31 أغسطس 2016

وعلى ذكر الراجل العظيم اللي في القلب

(1)

"... أما عن كلامك بشأن أصلان، مش فاكر إني قلت "مبقتش متأثر"، أظن إن بس التأثر خف، أو يمكن بقيت واعي وعارف أقيّم مكانه أكتر، بس أنا متأثر بيه على طول، وتلك الصيغة الحكائية اللي بتخلي اللي بيحكي كإنه قاعد معاك هي صيغتي المفضلة في الكتابة، ممكن أشاورلك هي فين دايماً، في النص ده مثلاً من أول جملة "كان الرجل الأول يسير في أمان الله على كوبري 15 مايو"، "في أمان الله" دي مش مهمة.. دي ليها علاقة باللغة ونَفَس الحكي، كأن من يسرد يجلس بالجوار، وده لسه باقي مني من أصلان جداً، في المعالجة بتاعة الفيلم الطويل فيه مثلاً جملة "والسائق استغرب جداً هذا الكلام وشاور له على التكاسي البيضاء من حولهم"، ده تأثر بلغة أصلان جداً، يمكن بس بقيت أوعى أو أشطر أو ممكن أستخدمه أو مستخدموش مش مجرد متأثر بيه، لكنه الرجل العظيم اللي في القلب دايماً وأكتر واحد أثر فيَّ في حياتي

سعيد جداٍ برأيك في "بسكاليا"، وبالطريقة العشوائية غير المتوقعة اللي وصلتلهم بيها، أنا مش عارف إيه أكتر واحد بحبه فيهم، فيه قيمة عاطفية عظيمة بالنسبة لي في التلات أجزاء، ومع انقطاع الصلة بعد سنين فأنا بمتن كل مرة أرجع أقراهم إني عرفت في لحظة ما أكتب كده، بتاع داوود ده "أصلاني" جداً.. وده كان مسموح لإنه أصلاً تحيَّة كاملة مُكتملة لأصلان وهو جوَّاها، بس بفتكر –لو تسمح لي أقول ده- إني بحب الفينالة جداً بصراحة :) الشيخ حسني في الحكاية الإنجيلية ثم النص اللي تخيّلت إنه متعلق عنده.. اللي هو اللوحة المُفضلة من "الثور الهائج" أصلاً: يوماً ما كنت أعمى والآن أبصر

..."

محمد
عوامة 75 كورنيش العجوزة
مساء 21 أغسطس


(2)

"
... أنا كمان حابب أتكلم أكتر لما أشوفك عن المقالات وزمانها وتفاصيلها، أنا مبسوط باستعادة ده عن بُعد أصلاً، وبعد 4 سنين تقريباً، حاسس حقيقي إنك بتتكلم عن شيء عزيز جداً بالنسبة لي، جداً

كان فيه 3 حاجات من أصلان بشكل صريح في الجزء بتاع داوود: وفاة الشيخ حسني، وحال هَرَم، وافتتاحية رثاءه العظيمة لنجيب محفوظ، "تخيلتهم وكل منهم يشد على يد الآخر معزياً في رحيل الرجل الذي كان، لفرط المقام، على الأقل، على صلة قربى بكل واحد منهم"، أنا حافظ افتتاحية الرثاء ده من كتر ما هي من أصدق الحاجات اللي كُتِبَت، وكلهم بالمناسبة في "شيء من هذا القبيل"، القريبة جداً جداً من القلب

