06 أكتوبر 2017

علا





في المرة قبل الأخيرة، كنا نتحدث على التليفون، أخبرتني أن لديها قلق مُزمن من الشغل، فقلت لها أن عليها أن تترك بيتها المُغلق الذي لا تدخله الشمس، وأنني أعمل نهاراً في أحد الكافيهات ومن الممكن أن تأتي ونشتغل سوياً، فقالت لي أنها تخاف؛ تخاف من ألا يكون المكان مُريحاً، وتخاف من أن يكون الإنترنت سيئاً، وتخاف من دوشة الناس، وتخاف من الناس بشكل عام، فقلت لها أن تأتي إلى بيتي؛ سيكون هادئاً وتدخله الشمس والإنترنت سريع والمشاريب ببلاش. في اليوم التالي أتت، لم تكن بخير، ولكننا جلسنا في الشمس نهاراً كاملاً، واشتغلنا جيداً، ثم نزلنا سوياً إلى الشارع، أنا إلى مشوار وهي إلى بيتها، احتضنا بعضنا طويلاً، كعادة أحضاننا الطويلة، وغاصَ جسدها الصغير بين ذراعي حتى شعرت بضلوعها، ثم مَشت.

طوال الأيام الماضية، أستعيد تلك التفاصيل بدقة داخل عقلي، تتحول كل لحظة عابرة إلى أثرٍ قيّم، حتى السلامات والصدف واللقاءات العابرة، حتى الضجر والزهق والحكايات المملة، حتى التفاصيل العشوائية من قبيل مشاهدة "كارمن" في أول يوم العيد، كل شيء يتحوّل فجأة إلى دُرٍّ مَدفون في مجرى القلب والذاكرة؛ فالموت يخلق فراغاً، فراغ مادي من هؤلاء الذين كانوا هنا، ولا يترك شيئاً، إلا الذكريات، الثمينة جداً، العزيزة جداً، التي نخشى عليها من النسيان، ونبقيها بالحديثِ عنها.

لابُد وأن يفكر الواحد قطعاً في "أول مرة"، ومن المُلفت أن "أول مرة وآخر مرة" كانتا واضحتين، لا التباس فيهما ولا نسيان. ففي المرة الأولى كنا في ساحة بها ما يقارب الخمسين شخصاً، ترك المُيَسّر إدارة الجلسة التعارفية للناس، وبعد دقائق طويلة من العشوائية والتخبُّط والأصوات المتداخلة، طلبت هي أن تتكلم، لم أعرف عنها بعد ذلك جرأة الكلام وسط جمع من البشر، ولكن ليلتها كانت رائقة ومُرتبة، اقترحت أن يتولى كل شخص التعريف بمن قبله، "أنا سأعرف فُلان، ثم يرفع من بعدي يده ليعرفني"، وهكذا في دائرة طويلة وغير تقليدية، سِرنا على الاقتراح، كانت "أول مرة" أراها، وكانت خاطِفة وجَميلة وأخاذة، أذكر أن المُيسّر قال يومها ضاحكاً أننا عرفنا من ستكون مديرة المُعسكر في العامِ المُقبل. وإن كانت –بعد عام- لم تذهب إليه من الأصل.

لم نتحدث كثيراً خلال أيام المُعسكر العشرة، أو على الأقل لا أذكر ذلك، كل منا كان يدور في دوائره، ولكن يلاحظ الآخر على الأغلب، لأنه في اليوم الأخير، وبعد أن عرضت –ضمن معرض صغير- كتابها "نقط وخطوط"، ذهبتُ إليها، وتحدثنا، وقلت أنني أحببت فكرة المذكرات المرسومة، والطريقة التي ترسم بها الأيام، وكلام آخر لا أذكره، ولكني أذكر ردها، وأحتفظ به دون كتابة لأنني لن أنساه.

بعدها، ولثلاث سنوات، كنت أخاف منها، أخاف من الاقتراب، أخاف من التورُّط في المحبة -أكثر-، أخاف من موتها، وأخاف من حُزنِ ما بعد موتها، بشكل آخر كنت أخاف من قدومِ الأيام الماضية. ولكن هذا لم يمنع الاقتراب ولا التورُّط ولا المحبة. لم يغيّر شيئاً من استغلال بيوتنا القريبة للعمل جوار بعضنا، أو البيات في أحد البيتين لأن الكلام استمر حتى مَطلع الفجر، أو المشي العشوائي في الشوارع المُحيطة والليالي الساكنة ، أو مشاهدة مسلسلات رمضان سوياً، والخِناق لكونها الوحيدة التي أعرفها لم تحب "هذا المساء" وفضلت عليه "30 يوم" لأنه "مُسلّي أكثر"، أو أننا، في أول يوم العيد، وبعد أن انتهينا من "كارمن"، تفرَّجنا على الحلقات الأخيرة من المسلسلات، وهي –رغم أنها لم تحبّ "هذا المساء"- تأثرت كثيراً حين طلب سوني من سمير أن "يَلِفّ وشّه الناحية التانية"، وقالت أنها عاشت مثل تلك اللحظة.. وتعرفها جيداً.

كانت تعرف الألم جيداً، تعرف الكثير عنه. منذ وقت قريب جداً قرأت قصة قصيرة اسمها "أن تحب مريضاً بالاكتئاب"، وكانت الجملة التي بقت في ذهني هي أن "بعض الناس تتجاوز أحزانهم كل المنطق وكل الرفق وكل المحبة"، وفكرت حينها في شخصين، إحداهن كانت هي؛ كان حزنها أكبر منّي، أكبر منّا، أكبر من العالم.

وأفكر الآن أنني كنت "أتدثر بحزنها"، دون وعي منّي أو منها، وفي أوقاتي الأكثر حُزناً، كُنت أذهب إليها –لأنها كانت بَيتاً- وأتوه في حملها، وأسألها إن كانت بحاجة إلى احتضانٍ طويل، في الوقت الذي أحتاج فيه أنا إلى احتضانٍ طويل، ولا يكون هناك فارق.

والآن لم تَعُد بالجوار، وفي أكثر من لَحظة، بعد العودة للقاهرة، طوال الأسبوع الماضي، أرتبك أحياناً حين أستوعب عدم وجودها؛ دَمَعت عيني ذات مرة أثناء المرور أمام بيتها، وأنا أفكر، بضعفٍ، عن أنها الشخص الذي كنت أذهب إليه في الليالي الحزينة.. فلمن أذهب -الآن- بحزني عليها؟

وأهوّن على نفسي بذكرى المرة الأخيرة، كانت ليلة النهار الذي قضيناه سوياً، وكنا نتحدث على الهاتف في الثانية والنصف صباحاً، وأخبرتها أنني لا أستطيع النوم وأفكر في أن ننزل لنتمشى، فردت أنها أخذت المنوم ولكنه "لم يعمل"، لذلك فالفكرة "شقية"، تحمسنا، وفكرنا ماذا سنفعل، لا تريد أن تأكل، ولا أفضل الآيس كريم، طيب.. هل نذهب إلى المالكي؟ متى يُغلق؟ نبحث.. يُغلق في الثالثة، نتفق على أن ننزل حالاً لفرع وسط البلد، أتحرك، وأنتظرها –في القصر العيني- على أول شارعها، وأراها، وأتذكر كثيراً كثيراً تلك الصورة، وأثبتها في ذاكرتي، وهي تأتي راقصة، نحوي، بطول الشارع؛ فَرِحَة وصافية ومتحمّسة، نَركب التاكسي إلى المالكي كي نَلحقه قبل أن يُغلق، ونأكل هناك، ثم نشتري طبق جيلي، ونتقاسمه سوياً أثناء العودة مشياً إلى بيوتنا، نمر على عبد الخالق ثروت، وشريف، وقصر النيل، ونوبار، وحسين حجازي، وسعد زغلول، وحين نجد الكراسي مُغلقة نجلس على قهوة فيينا في القصر العيني،حيث المرة الوحيدة التي جلست عليها طوال حياتي، في مناورة قدرية غريبة لتكون الذكرى الأخيرة أوضح وأكثر فرادة، ثم أغادرها في الرابعة صباحاً، وأتركها لتجلس مع صديق لها، ونحتضن بعضنا طويلاً طويلاً. ثم أمشي.

أمتن الآن لأن تلك هي الذكرى الأخيرة؛ أمتن على رائحتها التي تركتها في الشوارع، ولوحتها التي عَلَّقتها في صالة البيت، وضلوعها التي نَغَزَت صدري في كل مرة احتضان.

