة، تَمْنَحه كل ما تمتلكه من مَحَبَّة الأقرباء، وأن الشنطة التي أحضرتها معها وضعت بها بيجامة وأدوات طَبيخ، ولكن المُشكلة.. أنه طوال لقاءهم كان عقله وروحه مُعلَّقين بأشياءٍ أخرى، أنه ليس هنا، ليس معها، ليس في الحاضِر، لم يَلْحَظ حتى أنها قد غيَّرت «قَصَّة» شَعرها، ولا يؤلمها في كل هذا إلا معاملتها بيقين أنها مَوجودة دائماً ولذلك فهو لا يَكْتَرِث بها، يَذهب بعيداً، وراء ماضيه وهواجسه، دون أن «يراها» فعلاً

آخر جملة في الخطاب كتبتها «ميدوري» وهي ترى «واتانابي» قادماً بالطعام من بعيد، كتبت أنها لو أخبرها الآن أن «شعرها جميل أو حتى سيء» ستُقَطّع هذا الجواب، وستذهب معه إلى البيت، تُرْفِق به وترعاه، ولكنها لا تظن أن ذلك سيحدث، وإذا انقضى هذا اليوم بالرّحيل، فهي لا تريده أن يُحدّثها بعد ذلك مُطلقاً

«واتانابي» قرأ الجواب، ما يعني بالضرورة أنه لم يَلْحَظ في الفرصة الأخيرة قَصَّة شعر «ميدوري» الجديدة، في اليومِ التالي ذهب إلى الجامعة، ورآها، حاول أن يتكلم معها فصدّته، تأمل في شكلها كثيراً كثيراً، ثم أرسل لها تلغرافاً اعتذارياً، جملته الأخيرة كانت «أعلم أن هذا متأخراً جداً جداً جداً، ولكن شعرك كان رائعاً حقاً»

كل أدب «موراكامي» يتعلَّق بالماضي وعوالقه، ما تركناه وراءنا دون أن يتركنا، وما يتبقى لنا في النهاية، هو يعرف الكثير عن ذلك، ولأن هذا هو أكثر ما فكَّرت فيه خلال الإحدى عشر شهراً الأخيرة، فقد صار الرَّجل مُفضَّلاً، هذا الأسى مثلاً في تكرار كلمة «جداً» هو أسى لرجلٍ يعرف الإدراكات المتأخرة، ولذلك.. فعندما كُنت في منتصف الرواية كتبتُ لـ«واتانابي» أنه يجب أن يترك الماضي وراءه ويَنظر نحو «ميدوري»، ذات الأمر الذي أخبره به «موراكامي» في النهاية على لسانِ إحدى الشخصيات، الرواية كانت أنا.. تماماً


(2)

أهم قرارين اتخدتهم في حياتي في آخر إحدى عشر شهراً كانوا السَّكَن بمفردي في جاردن سيتي بديسمبر الماضي، والتحرُّك في شوارع المَدينة بالعَجَلة في مارس الذي تلاه

هُناك الكثير من الأشياء بدأت مع الأمرين، بدء تعلُّم العود، الخَطّ العربي، هذا التحكُّم الكامل في إيقاع حياتي اليومي، ثم.. هذه الخفّة التي يحققها وجود العَجَلَة، والتعرُّف على تِلكَ المَدينة من جديد، والتَّوق لرؤية مُدُن أخرى على جانبي النَّهر

وضمن أكثر ما تغيَّر عند السَّكَن بمفردي هو تعلُّم الطَّبخ، الطَّبخ شيء مُدْهِش، والأكثر دَهْشَة هو مشاركته مع شخص آخر، حبيب أو قَريب، ولذلك فإن أكثر ما كُنت أتذكره خلال ذلك الوقت، تحديداً في المرات الأولى، هو هبة، وأول الصّيف اللي فات، وذلك اليَوم الذي طَبَخنا فيه سوياً، وجلسنا لنأكُل في أمانِ الله، ثم تفرَّجنا على فيلمٍ سَيء، وضحكنا كَثيراً، وكانت الحياة بخير

لَم تَكن أياماً مثالية، لها مشاكلها وضغطها وتوتراتها، كأي علاقة عاطفية/إنسانية، الحياة لَيست سهلة كما أُصَدّر دائماً كَمُفتتحٍ لأي رأي أو حَديث، ولكن المُدهِش أن الذاكرة ستجعلها كذلك، ستنقّحها تماماً، مثلاً.. قبل أيّام أرسلت لي جَيلان شيئاً لأقرأه من «تامبلر» الخاص بها، رأيتُ عندها تِلك الصورة على جانب الصفحة الأيمن:



من الصَّعب وَصف كم أن هذا هو أنا وهبة، تماماً، كم أن الملامِح تُشبهنا، وأن لدينا نَفس الملابس، وأننا جَلسنا معاً كثيراً في شمس الصيف الأخير، لن تفهم كم أن هذا هو نَحْنُ إلا لو أخبرتك أنني ظللت لخمسِ ثوانٍ أفكر في احتمالية أن هؤلاء هم نحن فعلاً وأن هبة عَمَلت «تامبلر» خاص بها ووضعت تلك الصورة، وستفهم أكثر لو أخبرتك أنني حين أرسلت الصورة لشريف –بعدها بدقائق- أخبرني أنه ظن أن هذا أنا «متصوَّر في فوتوسيشن ولا حاجة»

المُهم أن هؤلاء ليسوا نحن، هم يشبهوننا لدرجة التماثُل، وفي الثواني الأولى لرؤية الصورة كان هناك حنيناً شديداً لتلك الأيام التي لم تكن مثالية، ولكن الذاكرة –في تلك اللحظة- قررت أن تُدعّم كل «روقان» و«راحة بال» الصورة بتفاصيلٍ متناثرة بيننا، أسقطت أي حُزن قَديم وهَزَّت القَلب بحنينٍ شديد لزمنٍ كنا، هي وأنا، أكثر خفّة، حنين للأيامِ والأوقات وتلك اللحظة التي عشناها والتقطت لشبيهينا في بلادٍ بعيدة


(3)

عن ماذا أحكي الآن؟

ليس أمراً مُحدداً، ومع خلفية البوست السابق -بالعاميَّة- فأنا لا أريد أن أقول شيئاً، فقط تلك الفكرة الحَزينة عن أن «أسعد لحظة في حياتك ستمر بك دون أن تعرف أنها جاءت» هي ما تُحرّكني

يحتاج المرء لطاقة ضخمة ومُستمرة كي يُبقي على الدَّهْشَة في الأمور العادية التي يَطمئن لها، الأهل.. الأخوة.. الأصدقاء الأقرب، البشر الذين يراهم يومياً ويعلم أنهم هنا دائماً، «واتانابي» كان مطمئناً لوجود «ميدوري» ولذلك أهملها، وأنا كُنت مُطمئنا للحياةِ فلم أطبُخ مع هبة كثيراً، وصديق اطمئن لوجود أصدقاءه الأقرب فذهب بعيداً ليوطد علاقته بآخرين وليس من المؤكد أنه سيجد ما تركه حين يعود، وسيشعر بالفقدِ والخسارة والوَحْشَة، في أكثر أشكالهم قَسوة، وسيعرف -ربما- أن تلك هي أوقاته الأحزن، وأن ما من شيءٍ يفعله المرء أسوأ من الذهابِ لأجلِ الضال وترك بقية الخِراف في البريَّة

(4)

أعدت قراءة الفقرة الأخيرة في البوست السابق، الذي كُتِبَ قبل شهر ونصف، أعرف ما كنت أقصده، عن الحاضر كله كتهيأةٍ للحظة مستقبلية يَستقر عندها كل شيء، ولكني في تلك اللحظة متشككاً في هذا، الحياة دوائر، تدور وتدور وتدور، صحيح أن الحاضر يُهيِّئ للمستقبل، ولكن المستقبل نَفسه سيصير حاضراً يُهيِّئ لمستقبلٍ أخرى، ما من نقطة للنهاية، لسنا في فيلمٍ هُنا.

والأهم، أن هذا بوست عن الإدراكات التي تأتي بعد أن يَمُرّ الكثير من الوقت، ليس من الجيد إنهاءه بأي حِكْمَة أو تهوين. هو شيء انتهى عند المُلاحظة والسرد لأشياءٍ تحدث بشكل دائم، لذلك يمكن أن نتوقف هنا. بلا خاتِمَة مُحدَّدة.