كنت بفكر الصبح، صحيت الساعة 6 الصبح وقريب إيميلك أول حاجة وقعدت أرد وأفكر في حاجات في خيالي، بس كنت بفكر إن الصيغة بتاعة كتابة أصلان، الموصولة بنَفس الحكي كأن شخصاً بالجوار زي ما قلت، واللغة الناتجة عن ده بدمج العامية بالفصحى بشكل مَهول السلاسة، هو إنه بيدي قدرة في جوهره على التقاط الحاجات الكبيرة والصغيرة ورميها بتلقائية وخفة، بدون وقوف كبير قدام اللحظة، على عكس ما بيعمل يوسف إدريس مثلاً (أول حد قريتله وأكتر حد قريتله واللي قريب لقلبي لحد دلوقتي بفعل العِشْرَة) اللي مُنجزه في تجسيم اللحظة العابرة وجعلها  هي الحياة، فيبقى واحد بيعدي الشارع مثلاً وإدريس بيشيل القصة على إن اكتشاف حياته الأهم بيحصل في اللحظة دي ويسرد ده في 5 صفحات (وأحياناً بيعمل ده بعظمة)، أصلان لو كتب عن واحد بيعدي الشارع فهو واحد بيعدي الشارع.. مفيش شيء أبعد إلا في تتالي الجمل والأحداث وما فعله قبل وبعد، وده أقرب لي في الكتابة بكتير، وفي النص بتاع الفيلم، لما كنت بقولك إنه "مفيهوش كلام" و"مش متعلق بالماضي" كنت أقصد تحديداً إن أول مرة أكتب شيء سينمائي مش مرتبط بتاريخ عايز أحكيه أو تفاصيل قديمة تصعد على السطح، الحكاية هي الحكاية اللي قدامك مش أكتر، وده مُثير للانتباه بالنسبة لي

وعلى ذكر الرجل العظيم اللي في القلب، مرة أخرى، فواحدة من أقرب الجمل بالنسبة لي، ومن أبقاها، ومن أحزنها، كان في "وردية ليل": "وفي الطريق، كان سليمان يكتفي بالنظرات العابرة، لأنه لم يكن يحب إلا تلك الأشياء التي كانت نادراً تصادفه دون تقليب، والتي كان يعرف، على نحو ما، أنه سوف يلقاها، فيلقاها، ويتجه إليها، ويشتريها، لأن السنوات الطويلة التي جرّب فيها علمته أنه لو عاند نفسه ولم يأخذها فإنه سوف يأتي يوم الجمعة التالية إلى السوق باحثاً عنها وهو يعرف أنه لن يجدها، فلا يجدها، حينئذ يحس بالخسارة، ويظل طوال الوقت يذكرها، ولا يعرف كيف ينساها"
"وهو يعرف أنه لن يجدها، فلا يجدها".. تعريف الحَسْرة بالنسبة لي، وأشياء من هذا القبيل قد تكون أكبر من السينما ربما

ألف رحمة ونور والله"

محمد
سوبر جيت القاهرة سانت كاترين
22 أغسطس (2:43 ظهراً)

3

"
 ...  ومع ذلك، ومع إن النص التالت معجبنيش أبداً، بس فيه حاجة خلتني أبتسم وأتأثر جداً،وهي جملة يسري:
"لأن الأفلام هي ذاكرة حياتنا" ، يُخبر يُسري طُلاَّبه ، يوماً ما ، بعد سنوات ، طالت أو قصرت ، ستتساقط منّي التفاصيل ، لن أعرف متى جرى كُل هذا ، ما كُنت أشعره أثناء حدوثه ، كَيف وصلنا إلى تِلْكَ النُّقطة ، الأفلام تَحْفَظ الذكريات ، تُبقيها حَيَّة ."

حسيت إني كنت كاتب الجملة دي عشان أبرر لنفسي امتلاء النص وتقله السلبي بالذكريات، وبرد عليَّ حالياً، وحسيت إني فعلاً ناسي ستاتس البحّار، وشعوري بمحمد محمود في أوله، وبعض التفاصيل والأحلام العابرة، بس اللي شايلها فعلاً هو النّص كـ"ذاكرة لحياتنا"

حبّيت في المقابل الحِلم، وحبّيت –جداً- الفينالة، فكرة إن ده زمنياً قبل الجزئين اللي فاتوا، وبيجمع كل الأشخاص المعنيين بده في لحظة "مسيرة الفنانين" اللي كانوا فعلاً موجودين فيها، ثم الجملة "لم يعد يتبقى شيئاً من كل هذا" .. "كان الليل ينقضي ، والهدوء يتراجع ، كما تتراجع الأحلام ."، وعلى ذكر أصلان مرة أخيرة.. فدي جملة فينالة رواية "مالك الحزين""