لا نَدم الآن ولا غضب ولا لَوْلَوة على الاحتمالات الأخرى التي كانت لتبقيها هنا، لا شيء إلا الوَحْشَة والمحبة والذكريات.

31 أغسطس 2016

وعلى ذكر الراجل العظيم اللي في القلب

(1)

"... أما عن كلامك بشأن أصلان، مش فاكر إني قلت "مبقتش متأثر"، أظن إن بس التأثر خف، أو يمكن بقيت واعي وعارف أقيّم مكانه أكتر، بس أنا متأثر بيه على طول، وتلك الصيغة الحكائية اللي بتخلي اللي بيحكي كإنه قاعد معاك هي صيغتي المفضلة في الكتابة، ممكن أشاورلك هي فين دايماً، في النص ده مثلاً من أول جملة "كان الرجل الأول يسير في أمان الله على كوبري 15 مايو"، "في أمان الله" دي مش مهمة.. دي ليها علاقة باللغة ونَفَس الحكي، كأن من يسرد يجلس بالجوار، وده لسه باقي مني من أصلان جداً، في المعالجة بتاعة الفيلم الطويل فيه مثلاً جملة "والسائق استغرب جداً هذا الكلام وشاور له على التكاسي البيضاء من حولهم"، ده تأثر بلغة أصلان جداً، يمكن بس بقيت أوعى أو أشطر أو ممكن أستخدمه أو مستخدموش مش مجرد متأثر بيه، لكنه الرجل العظيم اللي في القلب دايماً وأكتر واحد أثر فيَّ في حياتي

سعيد جداٍ برأيك في "بسكاليا"، وبالطريقة العشوائية غير المتوقعة اللي وصلتلهم بيها، أنا مش عارف إيه أكتر واحد بحبه فيهم، فيه قيمة عاطفية عظيمة بالنسبة لي في التلات أجزاء، ومع انقطاع الصلة بعد سنين فأنا بمتن كل مرة أرجع أقراهم إني عرفت في لحظة ما أكتب كده، بتاع داوود ده "أصلاني" جداً.. وده كان مسموح لإنه أصلاً تحيَّة كاملة مُكتملة لأصلان وهو جوَّاها، بس بفتكر –لو تسمح لي أقول ده- إني بحب الفينالة جداً بصراحة :) الشيخ حسني في الحكاية الإنجيلية ثم النص اللي تخيّلت إنه متعلق عنده.. اللي هو اللوحة المُفضلة من "الثور الهائج" أصلاً: يوماً ما كنت أعمى والآن أبصر

..."

محمد
عوامة 75 كورنيش العجوزة
مساء 21 أغسطس


(2)

"
... أنا كمان حابب أتكلم أكتر لما أشوفك عن المقالات وزمانها وتفاصيلها، أنا مبسوط باستعادة ده عن بُعد أصلاً، وبعد 4 سنين تقريباً، حاسس حقيقي إنك بتتكلم عن شيء عزيز جداً بالنسبة لي، جداً

كان فيه 3 حاجات من أصلان بشكل صريح في الجزء بتاع داوود: وفاة الشيخ حسني، وحال هَرَم، وافتتاحية رثاءه العظيمة لنجيب محفوظ، "تخيلتهم وكل منهم يشد على يد الآخر معزياً في رحيل الرجل الذي كان، لفرط المقام، على الأقل، على صلة قربى بكل واحد منهم"، أنا حافظ افتتاحية الرثاء ده من كتر ما هي من أصدق الحاجات اللي كُتِبَت، وكلهم بالمناسبة في "شيء من هذا القبيل"، القريبة جداً جداً من القلب

كنت بفكر الصبح، صحيت الساعة 6 الصبح وقريب إيميلك أول حاجة وقعدت أرد وأفكر في حاجات في خيالي، بس كنت بفكر إن الصيغة بتاعة كتابة أصلان، الموصولة بنَفس الحكي كأن شخصاً بالجوار زي ما قلت، واللغة الناتجة عن ده بدمج العامية بالفصحى بشكل مَهول السلاسة، هو إنه بيدي قدرة في جوهره على التقاط الحاجات الكبيرة والصغيرة ورميها بتلقائية وخفة، بدون وقوف كبير قدام اللحظة، على عكس ما بيعمل يوسف إدريس مثلاً (أول حد قريتله وأكتر حد قريتله واللي قريب لقلبي لحد دلوقتي بفعل العِشْرَة) اللي مُنجزه في تجسيم اللحظة العابرة وجعلها  هي الحياة، فيبقى واحد بيعدي الشارع مثلاً وإدريس بيشيل القصة على إن اكتشاف حياته الأهم بيحصل في اللحظة دي ويسرد ده في 5 صفحات (وأحياناً بيعمل ده بعظمة)، أصلان لو كتب عن واحد بيعدي الشارع فهو واحد بيعدي الشارع.. مفيش شيء أبعد إلا في تتالي الجمل والأحداث وما فعله قبل وبعد، وده أقرب لي في الكتابة بكتير، وفي النص بتاع الفيلم، لما كنت بقولك إنه "مفيهوش كلام" و"مش متعلق بالماضي" كنت أقصد تحديداً إن أول مرة أكتب شيء سينمائي مش مرتبط بتاريخ عايز أحكيه أو تفاصيل قديمة تصعد على السطح، الحكاية هي الحكاية اللي قدامك مش أكتر، وده مُثير للانتباه بالنسبة لي

وعلى ذكر الرجل العظيم اللي في القلب، مرة أخرى، فواحدة من أقرب الجمل بالنسبة لي، ومن أبقاها، ومن أحزنها، كان في "وردية ليل": "وفي الطريق، كان سليمان يكتفي بالنظرات العابرة، لأنه لم يكن يحب إلا تلك الأشياء التي كانت نادراً تصادفه دون تقليب، والتي كان يعرف، على نحو ما، أنه سوف يلقاها، فيلقاها، ويتجه إليها، ويشتريها، لأن السنوات الطويلة التي جرّب فيها علمته أنه لو عاند نفسه ولم يأخذها فإنه سوف يأتي يوم الجمعة التالية إلى السوق باحثاً عنها وهو يعرف أنه لن يجدها، فلا يجدها، حينئذ يحس بالخسارة، ويظل طوال الوقت يذكرها، ولا يعرف كيف ينساها"
"وهو يعرف أنه لن يجدها، فلا يجدها".. تعريف الحَسْرة بالنسبة لي، وأشياء من هذا القبيل قد تكون أكبر من السينما ربما

ألف رحمة ونور والله"

محمد
سوبر جيت القاهرة سانت كاترين
22 أغسطس (2:43 ظهراً)

3

"
 ...  ومع ذلك، ومع إن النص التالت معجبنيش أبداً، بس فيه حاجة خلتني أبتسم وأتأثر جداً،وهي جملة يسري:
"لأن الأفلام هي ذاكرة حياتنا" ، يُخبر يُسري طُلاَّبه ، يوماً ما ، بعد سنوات ، طالت أو قصرت ، ستتساقط منّي التفاصيل ، لن أعرف متى جرى كُل هذا ، ما كُنت أشعره أثناء حدوثه ، كَيف وصلنا إلى تِلْكَ النُّقطة ، الأفلام تَحْفَظ الذكريات ، تُبقيها حَيَّة ."

حسيت إني كنت كاتب الجملة دي عشان أبرر لنفسي امتلاء النص وتقله السلبي بالذكريات، وبرد عليَّ حالياً، وحسيت إني فعلاً ناسي ستاتس البحّار، وشعوري بمحمد محمود في أوله، وبعض التفاصيل والأحلام العابرة، بس اللي شايلها فعلاً هو النّص كـ"ذاكرة لحياتنا"

حبّيت في المقابل الحِلم، وحبّيت –جداً- الفينالة، فكرة إن ده زمنياً قبل الجزئين اللي فاتوا، وبيجمع كل الأشخاص المعنيين بده في لحظة "مسيرة الفنانين" اللي كانوا فعلاً موجودين فيها، ثم الجملة "لم يعد يتبقى شيئاً من كل هذا" .. "كان الليل ينقضي ، والهدوء يتراجع ، كما تتراجع الأحلام ."، وعلى ذكر أصلان مرة أخيرة.. فدي جملة فينالة رواية "مالك الحزين""


محمد

سانت كاترين – صباح 23 أغسطس

01 يناير 2016

في لحظة هشّة من الزمن أحسست بالمحبة ناحية داوود


لم أحب داوود عبدالسيد كثيراً في أي وقت، لم يسبق له أن كان مخرجاً مُفضّلاً

له لحظاته بالطبع، منذ وقت قريب كنت أخبر شخصاً أن هناك مشاهد مُعيّنة وقليلة في الأفلام تتجاوز كونها "حدثاً داخل فيلم" وتصبح بالنسبة لي "شعور"، شيء أستدعيه حين "أشعر" بشيءٍ مُعين، وأجد بلاغة أو مؤانسة أو قدرة على وصف ما "أشعره" بما يوجد في تلك المشاهد.. وليس بكلماتٍ كـ"الحزن" أو "الهزيمة" أو "الأسى" مثلاً.