أوّل الصيف اللي فات (نسخة عاميَّة)

مُفتتح توضيحي:

- من أكتر من شهر ونُص كتبت بوست عن «الإدراكات اللي بتيجي بعد ما الوقت يفوت»، كنت بفكَّر إن عنوانه يكون من غنوة فيروز «تنذكر ما تنعاد»، رُحت أسمعها ولما خلَّصت كتبت بوست تاني عن الأغنيَّة، وأبقيت البوست الأصلي مش عارف هنزله امتى أو هنزله أصلاً ولا لأ

- كنت كاتب البوست بالعاميَّة، ولما قريته بعدها بأسابيع مكنتش متأكد إذا كانت روحه بالعاميَّة ولا الفُصحى، فقررت أصبر بعض الوقت وأعيد كتابته من الذاكرة مرة تانية بالفُصحى ثم أقرر، الفكرة إن العامية شيء ذاتي أكتر.. انتَ بتحكي عن نفسك تماماً، الفُصحى تبدو أكثر حِكمة.. انتَ بتدوَّر على مساحات مُشتركة بينك وبين الآخرين وبتدارى ورا بَزخ اللغة العربية، عشان كده يبدو الأفضل إني أنزل النسختين ومفضلش أفكَّر كتير

- البوستين فيهم نفس الفكرة الرئيسية، ونفس المواقف اللي بَحْكِيها أو بَسْرد بيها اللي عايز أقوله، بس بعد ما خلَّصت حسيت إنهم مُختلفين بدرجة ما، والزَّمن –فرق الشَّهر ونُص.. كِبرت فيه- يبدو واضح فيهم

- أنا بنبسط لما بَكْتِب بالأريحية دي، وإني بقيت بَكتب أفكر أتكلم بالأريحية دي دايماً، «أعمل مِغَمَّض كإن الدنيا عارفاني» زي ما فؤاد حدَّاد بيقول

- البوست ده كُتِب يوم 25 مايو اللي فات، معدّلتش فيه حاجة، اللي بعديه اتكتب النهاردة.. 13 يوليو.. قبل ساعات من سَنة عُمري الجديدة، وبدا مُناسب جداً لده

- بَفكَّر، حالاً، لأسباب واضحة، إنه البوستين إهداء لهبة.. "لأجلِ هبة" كما تُحِب دَوماً..لسنة 2011 وأول 7 شهور في 2012، معرفش إيه قيمة الإهداءات بشكل عام، بس ساعات.. زي دلوقتي.. بَشعر إني عايز أعمل ده


.
.

فيه فِكرة ما، حَزينة جداً، بفكَّر فيها مؤخراً، عن إن أجمل لَحظة في حياة كل واحد هتعدّي من غير ما يكون عارف إن دي أجمل لَحظة في حياته

الجانب الحَزين، في صورة أشمل، مش مُرتبط تحديداً بـ«أجمل لحظة» دي، بس هو عن الحاجات الكويّسة والعَظيمة في الحاضر اللي ممكن تعدّي عشان إحنا متعوّدين عليها، مش هَنُدرك قد إيه سيء إننا مَعرفناش غير بعد ما تعدّي

مَثلاً، مؤخراً بَقيت أطبُخ كتير في بيتي الجديد، بقيت أصِف الأمر بإنه «أروق حاجة في العالم»، العب بالتوابل، وعُكّ بانبساط فمفيش أكلة هَتِطْلَع وِحْشَة، في كل مرة بعمِل كده بتذكّر هِبة، بتذكر تحديداً اليوم ده في صيف السنة اللي فاتت، رجعنا من الشغل، وقررت –على غير العادة في تلك الأيام- إني أطْبُخ معاها، شغلنا أم كلثوم، ودخلنا عملنا أكل سوا، هي كانت مَبسوطة، وأنا كمان، والأكل طِلِع عَظيم، فاكِر إن يومها حَطيت أغنية «يا أنا» بتاعة مُنير عَ الفيس بوك لأجلها، كتبت «يَا سُكّر بالهَنا» و«هَتْجِيني تلاقيني ساكِن في الوَطَن»، ومعرفش ليه تحديداً مَطَبَخْتِش معاها مرة تانية، وبعد سنة.. أظن إن دي أكتر ذكرى بفتكرها بينا، وكل مرة بَطْبُخ ببقى عايز أجيبها من البلادِ البعيدة ونُنْفُض كل الذكريات التّقيلة من على كتفنا عشان أقولها إني «بُصي بقيت أعرف أطبخ كويس إزاي»

الأسوأ هو الإدراكات اللي بتيجي بعد ما الوقت يفوت، إنك تتعوّد على حاجة فمتقدرش تُدرك قد إيه هي مُدْهِشَة غير لما تروح، الأصدقاء المُقرَّبين مَثلاً.. أو حتى الأحباء، بالتعود الأمور بتفقد سِحرها، بتنسى قد إيه الشخص ده حِلو أو جميل أو مُدْهِش، ممكن تَنْجَذب للهالة بتاعة بدايات شخص تاني، أو تبقى عايز تِوَطَّد علاقتك بشخص أبعد باعتبار إن الشخص القريّب ده مَضمون ومؤكد، بس هو مفيش حاجة مَضمونة ومؤكدة، مَعنديش طريقة ما في إن الناس تُبقي على دَهْشَة علاقاتها وعلى رؤيتها للحُسْن في الأقربين منها، بس دي حاجات تستدعي المُحاولة، عشان اللَّحظة المُستقبلية اللي ممكن يبقوا فيها أبعد هي لَحظة فَقد مِثالية