محمد

سانت كاترين – صباح 23 أغسطس

01 يناير 2016

في لحظة هشّة من الزمن أحسست بالمحبة ناحية داوود


لم أحب داوود عبدالسيد كثيراً في أي وقت، لم يسبق له أن كان مخرجاً مُفضّلاً

له لحظاته بالطبع، منذ وقت قريب كنت أخبر شخصاً أن هناك مشاهد مُعيّنة وقليلة في الأفلام تتجاوز كونها "حدثاً داخل فيلم" وتصبح بالنسبة لي "شعور"، شيء أستدعيه حين "أشعر" بشيءٍ مُعين، وأجد بلاغة أو مؤانسة أو قدرة على وصف ما "أشعره" بما يوجد في تلك المشاهد.. وليس بكلماتٍ كـ"الحزن" أو "الهزيمة" أو "الأسى" مثلاً.

من أكثر "لحظات الأفلام التي تتحول إلى شعور" بالنسبة لي في فيلم "الكيت كات"، "كُنت فين انتَ يا عم مجاهِد"، في لحظتين أو ثلاثة في حياتي كان ما أشعره تحديداً تحديداً هو "كنت فين انتَ يا عم مجاهد"، خليط من المعاتبة القوية مع بعض الزّعل وبعض استحقاق التقدير أو التفهُّم، "كنت فين لما حصل كذا وكذا وكذا".. "انتَ متعرفش، وأنا آسف لو الأمور ساءت، بس انتَ مكنتش هنا عشان تفهم".

هذا المشهد يعني لي الكثير، والفيلم كذلك، مع بعض لحظات "الصعاليك"، أشياء مُعينة في "أرض الخوف"، ربما "أرض الأحلام". وخلاف ذلك لا يوجد الكثير ناحية داوود.

(2)

في 2010 حين شاهدت "رسائل البحر" للمرة الأولى  كان هناك تأكيداً على الفجوة بيني وبين هذا الرجل. وما تبقى في ذاكرتي كان كله مدعاة للسخرية، النوستالجيا العجوزة ناحية المدينة الكوزموبوليتانية، رمزية التفاح وحكايات الأنبياء التي يكررها، محادثة عبيطة للبحر عن "ظلم ده ولا فوضى"، افتعالية في طريقة تسيير الحكاية، الفراشات التي تظهر في مشاهد الختام، الناريشن المزعج والشارح جداً، الفيدآوت في نهاية كل مشهد، وتفاصيل أخرى كثيرة، كنت أكره الفيلم فعلاً، حتى شاهدته ثانية قبل وقت قريب، في لحظة هشة من الزمن، ومن حينها أحاول فهم ما حدث، ولماذا شعرت بشيءٍ ما ناحيته، وشيء قوي فعلاً من التعاطف ناحية داوود.

(3)

حدث الأمر بعد مشاهدة "قدرات غير عادية"، كانت مشاهدة كارثية، لا يوجد مبرر أو شيء منطقي لفيلمٍ بهذا الضعف لمخرج هو في أقل الأحوال صنع شيئاً فريداً كـ"الكيت كات".

 وأنا أحاول أن أفهم، فعلاً، أكثر شيء يمكن أن أصف نفسي به خلال السنوات الأخيرة في حياتي هو محاولة الفهم، وبالتالي التفهُّم، للناس.. للأشياء.. للأحداث أو المواقف العابرة، وطالما فهمت سأكون مرتاحاً، وأكثر قدرة لاحقاً على المسامحة أو التقبُّل أو الإعتذار أو الأسف. تمرينات دائمة ومتتالية على كيف يكون المرء أعمى ويحاول أن يرى، حتى لو لم يغير ذلك شيئاً في واقع الأمور.

لذلك كنت أريد أن أفهم، هذا شيء يختلف عما كنته قبل 5 سنوات، لأن الزمن شيء مهم، قبل 5 سنوات اكتفيت بالكراهية ناحية رسائل البحر، الآن أردت فهم ماذا أراد داوود من "قدرات غير عادية"؟ وباستثناء هواجسه المعتادة.. عن السلطة تحديداً (كمجتمع.. ونظام.. ودين).. ما هو الشيء الحقيقي الموصول به في الفيلم؟

كمحاولة للفهم.. قررت مشاهدة "رسائل البحر" -لتشابهات في الفيلمين- دون طَمع كبير في إجابات.