من أكثر "لحظات الأفلام التي تتحول إلى شعور" بالنسبة لي في فيلم "الكيت كات"، "كُنت فين انتَ يا عم مجاهِد"، في لحظتين أو ثلاثة في حياتي كان ما أشعره تحديداً تحديداً هو "كنت فين انتَ يا عم مجاهد"، خليط من المعاتبة القوية مع بعض الزّعل وبعض استحقاق التقدير أو التفهُّم، "كنت فين لما حصل كذا وكذا وكذا".. "انتَ متعرفش، وأنا آسف لو الأمور ساءت، بس انتَ مكنتش هنا عشان تفهم".

هذا المشهد يعني لي الكثير، والفيلم كذلك، مع بعض لحظات "الصعاليك"، أشياء مُعينة في "أرض الخوف"، ربما "أرض الأحلام". وخلاف ذلك لا يوجد الكثير ناحية داوود.

(2)

في 2010 حين شاهدت "رسائل البحر" للمرة الأولى  كان هناك تأكيداً على الفجوة بيني وبين هذا الرجل. وما تبقى في ذاكرتي كان كله مدعاة للسخرية، النوستالجيا العجوزة ناحية المدينة الكوزموبوليتانية، رمزية التفاح وحكايات الأنبياء التي يكررها، محادثة عبيطة للبحر عن "ظلم ده ولا فوضى"، افتعالية في طريقة تسيير الحكاية، الفراشات التي تظهر في مشاهد الختام، الناريشن المزعج والشارح جداً، الفيدآوت في نهاية كل مشهد، وتفاصيل أخرى كثيرة، كنت أكره الفيلم فعلاً، حتى شاهدته ثانية قبل وقت قريب، في لحظة هشة من الزمن، ومن حينها أحاول فهم ما حدث، ولماذا شعرت بشيءٍ ما ناحيته، وشيء قوي فعلاً من التعاطف ناحية داوود.

(3)

حدث الأمر بعد مشاهدة "قدرات غير عادية"، كانت مشاهدة كارثية، لا يوجد مبرر أو شيء منطقي لفيلمٍ بهذا الضعف لمخرج هو في أقل الأحوال صنع شيئاً فريداً كـ"الكيت كات".

 وأنا أحاول أن أفهم، فعلاً، أكثر شيء يمكن أن أصف نفسي به خلال السنوات الأخيرة في حياتي هو محاولة الفهم، وبالتالي التفهُّم، للناس.. للأشياء.. للأحداث أو المواقف العابرة، وطالما فهمت سأكون مرتاحاً، وأكثر قدرة لاحقاً على المسامحة أو التقبُّل أو الإعتذار أو الأسف. تمرينات دائمة ومتتالية على كيف يكون المرء أعمى ويحاول أن يرى، حتى لو لم يغير ذلك شيئاً في واقع الأمور.

لذلك كنت أريد أن أفهم، هذا شيء يختلف عما كنته قبل 5 سنوات، لأن الزمن شيء مهم، قبل 5 سنوات اكتفيت بالكراهية ناحية رسائل البحر، الآن أردت فهم ماذا أراد داوود من "قدرات غير عادية"؟ وباستثناء هواجسه المعتادة.. عن السلطة تحديداً (كمجتمع.. ونظام.. ودين).. ما هو الشيء الحقيقي الموصول به في الفيلم؟

كمحاولة للفهم.. قررت مشاهدة "رسائل البحر" -لتشابهات في الفيلمين- دون طَمع كبير في إجابات.

(4)

كانت لحظة المشاهدة "هشة" لأن قلبي كان مفتوحاً حينها لضعفِ الغير. وأريد هنا التأكيد على ملحوظة بديهية وقديمة عن أن "تلقي الفنون" هو أمر مُراوغ، لأن لحظة الاستقبال وأجزاء القلب والعقل المستعدة للتفاعل ستكون مختلفة في كل مرة. وأنا كنت في لحظة هشة وبقلبٍ مفتوح تماماً.

بدا لي أن اختصار كل شيء هو في إحدى جمل الفيلم: "أنا بتهته وأنا بتكلم مع الناس، بس مبتهتهش وأنا بتكلم مع نفسي. بس أنا مش عايز أتكلم مع نفسي، أنا عايز أتكلم مع الناس".

كنت أفكر، وقت إعادة مشاهدة الفيلم، وفي الأسبوعين التاليين وصولاً لهذا الكلام، أن هذا لسان داوود. ليس تعبيراً عن شخصية ولا موقف درامي، ولكنه اختصار شعوره الشخصي اتجاه العالم في تلك اللحظة، أنه "يريد أن يتكلم مع الناس".

في كل المرات التي شاهدت فيها داوود يتحدث شعرت أنه رجل لا يستطيع التحدث بكلامٍ مفهوم. ليس بليغ كيسري ولا راغباً في سرد حواديت كخان، داوود يتهته –بشكلٍ أو بآخر- وهو يتحدث مع الناس، وهو يصنع أفلام، تحديداً رسائل البحر، لأنه يريد التحدث معهم. وأنا شعرت بالتعاطف والضعف والمحبة اتجاه تلك النظرة للفيلم.. حتى مشاكله الواضحة والمتبقية.. كشروح الناريشن مثلاً أو تفسير كل شيء بشكل مباشر والتكرار عليه.. وجدت نفسي متفهماً لذلك في سياق أن الرجل يريد "التواصل" يريد أن "يفهمه الناس" ويريد أن يحكي لهم عما يفكر فيه.. فيزيد في الشرح بحثاً عن تلك الصلة. حتى الأسى الساذج اتجاه "تغير المدينة" وأن صاحب السوبر ماركت يريد هدم البيت القديم لبناء مول.. وجدت هذا الأسى صادق جداً لأن رجلاً عجوزاً في السبعين من عمره يشعر فعلاً بهذا القدر من الغربة والأسى لأن عوالمه المعتادة تتغير وتزداد قسوة ويرغب أن يبيح بذلك إلى الناس لأنه "يريد التكلُّم معهم".

من ذلك الحين، وطوال أسبوعين، وأنا أحاول استيعاب لماذا أشعر فعلاً بالمحبة والتعاطف اتجاه داوود، واتجاه فيلم لازال به كم عظيم من المشاكل الواضحة. وبدأت الكتابة وأنا أبحث عن إجابة، وربما وصلت.

(5)

- إيه رأيك في الفيلم؟ أنا عجبني حاجات على فكرة
- إيه عجبك طيب عايز أعرف؟
- بص هو منطق غريب شوية، عجبني إن مخرج عجوز بيعمل فيلم عجوز فاشل بيحاول يخليه شبة أيام مجده وبيفشل في ده، شايفة فيها حاجة شاعرية، إنه لسه بعد سنين دي مصدق نفسه
- أيوة، الفيلم اللي برة الفيلم، الشيء المرتبط بالصانع وعلاقته باللي بيطلعه، كنت بفكر في حاجة شبة دي إمبارح بعد ما اتفرجنا

حوار مع "ليلى أرمن" بعد مشاهدة "قدرات غير عادية" بيوم
-ويمكن اعتبار البوست بالكامل إلى ليلى أرمن-


(6)

لم أشاهد "قدرات غير عادية" مرة ثانية، ولا أعرف هل سأكون بحاجة لخمس سنوات أخرى كي أشعر بـ"تفهم" أكبر اتجاه داوود في صنعه أم لا. ولكن في تلك اللحظة أشعر بمحبة أكبر اتجاه الرجل، ستجعلني أكثر قدرة بالتأكيد على فهم حتى خياراته السيئة، وربما تتحول –في لحظة هشَّة أخرى- لنقطة قوة في صلتي بأفلامه.
 

04 أغسطس 2015

علاء صار يعرف كيف يطير


إلى أحمد رجب
ونصف عالمي الآخر الذي لم أكن سأعرفه لولاه


.
.