بقى عندي جرأة في آخر شهرين إني أوصَّف «الغابة النرويجية» بتاعة «هاروكي موراكامي» باعتبارها «روايتي الأجنبية المُفضَّلة»، أدب الراجل بيتعلق كله بالذكريَات والماضي والعوالق اللي بتتبقى ومحاولة الناس التحرر منها، ودي أكتر حاجات فكَّرت فيها في آخر 10 شهور في حياتي، عشان كده كان فيه المساحة دي من الانغماس، بس «الغابة النرويجية» بتتجاوز ده.. في نُصها التاني بقت شِبة سيرة ذاتية ليَّ، بَقيت بَدفع البَطَل للخيارات اللي شايف إني مَفروض آخدها
/صَح إني أخدتها، وفي لحظة من أكتر اللحظات المُدْهِشَة في الرواية.. «ميدوري» بتسيب فيه جَواب لـ«واتانابي»، بتكتبه أثناء مقابلة بينهم بعد أسابيع من اختفاءه، بتقوله إنها كانت بتشاغل أفكارها السلبية عن حقوقها عليه وإنه لازم يراعيها أكتر من كده، وإنها كانت جايبة بيجامة عشان تبات معاه في شقته وتعمله أكل وترعاه هي وتخفف حزنه الليلة دي عَ الأقل، بس عارف إيه أسوأ حاجة.. إنك كنت غايب لدرجة إنك مبصتليش كفاية، مخدتش بالك إني قصيت شَعري تماماً، مقلتش «شكلك حِلو يا ميدوري»، أنا شايفاك دلوقتي وانتَ جاي بعد ما جبت الشاي، بفكَّر إنك لو قلتها وحسيت بس إنك انتبهت ليَّ هقطع الجواب ده وآجي معاك زي ما كنت مِخَطَّطَة، «موراكامي» عارف تحديداً الحاجات اللي ممكن تِضيع عشان شعورنا بالثقة من كونها مَوجودة، وبَطله بعد ما قرا الجواب وشاف «ميدوري» في الجامعة تاني يوم راح يكلمها فرفضت، بعتلها تلغراف في آخره بيقولها «أنا عارف إن ده متأخر جداً جداً جداً.. بس حقيقي قصَّة شعرك عَظيمة وشكلك حِلو»، بس هو ده فعلاً كان متأخر جداً

بس أرجع وأقول، إن الحاضر مش مُهم أوي، مقادير الألم والفَقد والحُزن هي أشياء قاسية، بس بتعدّي وتمرّ، الأيام مش بتقف، المُهم فعلاً هو اللي «بيتبقى لَكُم» من الذكريات والتجارب والناس وأنْفُسْكُم، عشان برضه محدّش يعرف إيه المُهم في الحياة.. كل التجارب السيئة اللي بتظن إن الدنيا هتقف عندها ممكن تبقى بس بتحضَّرك للحظة أهم تُدرك فيها الحاجات في وقتها ومتخلّيهاش تعدّي

12 يوليو 2013

رأيت رام اللهرأيت رام الله by مريد البرغوثي
My rating: 5 of 5 stars

- بظن إن جزء من قيمة الكتب العظيمة في حملها لذكرياتك أثناء قراءتها، بتبقى شايْلَة كلام اللي كاتب وزَمَنك انتَ

- دي القراءة التالتة للكتاب، اللي بعتره من أهم وأعظم الكتب العربية اللي قرأتها

- بَفكَّر إن الكتاب ده زَمن مش مكان، على عَكس عنوانه، وعلى عكس من حكايته المفترضة اللي بتدور في الكام اليوم اللي رجع فيهم "مُريد البرغوثي" لرام الله ودير غسّانة بعد 30 سنة من النَّكسة والغربة، المَكان بصفاته الجغرافية مش أمر مُهم، مش بيتوَرَّط في الحديث عنه بكثافة، هو بيخلّيه صورة أوْسَع لـ"مَدِينة" أو "وَطَن"