(4)

كانت لحظة المشاهدة "هشة" لأن قلبي كان مفتوحاً حينها لضعفِ الغير. وأريد هنا التأكيد على ملحوظة بديهية وقديمة عن أن "تلقي الفنون" هو أمر مُراوغ، لأن لحظة الاستقبال وأجزاء القلب والعقل المستعدة للتفاعل ستكون مختلفة في كل مرة. وأنا كنت في لحظة هشة وبقلبٍ مفتوح تماماً.

بدا لي أن اختصار كل شيء هو في إحدى جمل الفيلم: "أنا بتهته وأنا بتكلم مع الناس، بس مبتهتهش وأنا بتكلم مع نفسي. بس أنا مش عايز أتكلم مع نفسي، أنا عايز أتكلم مع الناس".

كنت أفكر، وقت إعادة مشاهدة الفيلم، وفي الأسبوعين التاليين وصولاً لهذا الكلام، أن هذا لسان داوود. ليس تعبيراً عن شخصية ولا موقف درامي، ولكنه اختصار شعوره الشخصي اتجاه العالم في تلك اللحظة، أنه "يريد أن يتكلم مع الناس".

في كل المرات التي شاهدت فيها داوود يتحدث شعرت أنه رجل لا يستطيع التحدث بكلامٍ مفهوم. ليس بليغ كيسري ولا راغباً في سرد حواديت كخان، داوود يتهته –بشكلٍ أو بآخر- وهو يتحدث مع الناس، وهو يصنع أفلام، تحديداً رسائل البحر، لأنه يريد التحدث معهم. وأنا شعرت بالتعاطف والضعف والمحبة اتجاه تلك النظرة للفيلم.. حتى مشاكله الواضحة والمتبقية.. كشروح الناريشن مثلاً أو تفسير كل شيء بشكل مباشر والتكرار عليه.. وجدت نفسي متفهماً لذلك في سياق أن الرجل يريد "التواصل" يريد أن "يفهمه الناس" ويريد أن يحكي لهم عما يفكر فيه.. فيزيد في الشرح بحثاً عن تلك الصلة. حتى الأسى الساذج اتجاه "تغير المدينة" وأن صاحب السوبر ماركت يريد هدم البيت القديم لبناء مول.. وجدت هذا الأسى صادق جداً لأن رجلاً عجوزاً في السبعين من عمره يشعر فعلاً بهذا القدر من الغربة والأسى لأن عوالمه المعتادة تتغير وتزداد قسوة ويرغب أن يبيح بذلك إلى الناس لأنه "يريد التكلُّم معهم".

من ذلك الحين، وطوال أسبوعين، وأنا أحاول استيعاب لماذا أشعر فعلاً بالمحبة والتعاطف اتجاه داوود، واتجاه فيلم لازال به كم عظيم من المشاكل الواضحة. وبدأت الكتابة وأنا أبحث عن إجابة، وربما وصلت.

(5)

- إيه رأيك في الفيلم؟ أنا عجبني حاجات على فكرة
- إيه عجبك طيب عايز أعرف؟
- بص هو منطق غريب شوية، عجبني إن مخرج عجوز بيعمل فيلم عجوز فاشل بيحاول يخليه شبة أيام مجده وبيفشل في ده، شايفة فيها حاجة شاعرية، إنه لسه بعد سنين دي مصدق نفسه
- أيوة، الفيلم اللي برة الفيلم، الشيء المرتبط بالصانع وعلاقته باللي بيطلعه، كنت بفكر في حاجة شبة دي إمبارح بعد ما اتفرجنا

حوار مع "ليلى أرمن" بعد مشاهدة "قدرات غير عادية" بيوم
-ويمكن اعتبار البوست بالكامل إلى ليلى أرمن-


(6)

لم أشاهد "قدرات غير عادية" مرة ثانية، ولا أعرف هل سأكون بحاجة لخمس سنوات أخرى كي أشعر بـ"تفهم" أكبر اتجاه داوود في صنعه أم لا. ولكن في تلك اللحظة أشعر بمحبة أكبر اتجاه الرجل، ستجعلني أكثر قدرة بالتأكيد على فهم حتى خياراته السيئة، وربما تتحول –في لحظة هشَّة أخرى- لنقطة قوة في صلتي بأفلامه.