دائماً ما تكون لحظة مؤثرة جداً حين يخبر الشيخ حُسني ابنه يوسف "عارف وانتَ صغير.. كنت لما بتمشي بتدّب عَ الأرض.. دلوقتي انتَ مش عاوز تلمس الأرض..عاوز تطير.. عرفتك من خطاويك"

مؤخراً أحببت الحكاية التي يسردها سيد العجاتي على اللواء عاطف بعد تقديم استقالته من الداخلية في نهاية "موجة حارة"، عن الفئران التي تهرب من السفينة عند الغرق، "إنما أنا أحسن من الفيران.. أنا هطير".

ربما مرّ التعبير في الكثير من الأعمال الأخرى، سينمائية وأدبية، لذلك فوضعه في العنوان ليس بلاغة، هو فقط الحقيقة، قبل عدة سنوات لم يكن علاء يعرف كيف يطير.. الآن صار يعرف.


.
.

أذكر ذلك جيداً، يوليو 2009 كانت المرة الأولى التي يعلق فيها "رجب" في المدوَّنة هُنا، كانت فترة سيئة جداً، لديّ نظرية أن المرء يتألم بعنف من علاقة عاطفية واحدة في حياته، ولا يتألم بهذا القدر بعدها أبداً، وأنا كُنت صغيراً، وعبيطاً، وذلك الوقت كان مرّتي. أذكر بالوَيَم تعليق "المواطن رجب".

بعدها بوقتٍ قليل وجدت إضافة منه على فيس بوك، ثم بدأنا نتحدَّث، واتفقنا أن نتقابل، في قهوة ستراند باب اللوق، أذكر جيداً كوبايات السوبيا التي تناوبت على الترابيزة، وعن المرة التي طلب فيها "شاي" ووضع 5 معالق سُكّر، أذكر أننا تحدثنا عن السينما والكتابة والمدوّنات والكُتب.

أذكر –أكثر من أي شيء- أن "رجب" قال لي حينها أنه يريد أن يصبح "أحسن صحفي في مصر"، هززت رأسي دون أن أأخذ حلمه بجدية، لم يكن قد بدأ حينها الخطاوي، امتلك بعض المصداقية حين أضاف: "أظن إن اللي ممكن يمنعني من كده وينافسني فعلاً هما فلان وفلان.. بس فلان الأولاني نفسه قصير.. وفلان التاني لغته وطريقته في الكتابة صعبة رغم إنه موهوب جداً". ولكن حتى تلك الجدية والحسبة الدقيقة لم تكن كافية لأن أؤمن فيه من الجلسة الأولى، فقط هززت رأسي من جديد وقلت بأن "جيلنا" لديه الفرصة لأن يصنع أشياءً عظيمة.

بعدها بشهور قليلة انتقل "رجب" لقسم التحقيقات كما كان يحلم ويُخطط، وبعدها بعامين فقط.. أصبح ضمن أهم أسماء صحفيي التحقيقات في مصر.. لو لم يكن أهمهم.
.
.

جرت الحكاية قبل أن أعرف علاء، حكاها لي مرّة، وحكاها لي رجب مرّة أخرى.

على الأغلب كانت تلك هي مرة "ألمه"، لا يحق لي سرد التفاصيل حتى لو كُنت القاص في هذا "البوست"، ولكن مُختصر الأمر أنه لم يستطع السفر إلى حبيبة، لأن الجيش رفض إعطاءه إذن سفر، كان صغيراً ولا يعرف كل تلك التفاصيل البيروقراطية، حضَّر كل شيء، التذكرة والشنط وحياته هناك، وفي الأخير.. أُوْقِف في المَطار، عند البوابة الأخيرة، "غير مسموح لك بالسفر". ترك حَبيبته.. وعاش هُنا.

"رجب" يقول أن شيئاً تغير في "علاء" حينها، داوته السنين بطيئاً بطيئاً، ولكنه في النهاية ظل باباً أُغلق على حياة أخرى مُحتملة كان ليعيشها، وهو لم ينسَ.. بعدها بسنوات حين سَمَح فيس بوك بإضافة تواريخ قديمة هامة في حياتَك.. وضع علاء تاريخ 2008.. وكتب إلى جانبه "سافر إلى بيروت".


.
.

في نفسِ اليوم تَمشيت مع "رجب" من ستراند إلى عبدالمنعم رياض، جلسنا على الدكك قرب التمثال، تحدثنا عن "أصحابنا"، وكَرّ أسماء كثيرة، حربية.. علاء.. تركي.. أسامة.. طلال.. سمير، لم نكن حينها قد عرفنا مرصفاوي وخير، وأنا بدوري كنت أحكي له عن فضل.. شريف.. عبدالوهاب.. زنجي.. حسين، لَعبنا لُعبة المتشابه في أصدقائنا.. كأن نُوصل كل شخص بالشخص الذي يُشبهه.

لاحقاً بدأت الشلل تتعارف، قهوة البستان أخذت مننا الكثير من الأيام، البلح باللبن، وعلبة البيبسي الكاملة رغم أن الكوب ممتلئ، أذكر الآن جملة حربية حين عرفني أنا وفضل "ده إحنا بقينا بنحكي للناس إن عندنا أصحاب لما بنجوع عَ القهوة بيقوموا هما يجيبوا الأكل.. قبل كده كنا بنموت من الجوع".

بَيتُ سَيد في الهرم، مافيا، والأفلام، أذكر ذلك اليوم الذي تألق فيه سيد كثيراً في اللعب وحين سألت "هو ماله فايق النهاردة ليه؟" قال لي حربية "علياء هنا يا سيدي.. سيد بيطير".. قالها هكذا.. "سيد بيطير".

دخول مصطفى وخير للمجموعة، الراديو، وشقة السيدة زينب، وتسجيل الآيتيمات، وقفش "رجب وحربية" لأن أنا وفضل نختفي كثيراً، الرجل الذي قابل فضل على السلم يشتكي له مصطفى، قصيدة علاء.. "يبقى ليل الدنيا ضُهر.. والطهارة تبقى عُهر"، والمرة التي قتلنا فيها فأراً بذراع الترايبود فانكسر.

وبعدين الثورة.. أحه! لن أحكي شيئاً عن الثورة. ولكننا كنا سوياً.


.
.

لم يقترب علاء مني كثيراً عبر السنين، رغم أننا عملنا سوياً في "السينما.كوم"، ولكنه لم يكن صديقاً قريباً، بقدر ما كان "صديقاً" باقياً. الأهم من علاقتي به كان مسارات حياته هو نفسه، الأكثر عبثية بين كل من عرفتهم في حياتي.

يمكن التأريخ السريع للسنين عبر تعريفات أشغاله: عامل على عربية كبدة.. واحد من مؤسسي أهم تجربة "أونلاين راديو" في مصر.. صحفي في موقع سينمائي إلكتروني.. معد برنامج رمضاني.. صاحب ورشة في الحرفيين.. وأخيراً واحد من أهم المصورين الصحفيين.

كان يتنقل بخفة بين كل شيء، كل قطعة حادة، وبين كل قطعة وأخرى أوقات عصيبة، أذكر تحديداً "قطمة الضَّهر" بعد الفلوس التي خسرها في ورشة الحرفيين، كان يحكي لي أن الأمور ليست جيدة، وأنه مُكتئب، وكانت المرة الوحيدة التي يخبرني بأنه مكتئب، أخبرته –كما أقول دائماً- إن "كل شيء هيبقى كويس"، مصور تحت التدريب في المصري اليوم، بدأ التحسُّن فعلاً، بالخفة نفسها كان يضع روحه في كل "حدث" من المفترض أن يصوره.. ليتحول إلى واحد من أهم المصورين في القسم وفي الصحافة. علاء هو من عايش الناس في رابعة لأسابيع وأصيب يوم الفَضّ.. وعلاء هو من ذهب في السادسة صباحاً ليصور "ما تبقى لنا" من عشرين مُشجع ميّت في ممر استاد، علاء كان يتعامل بروحه وليس بأن تلك وظيفة يؤديها، فكانت المرة الوحيدة التي يستقر في مسار عمل.

وقتها عرف نازانين. ولم يكن بعد قد تعلم بعد كيف يطير.


.
.

"سنين حياتنا.. ذكرياتنا.. أمنياتنا كلها"، أنا لا أحب جملة في أغنية مثلما أحب تلك الجملة.

التراكم المتتالي لسنين حياتنا.. ذكرياتنا.. أمنياتنا كلها كان أمامي في تلك الليلة، ليلة 2 أغسطس 2015، منذ لقائي الأول برجب في "ستراند".. والتتابع المحكم للوقائع والزمن حتى وصولنا إلى هنا، نجلس في الجنينة العامة أمام بيت علاء في العبور، نصنع دائرة متكاملة، سيجارة حشيش مُلتفة بين أغلبنا، يقول مصطفى "أحه لو بعد كل ده تتمسك ومتعرفش تسافر عشان سجارة حشيش". نضحك جداً، لأنه أمر عبثي يليق تماماً بحياة علاء.
 