- في المُقابل، مُريد بيتسغرق تماماً في الذكريات، بيسيب نَفسه ليها، في آخر الكتاب هو بيقول إنه مش عارف حَكَى إيه ومَحَكاش إيه، وده حقيقي، ميبدوش إن الكتاب مُخطط مُسبقاً، دي كتابة واحد قارب عَ السّتين بيشوف حياته كلها في رحلة عدَّة أيام، يفتكر اللي يفتكره وينسى اللي ينساه

- في الرحلة دي، فيه تاريخ ومُدُن وبَشَر، أمور عامة بيكون المهم فيها هو ذاتيه حاكيها، وأمور ذاتية بتتحول لأمر عام، الطريقة اللي مُريد بيحكي فيها عن أحداث النَّكسة وكامب وديفيد واعتصام الطلبة في 72، أو اغتيال غسان كنفاني ثم ناجي العَلِي، حكايات الغُربة في بودابست، واعتقال التي لم نَعْرِف حكاية اسمها، مَنيف وأم مَنيف، واللّحظة الأخيرة المُدْهِشَة اللي بيحاول فيها الحِفاظ على حياة أمُّه لمدة يومين فقط، الرحلة الطويلة باتجاه الحِكْمَة والحُزن، غُربة العائد وسط أهله، وأُلفه الغريب في مَنفاه، بصورة مُدْهِشَة العام بيبقى شَخصي والشخصي بيكون عام

- الحياة كَبيرة، ضمن أكثر ما تبقى من القراءة دي كان كلام مُريد المُختزل عن عودته للعَيْشِ مع رضوى وتَميم بعد 17 عاماً من المنفى والبُعد، لم يتطرق للتفاصيل، ولكن كلامه كان مُغرق في الوَحْشَة، إشارات عدَّة مُتناثرة حول الصعوبة التي وجدها ثلاثة غُرباء في العَيْشِ وخلق معنى الأُسْرَة من جديد، تِلك الجملة حَكَت الحكاية كلها:
"انتظرت رضوى عودتي إلى بيتنا سبعة عشر عاماً، وعندما عُدت.. عُدت ومعي الأعوام السبعة عشر كلها، ومعها الأعوام السبعة عشر كلها"
وفي ذلك كان هُناك تَميم، الطفل الذي صار شاباً، كجزءٍ في المُعادلة، مُواجهة اهتزازات الماضي وغموض العودة حتى يستقر كل شيء على الشكل الذي سيبقى عليه. تَحَمَّلوا. وصَبروا. أُسْرَة مُدْهِشَة

- قريت الرواية، ببطءٍ ساحر. بطء عزيز. أثناء الأيام الصَّعبة، بدأت أقراها يوم 3 يوليو مع عَزل مُرسي، الخبر اللي سمعته بالصدفة وأنا مِعَدّي من اعتصام الإسلاميين في رابعة عشان رايح لشريف، كنت بفكَّر إن بدقني الشَّعثاء والسَّبحة المَلفوفة على إيدي اليمين ورواية تحمل اسم "رام الله" في يَدي.. لو الجيش اقتحم مثلاً ومُت هِنا محدّش هَيْشُك إني معاهم
بعدها، تحدُث عركة أهليَّة فأقرأ صفحتين أو ثلاث، نَتَصَبَّح بمجزرة فيمر اليوم دون قراءة حَرف واحد، بس مُجْمَلاً كان الكتاب رَفيق مُدْهِش للأيام، حتى في الكلام عن الضَّجَر من الوطن، وملازَمَة الثورة بالانتفاضة الفلسطينية في مُخَيّلتي، ده معنى جُملة المُفتتح في الريفيو ده.. الكتب العظيمة كده.. بتبقى مَوصولة دايماً بلحظة قرايتها، بتخلق لنفسها وجود وقيمة ومعنى مُختلف في "زمن القراية" نفسه

- بالأساس بقى، كنت بقرا "رأيت رام الله" عشان جبت الأعمال الشعرية الكاملة لمُريد، وقلت إني عايز أبدأ بما أعرفه عنه، وكلحظة مُقَدَّسَة.. فهو كان بيقول في الرواية إنه بينتهي من إعداد ديوان "منطق الكائنات" عشان ينشره، ده الديوان اللي أصلاً خلاني أشتري الأعمال الكاملة، وكل ما قرأته منه كان مُدْهِش، هَبدأ بيه، كإن الزَّمن –اللي كَتَب فيه مُريد واللي قرأت فيه- كان زَمَن مُشترك بينتهي مع بداية "منطق الكائنات"

#أيام_مُريد #رمضان_2013


View all my reviews