علاء الذي تعرّف على "نازانين" وكانا يتحدثان على "جوجل ترانسليت" في الأيام الأولى لأسباب "بابلية"، ثم أحبها وأحبته، سافرت وجاءت وسافرت وجاءت وسافرت، ثم جاء دوره للسفر كي يبدأ حياة أخرى، وطوال أسابيع قبل السفر كان كل شيء يتجه نحو نهاية كابوسية متكررة بباب مُغلق يمنعه من العبور، ولكن في اللحظة الأخيرة حدث شيء مُعجز، والآن يجلس بيننا، يتبقى له 8 ساعات فقط.. ويطير.




أثناء العودة الليلية من العبور، أخبر مصطفى وطارق أنني أفكر أحياناً في الفرص الثانية التي تمنحها لنا الدنيا لغلق الحكايات القديمة، كأن يحدث شيئاً مُشابه تماماً لشيءٍ سبق أن حدث، لنستطيع تغيير المصير، وأن في ذلك رَحمة كبرى. ما فُتِح في 2008 يُغلق الآن. 
.
.

يقول لي "مصطفى".. "الواحد بس نفسه ميتغيَّرش، يعني واحنا حوالين بعض كده تحسّ أمان"، أخبره بأن الزَّمن مُوحش، والحياة صعبة، وأنه من المؤسف أن لا شيء مضمون، ولكننا نحاول يا مصطفى، نحاول كثيراً، السنين اللي فاتت لم تكن قليلة، وكوننا بقينا هُنا.. ذلك أمرٌ يستحق الاحتفاء.

26 يوليو 2015

يا ترى شو رح تكتب السنة في أغسطس يا محمد؟*



مخبّيش عليكِ يا برقوقة، مقلّق شوية :)

بييجي على بالي أحياناً إن لُطف أغسطس السنة اللي فاتت كان مراوغة مُرتّبة من الزمن عشان يرجع بضربة قوية، وعليه.. لازم الواحد يكون مُنتبه ومصحصح، ميآمنلوش أبداً، لحد ما يعدّي بالسلامة

النهاردة صحيت الساعة 6 الصبح، لسه نومي مش مستقر وبنام قليل من ساعة رمضان ما خِلِص، صحيت فايق وقعدت أقلب في النت شوية بعد رسالتك، بالصدفة وصلت لبوست من فبراير اللي فات كاتبه حد أعرفه، شيء ما عن القُبح ومؤانسته، مقارنة ما بدأت به الأمور وما انتهت عليه في العلاقة الأطول والأهم في حياته، اعتراف بخطايا، وتتبّع لأثر الماضي القريّب لما يشوّه ويبوظ الذكريات الأجمل، التناقض العنيف بين إن شخص من سنين قليلة كان أكبر شخص في قلبَك.. وإنك تقوله دلوقتي إنه أكتر شخص بتكرهه وأكتر شخص آذاك، "كائن مسمم دخل حياتك وخربها"، وكونِ كنت جزء مُطلع على بدايات كل شيء في الزمن الأول 2009 مثلاً.. ثم القطعة لمآل الأمور العنيف ده.. شيء كان غريب ومُربك في هذا الصبح

أنا بخاف من الزمن جداً يا فَرحة، عارف إني بقول ده كتير بس الزمن مُرعب، الزمن عدو لا يشيخ، صبره طويل جداً، مفيش حاجة ممكن تبقى في مأمن عنُّه، مهما بدا كل شيء قوياً ومتجذراً، الزمن لا يُسامح في الذكريات الطيبة، ولا يترك الماضي يَنْفَلِت بهدوء، بيحاول يختطف الذكرى مننا، ويُبقي بدالها قُبح وألم وأذى، وكل ما بييجي في بالي الأفكار دي.. اللي اتفحت في هذا الصباح بفعل سؤالك وبوست الولد الذي يحاول مؤانسة القُبح.. بشعر بالخوف والقلق

بس أنا حِلو عموماً، الأيام دي طيّبة، عندي فترة اتقاد ذهن في الكتابة والقراية والفُرجة، وده غالباً بيخلّيني هادي. هنزل أعوم كمان شوية، وأشوفِك بعدها لما ترجعي من السفر وغالباً بعدها هزور سلمى

هعمل إيه في أغسطس؟

الأكيد إن آخر 10 أيام هنبقى سوا في المُعسكر، والأسبوع اللي قبلهم هبقى مَسحول في ورشة إقبال بتاعة الكرَّاسات، جايز يحصل شيء لَطيف والمجلة تطلع في أغسطس ومجهود سنة تقريباً يَنْبُت أخيراً، الدوري هيبدأ ومتحمّس أتفرَّج على أرسنال حتى لو لسه مجبناش مُهاجم، هفضل أشتغل كويس عشان يبدو إني كائن صَيفي في الشغل أكتر(؟) هعمل البحث بتاع السينما كأرشيف بصري، وهحافظ على عادات الكورة والسباحة والجري وطبعاً العجلة في مشاوير القاهرة كلها –باستثناء بيتك!-، ومن المهم جداً جداً أن "نصنع أياماً للذكرى".. سوياً

تحمّست بأغسطس والله.. بس برضه خلينا واخدين بالنا :)

توصلي بالسلامة




*العنوان: رسالة صباحية من حبيبتي فرح برقاوي

05 مارس 2015

الكتب التي تحمل الزمن.. (نسخة 2014)


إلى نُهَى


"مَينقطعش الجاي والرايح"


.
.

بوست السنة اللي فاتت
.
.

كل فترة من حياتي بييجي شخص يفكرني أو أتقاسم معه فؤاد حدّاد، وتحديداً "أيام العجب والموت".

في الأول أحمد صلاح، كان اسمه في المنتدى بتاع كفاية "مندوب القلّة المندسّة"، كان فشيخ وقتها، هادئ ومُلْهِم جداً، أظن إن سبب أساسي لارتباطي بشعر فؤاد حداد في وقت صغير كان هُو، فيه دراما عن قد إيه إحنا بُعاد عن بعض دلوقتي، وإن شخص بتلك "الرقّة" اللي كان عليها يبقاله الميول الدموية الحالية دي بسبب السياسة، أنا بس وأنا بكتب دلوقتي، وفي حال حصلت مُعجزة وقرا الكلام ده في يوم من الأيام، فأنا عايز أمتَن جداً للشخص الذي كانه.

المهم، في الأول كان صلاح، بعدها بشوية حسين، بعدها أمين نفسه، وسامية، ثم بعدت شوية لحد ما نوران رجعته بكل الرقة اللي بيخلقها في القلب لما عرفنا بعض في مارس اللي فات، ومن أكتر الذكريات الطيبة اللي تقاسمتها مع حد طول السنة اللي فاتت كانت الأوقات اللي كنا سوا فيها بنسمع فؤاد حداد أو نقراه في بلكونة البيت.

وفي الآخر، من كام أسبوع، جه طحَّان لما كنا قاعدين عَ القهوة، وكان بيحكي عن إنه بيسمع قصيدة "جودة سعيد الديب"كتير جداً الفترة دي، فأروَّح واكتشف إني عمري ما سمعتها بصوت فؤاد حداد رغم إنها أكتر قصيدة قريتها في حياتي، واسمعها، ومن وقتها وطول أيام بعدها مكنش بسمع غيرها، في أي حتة وفي كل مكان، وأحياناً أكون ماشي في الشارع أو راكب العجلة وأردد بصوت عالي "والسنين فاتت وأنا بناديك
/كنت من صغري بحايل فيك/أما دلوقتي فؤادي انفجر"، سمَّعتها لفرح، بعت جزء منها لنوران، وكتبت لسُهى على أول ورقة في كتاب "مصطفى ذكري" عن"التراب اللي انحضن وانباس".

كُنت ممتلئ بالقصيدة وأنا مش عارف ومش بحاول أعرف هي ليه كبيرة في قلبي للدرجة دلوقتي، كانت أيام حزينة جداً بعد المذبحة، وهو كان مؤانس بشدّة.

https://soundcloud.com/foadhaddad/oo7txtpnfw8z

وكالعادة رجعت لنسخة "أيام العجب والموت" اللي حكيت عنها مرة هنا. وفكرت –وأنا بحضَّر الكتب اللي قريتها السنة عشان البوست ده ومن ضمنها إني قريت الديوان في مارس اللي فات- إنه أكتر كتاب فِضل معايا، تنقل بين البيوت، من بيت أهلي لبيت جدتي لشقتي القديمة في الدقي لجاردن سيتي لإني خدته معايا مرة المقطم، 5 بيوت غير عابرة، وكتاب، وكنت بفكَّر إن الديوان ده تحديداً شيء مُنساب في زمني تماماً، مختلف عن أي كتاب تاني قريته.

عشان كده محستش إني عايز أحطُّه بين الكُتب التي تحمل الزمن، لإن زمنه أكبر كثيراً من السنة اللي فاتت بس، وبدلاً من كده قلت إني هكتب مُقدمة البوست عنه، ووانا بكتب تحول لإنه كمان عن الناس اللي ارتبطوا بيه.

.
.

"البوست ده تأريخ شخصي بتون مُختلف للسنة اللي فاتت في حياتي، مش عن الكُتُب بالضرورة، والتَّرقيم مش دقيق ولا بيعني حاجة صارِمَة قد ما هو مُحاولة لغَربَلَة الزَّمَن":

13- ملحمة الحرافيش.. نجيب محفوظ (يونيو 2014): السنة دي كانت سنة إعادة نجيب محفوظ، بالصدفة في الأول لما رجعت أقرا أهم روايتين ليه بالنسبة لي في يونيو، ثم عشان تحضير الملف اللي عملته عنه في المصري اليوم رجعت قريت روايات كتير ليه في أغسطس، مستغرب إن "الملحمة" تراجعت شوية عن ذكرياتي عنها، فيه حكايات في النص كان واضح المرة دي بالنسبة لي إنها  أقل تماسكاً وبهاءً من الحكايات الأهم عن عاشور الناجي وشمس الدين وزُهرة وفتح الباب وجلال.

أكتر حاجة فاكر إنها تبقَّت هي الفكرة دي عن إني عايز أروح "كاترين" وأقعد بمعزل عن الناس لفترة، في مُحاكاة للوصف الرائق جداً اللي كتبه عن عاشور الناجي مع ابنه وزوجته، "حين جعلوا الصحراء تنقي أرواحهم".

مفروض آخر الشهر هروح "ڤي-باسانا" لمدة 10 أيام، هو شيء قَريب جداً من كده رغم شكله المختلف، هَيبان.


12- الثقافة الجماهيرية والحداثة في مصر.. والتر أمبرست (أبريل 2014):
أمبرست من أكتر الناس اللي قريت لهم اللي بيحللوا بوعي وحِس متأني الظواهر الجماهيرية وعلاقتها بالمزاج العام في المجتمع، عوضاً عن الكلام اللي بيحمله الكتاب نفسه وقيمته في تشكيل صورة "الوقت" –نهاية الثمانينيات وبداية التسعينيات- من خلال الأعمال اللي حققت طفرة جماهيرية.. فهو كان مُلهم عموماً في أفكار كتير.


11- كتاب الضحك والنسيان.. ميلان كونديرا (أكتوبر 2014): إلى جانب محفوظ، فالسنة دي قريت بكثافة لكونديرا، بدأ كل شيء بالصدفة عن طريق إعادة "كائن لا تُحتمل خفته"، ثم قريت بالتتابع كذا عمل ليه، في القراءات الجديدة "كتاب الضحك والنسيان" كان أجملهم وأكثرهم قرباً.

أظن إن قيمة "الكتاب" –كنت بقول في الريفيو على جودريدز إن كتاب هو أدق وصف ووضعها في العنوان من قِبَل كونديرا مفهوم جداً بالنسبة لي لإنه أكتر تداعي حُر في كل اللي كتبه-، كنت بقول إن قيمة الكتاب زادت مع الوقت في الكام شهر اللي فاتوا، بتذكر قصة الناس اللي بيحاولوا يستعيدوا رسائلهم القديمة بعد نهاية الغزو السوفييتي، أو كتابته عن علاقته بأبوه وذاتيته المُباشرة اللي مش فاكر إنه كتب بيها في عمل تاني قريتهوله، أو الفصل بتاع الـ"لوتيست".. الفصل المُنْحَط والعظيم اللي بيمَسْخر فيه الشعر والشعراء، كان شيء فائق الموهبة والشَر.


10- الجميلات النائمات.. ياسوناري كاواباتا (نوفمبر 2014)
9- موت إيفان إيليتش.. ليو تولستوي (ديسمبر 2014)


الروايتين قريتهم بالصدفة ورا بعض، آخر نوفمبر وأول ديسمبر، وكانت مُصادفة عظيمة لإنهم بقوا في ذهني كانوا شديدي الاكتمال.

الجميلات النائمات عن العَجَز والشيخوخة وإدراك قُرب الموت والذكريات البعيدة اللي بتقترب في أواخر الزمن، "موت إيفات إيليتش" هي عن لحظة الموت نفسها بشكل مُباشر.. مُساءلة النَّفس عن كُل ما حدث.. والألم النفسي –عوضاً عن الجسدي في حالة بطل الرواية- عن إنه "خلاص كده".

"انتهى الموت، قال لنفسه، لم يعد هناك موتاً آخر"
بفكر، بصلة من الروايتين دول ورواية جورج أمادو "الرجل الذي مات مرتين" اللي قريتها في سبتمبر، إني عِشت في سنين عُمري القليلة حياة صاخبة وصعبة وجَميلة، كما أردت تماماً أن أعيشها، وعندي في اللحظة دي امتنان عابر لده.
.
.

فاصل: أثناء كتابة البوست، توقفت هُنا وقُمت، وعند العودة فتحت «جودريدز» لاستكماله، واستعادة تواريخ القراءة بدقة، فوجدت أول تحديث هُناك لنُهى، ريفيو قصير عن رواية "أصلان" الأخيرة، وتقول أنها تذكرتني، وتذكرت حين كُنت أتحدث عن أن الكتب تحمل زمنها معها، البوست القديم الذي بدأت ثَانيه هذا بإهداءٍ لها منذ 4 ساعات فقط، الصدف تتحرَّك بالطاقات كما أؤمن، والحياة مَكان كَريم أحياناً.. في الكثير من الأحيان.
.
.


8- فردوس الزهراء.. أمير وخليل – ترجمة: أحمد وريم (ديسمبر 2014):

بحب الحكاية، إني في أكتوبر ونوفمبر 2012 كنت بحضر لملف عن ذكرى محمد محمود، قابلت بعض من أهالي الشهداء، ومن أكثر ما بقى في قلبي هو والدة الشهيد "محمد بشر أنور" وهي بتحكي عن إنه اتأخر، ونزلت تدوَّر عليه، لما كتبت ده في الملف، اللي كان اسمه "الريح التي تهز الشعير"، كتبت "تلك الليلة التي لن تنساها، والتي قضتها تُلاحق الأمل الذي يتضاءل بوجوده حياً، هرولت إلى التحرير حين تأخر وأخبرها أحد أصدقاءه أنه هناك، دعت أن تجده في الشارع وبين الناس ولم تجده، فدعت أن تجده بين المصابين في المستفياتِ ولم تجده، فذهبت إلى المشرحة وهي تدعو ألا تجده، ووجدته."

في الرواية دي، اللي مكنتش عظيمة بمقاييس فنية مباشرة، أو بشكل الحكاية اللي بتحكيها، بس امتلكت شحنة عاطفية عظيمة، اكتملت تماماً لما أم مهدي كانت بتقول في جزء "هل تتخيلين أنني ذهبت إلى المستشفى وأنا أتمنى أن أجده؟!".

ثم كانت الهوامش الأخيرة، ملامسة أحمد وريم لكم الشبة والوصل، الحكايات الجانبية عمَّن غيبتهم الثورة، الإهداء في الصفحة الأولى، والـ16 ألف اسماً في الصفحاتِ الأخيرة.

كانت هدية ماجد في عيد ميلادي، راجل شوَّاف ماجد برضه :)


7- جنوب الحدود غرب الشمس.. هاروكي موراكامي (نوفمبر 2014): 


كل شيء مَلفوف ومُتصل، تماماً، الحياة دائرية بشكلٍ مُدهش، مبهر بالنسبة لي حتى مع تسليمي الدائم ليه.

لما اشتريت الرواية كان قبل سَفر نُهى لألمانيا، كانت بتقول إنها عايزة كتاب تخليه معاها في السفرية، وبتفكر في الرواية دي، نزلنا سوا من البيت ورحنا لمكتبة "تنمية"، بس طلبت مني أجيب لنفسي أنا كمان نُسخة، مكنتش متحمس عشان عارف إني مش هقراها دلوقتي، بس جبتها كجزء من الاتفاق.

لاحقاً، لما بدأت قرايتها، في أول نوفمبر، كانت أيام صعبة وضبابية شوية، تخص أهم قرار خدته السنة دي، عني أنا وفرح، فاكر اللحظة كويس، كنت مُثقل، عند الحلاَّق عشان مش عايز أفضل في البيت ولا أكون مع ناس فقلت هنزل أحلق، فيه اتنين كانوا قبلي فطلعت الموبايل نزلت الرواية وقلت هقرا صفحات منها وأكملها في النسخة الورقية لما أروح، بدأت أقرا.. وفي المفتتح كانت بطلة الرواية بتقول لبطلها "كل شيء سيكون على ما يرام، ابقَ هُنا وكل شيء سيكون أفضل". وكان ده ليه معنى وأثر في عالمي، مفضلتش وكملت عشان الجملة بس لحظتها كان شيء أثر فيَّ فعلاً. ثم صار كل شيء أفضل وعلى ما يرام.

خلاف كده، كنت بشوف في الرواية أنا قد إيه كبرت، السنة قبل اللي فاتت، أبريل 2013، وأنا بقرا "الغابة النرويجية"، كنت بزق نفسي مع الشخصيات لتجاوز الماضي، وأنا بقرا "جنوب الحدود غرب الشمس" كنت حاسس إني سابق الشخصيات –المُشابهة للغابة النرويجية.. ولعالم موراكامي المتصل بشكل عام- بخطوة.

الماضي شيء خطير، لازم التصالح معاه أول بأول.


6- الطريق.. نجيب محفوظ (أغسطس 2014): 


شيء كبير أوي بقى والله العظيم، يعني أظن إن دي "أمتن حكاية" في الكُتب اللي موجودة في البوست كله.

أعدت قراءتها أثناء التحضير لملف محفوظ، كانت إعادة قراية مُدهشة، الطريقة اللي الحكاية بتكبر بيها، وإزاي الطريق في النهاية بيتفرع لـ3 خيارات –الأب.. كريمة.. إلهام- كل واحد منهم هيحدد حياتك للأبد، وإنك تتناول أمور على القدر ده من العُمق والفلسفة في ظل حكاية بوليسية بالأساس، أنا منبهر تماماً.

أكتر فكرة سيطرت على بالي وقتها إن لو نجيب محفوظ كاتب فرنسي أثناء الموجة الجديدة كان هيطلع منه كم أفلام عَظيمة مش قليل، وإني فهمت جملة توفيق صالح عن إن "السينما المصرية هي نجيب محفوظ". من الجيد إن موهبة استثنائية بالحجم ده نالت التقدير والتكريم اللي تستحقه مع مرور الزمن.


5- كتاب الطاو.. النص المُقدس الصيني بترجمة علاء الديب (يوليو وأغسطس 2014): 


بدأ كل شيء أثناء القعدة مع هالة لطفي، كانت بتحكي عن إنها قبل بداية تصوير "الخروج للنهار" ادّت لكل واحد من فريق الفيلم نسخة من كتاب الطاو بترجمة علاء الديب، وبعتت لي نسخة من الكتاب، مكنتش سمعت عنه قبل كده، بدأت أقرا.. ببطء وتمهُّل.

"الخطئية الكبرى هي الرغبة، اللعنة الكبرى هي عدم الرضا، سوء الحظ الأكبر هو الرغبة في الحصول على الأشياء، من يعرف أن الكفاية كفاية.. يحصل –دائماً- على ما يكفيه"
بَحاول


4- كائن لا تُحتمل خفته.. ميلان كونديرا (أغسطس 2014): 


لما قريت الكتاب أول مرة كنت أصغر، مكنتش أعرف تحديداً هو بيتكلم عن إيه، يبدو كلام عَميق وكويس عن حاجة أنا أصلاً معرفهاش.

فرق السنين بين القرايتين هو أنا، اختبار كَم مُختلف من التجارب والمشاعر والعلاقات والناس بيأدي لإني فاهم فعلاً هو بيحكي عن إيه، وبالتالي كنت شايف كونديرا، والرواية دي تحديداً، من أكتر الحاجات اللي قريتها في حياتي عُمقاً وصِلَة وفِهماً للبني آدمين، واستكشافاً لماهية الحُب والطاقات الرايحة جاية، كنت في أحيان كتير بقوله بطريقة عبدالفتاح القصري في ابن حميدو "يا كونديرا يا فاهم يا واعي يا مستوعب الأشياء" :)

أكتر جملة تبقت هي الجملة دي

 وأكتر جزء مُكتمل وبيحضر على بعضه في بالي هو الحلم، حلم "توماس" بأقرب تصوّراته عن الجنة، "كان يجلس مع امرأة، "تشع هدوءاً وحركة يدها ناعمة"، ويصف بأنه "طوال حياته افتقد هذا الهدوء الأنثوي بالذات"، وحين استيقظ، ظلَّ يتصور بأنه يعيش في عالمٍ مثالي مع امرأة حلمه، وأنه سعيدٌ، ولكن، في حلمِ يقظته هذا، وفي لحظةٍ مثالية منه، يتخيَّل "تيريزا"، حبيبة حياته الأرضية، تَمُرّ من أمام الشباك، وتنظر له مع امرأته، وعندئذٍ سيشعر بألمها في قلبه، و"سيغور في روحها
".

تخيَّل "توماس" نفسه وهو يقفز، ويذهب إليها، وتخبره، بحركةٍ عصبية يكرهها، وبمرارةٍ تملأ فمها، بأن عليه أن يبقى حيث يشعر بالسعادة، وهو يُدرك، في تلك اللحظة بالذات، داخل حلم اليقظة وخارجه، أنه مُستعد لأن يترك بيت سعادته والجنة التي يعيش فيها مع امرأة حلمه "في سبيلِ الرحيل مع تيريزا، هذه المرأة المولودة من ست صدف مُضحكة".


(3) ليالي ألف ليلة.. نجيب محفوظ (يوليو 2014): 


"ثلاثة أجساد مؤقتة ليصير السفاح درويشاً"

وكأن مُحمّد قد شرب عشر أرطالاً من الخمر

على عكس "ملحمة الحرافيش" اللي قلّت شوية، فكل ما تركته في "ليالي ألف ليلة" وجدته هُنا

"
أحبُّ، أكثر من أي شيء، الطريقة التي يتعامل بها نَجيب مع نفوسِ الناس، ليست نقيَّة تماماً ولكنها ليست عَفِنَة بالكامِل، كيف تعرَّض فاضل صُنعان لمعجزة الطاقية فأفسدته، وكيف تعرَّض معروف الإسكافي لمعجزةِ الخاتم فانتصرت رَوحه، لماذا مَنَح الله عَجر الحلاق فُرصاً متتالية للتوبة.. في مُقابل أخذ علاء الدين مَظلوماً، حكاية الشيخ عن الرجل "الذي نَجَّاه الله من الموت بالموتِ"، والحِكْمَة والرّضا والسحر المتراكم في تلك الرواية سَطْراً بعد سَطر."
الحِس الصوفي الفاتن ده في التعامل مع العالم، وقدر الحَكي العظيمة في تسليم الحكايات لبعضها.

أعظم روايات محفوظ بالنسبة لي، ومن أعظم ما قرأته في حياتي على الإطلاق



(2) هيتشكوك
/تروفو.. حوار ألفريد هيتشكوك الطويل مع فرانسوا تروفو (يناير وفبراير 2014):


الكتاب ده منحني أهم تجربة قراءة ومُشاهدة خلال السنة.

هو الحوار الطويل اللي عمله فرانسوا تروفو مع هيتش سنة 66، وبيتتبع فيه مسيرته فيلم فيلم، يتكلموا عنه ويستشكفوه

أثناء القراءة رجعت شُفت كل أفلام "هيتشكوك" مرة تانية، كل فيلم تزامناً مع الجزء اللي يخصه في الحوار، كنت بشوف بعين أكبر ونفس أكثر تواضعاً ورغبة في الفِهم والاستكشاف، وكان من أهم الكتب السينمائية اللي "اتعلّمت" منها، سواء مُشاهدة أو تنفيذ الأفلام.

ثم، بنفس القدر من الأهمية، وبطريقة مُدهشة ومُلهمة، الكتاب بيتحول في الآخر لعمل أدبي عظيم، هيتشكوك بيموت سنة 80، والنسخة اللي عندي هي النسخة اللي "تروفو" كتب لها مقال ختامي طويل سنة 84، بيتكلم فيه عن العقدين الأخرانيين في حياة الراجل، إزاي كان بيكبر، والعالم بيتغير، والمزاج العام بيميل ناحية التلفزيون، ومحاولته المستميتة في تحدي الزمن والاستمرار داخل اللعبة، وفشله في ده بفعل العَجَز، وقتها حسيت إن الكتاب كله بقى رواية أصيلة ومتماسكة جداً، ومَسرودة بشكل غير مُعتاد: بعد ما تابعت حياة هيتشكوك على مدار خمسين سنة، دخوله السينما، صعود اسمه، تحوله لأنجح مخرج هوليوودي، لحظات النجاح والفشل، بييجوا آخر 50 صفحة دول كفصل أخير في الرواية، بمُعايشة مُدْهِشَة لكل المشاعر اللي بيمر بيها راجل عجوز في سنينه الأخيرة، "كيف كان علينا أن نتعامل مع شيخوخة رجل عظيم؟"


(1) لطائف الإشارات.. الإمام القشيري (من أبريل إلى نوفمبر 2014):



كنا في كاترين، صباح 4 أبريل الماضي، حين فَتحت الكتاب لأول مرة، كانت النُّسخة لرضوى.

بدأت القراءة، "تفسير صوفي للقرآن" هو تعريف مثير للاهتمام، خصوصاً مع قراءة بعض المقاطع من "الرسالة القشيرية" في وقتٍ سابق، فتحت جزء التفسير الخاص بسورة يوسف، أقرب سور القرآن لي، وأكثر ما أعرفه منه، استغرقت كثيراً كثيراً، لم أقرأ من قبل شيئاً يتعامل مع النص الديني بتلك العذوبة. كانت الحياة مُرهقة ومُلَخْبِطَة حينها، وعدة أرواح ليست بخير، وفي تفسير السورة كنت قد وَصلت للجزء الذي يُفسر فيه رَمي يوسف في البئر، كان الإمام القشيري يقول أن الناس.. العابرين الذين أنقذوا النبي.. عطلهم الله أمام هذا البئر تحديداً، ربما سَكَنت ركوباتهم أو خَلصت مياههم أو أي شيء آخر سيبدو ضاراً، فقط لأن لُطف تقديره يُحتم أن يكونوا سبباً في إنقاذ يوسف، "أفلا رب تشويش يقع في العالم والمقصود به سكون واحد"؟ اهتز قلبي ثم سَكَن، كتبت الجملة على ورقتين.. أعطيت لرضوى واحدة واحتفظتُ بالأخرى.


حين عُدنا للقاهرة اشتريت الكتاب، وخلال البقية الباقية من العام كنت أقرأ فيه بهدوء وبطء وعلى مهل، صاحبني طوال أشهر طويلة، وما من شيء يمكن قوله بأكثر من العنوان نفسه.. كل هذا اللُّطف في الإشارت، كل هذا العطف المُرسل من هناك إلى هنا.

أذكر أوقاتاً بعينها كان الكتاب موجوداً، تلك الرسالة التي كنت أكتبها لمي سعد، عن الثورة وعن ماهينور وعنا، وتزامنت مع وصولي لجزءٍ من الكتاب بقول فيه الإمام: "ويقال حُكم الله بأنه لا يفتح للمريدين شيئاً من الأحوال إلا بعد يأسهم منها، وقال تعالى "وهو الذي ينزل الغيث من بعد ما قنطوا وينشر رحمته"، فكما أنه ينزل المطر بعد اليأس، فكذلك يفتح الأحوال بعد اليأس منها، والرضا بالإفلاس عنها".

هذا العام كان مهماً، كان الأهم في حياتي، وهذا الكتاب صاحبني في الزَّمن كله.



20 فبراير 2015

لأن انكسارات الروح الكبيرة من الظلم أن تحدث مرتين




يومها، كُنت في البيت، طَبخت ليَّ أنا وعُمر وعلي، خلصت أكل عَ الشوط التاني، كنا قاعدين بنشوفه وإحنا بناكل، أنا وعلي كنا بنهيَّص مع كل جون للمصري، ونرخّم على عُمر، ولما الماتش خلص 3-1 كنا مبسوطين، حتى هَجْمة الجماهير عَ الجماهير مكنتش مُخيفة بالنسبة لي، بتحصل في ماتشات الكورة المتوترة دايماً، الاشتباكات الحماسية بين المُشجعين جزء من ذكورية الكورة، زي الشتايم مثلاً

ماتش الزمالك والإسماعيلي ابتدى، الناس كانت بتتكلم عن ضحايا، وأنا مكنتش مصدَّق، بقول اللعيبة بتبالغ، مش طبيعي لأ، تلاقيها إغماءات مثلاً، لحد ما بدأ الكلام يتأكد بشكل رسمي، والقتلى أعدادهم تزيد كل لحظة ورا التانية

بدت الأرض ضيَّقة جداً، ومفيش مكان يتراح، قلت لهبة إني هنام، ولما معرفتش أنام نزلت رحت محطة مصر أستنى القطر اللي جاي من بورسعيد

كان زي العزا اللي مش مترتب، العيون زايغة جداً، الخضَّة واللهفة على كل الوشوش، أكتر شيء قاسي كان الأهالي اللي جايين ومش عارفين ولادهم عايشين ولا لأ، بيدوروا في الورق الداير بين الناس على أسامي بيتمنوا متكونش موجودة هنا

القطر بيدخل المحطة، والصمت بيبقى تقيل، الأنفاس والنهنهات بس هي اللي مَسموعة

.
.

كُنت مع فرح، في أسوان، قافل الموبايل، معرفتش حاجة غير فجر تاني يوم وإحنا مستنيين قطر الرجوع، أخدت بالي من رُبع ساعة بس إني برضه كُنت في محطَّة القطر

هي فتحت الموبايل، وأنا كنت قاعد جنبها، بقرا اللي الناس كتبوه، والأعداد بتروح وتيجي قدَّامي، عماله بتزيد وتقل عشان محدش متأكد، زي ما حصل من 3 سنين بالظبط، 2.. 6.. 15.. 22، ويمكن أكتر، الوصف كان قصير ودقيق وواضح.. "ضربوا عليهم غاز فالناس وقعت على بعض وماتت"

يمكن دي أكتر موتة طول وقت الثورة مكنتش عايز أموتها، فاكر أكتر وقت صعب أيام محمد محمود، اليوم التالت يمكن، لما اتزنقنا في شارع الفلكي واتعمل علينا كمَّاشة واتحدف غاز بكثافة، فاكر إني كُنت بجري بهيستريا، وبخبط في ناس، وناس تخبط فيَّ، "النجاة بالعُمر" حرفياً، وفاكر إني مكنتش بخاف من الخرطوش أو الاشتباك المُباشر أو حتى القبض عليَّ من بين الصفوف، قد ما كُنت بخاف من خنقة الغاز والحصار في مكان ضيق شعور الروح وهي بتتسحب ده يطول فيه

من وقت طويل، من بعد رابعة، ومذبحة أبو زعبل، ثم ذكرى الثورة في 2014، لما أدركت إنه "خلاص كده إلى حين"، بدأت أنفصل نفسياً عن المآسي، أو أتعوّد عليها، مبقيتاش بثقل على نفسي وأجتر مشاعر السوء زي ما كان بيحصل في أول سنتين وكل مأساة أشيلها لأخرها، فيومها.. حتى وأنا بقرا وبأدرك إن مرة تانية فيه ناس راحت ماتش كورة فاتقتلت.. كنت حاسس بتقل شديد بس مش عارف هو واصل لفين

القطر وصل المحطة الساعة 5:20، فرح اتحركت قدامي وأنا وراها شايل بقية الشنط بخطوتين، فجأة لقيت عيني كلها دموع، إيدي بترتعش، وقفت على جَنب أعيَّط بنهنهة، كنت متفاجئ، قبلها بيومين كنت بقول لفرح قد إيه دموعي بعيدة، إني معيطتش من 2012 وقبلها من 2008، في اللحظة دي كنت بعيَّط بحرقة مش فاكر إني بَكيت بيها في حياتي

من لحظتها، كل الحاجات تقيلة فعلاً، والأرض –مرة تانية- ضيّقة بشدة، مش عارف مفروض أروح
/نروح فين أو نعمل إيه، كل اللي أعرفه إن الأحمال دي كتيرة فعلاً، ومن الظُّلم التعرض للكابوس مرتين بنفس التفاصيل

أكتر صورة باقية في ذهني في اللحظة دي هي ظُلمة المحطة في المرتين، نور القطر الأصفر وهو جاي من بعيد، والصوت الرتيب المُتكرر في بطء، والشعور العميق ده بكسرة الروح

أتمنى كل ده يبقاله معنى، أتمنى حيواتنا متبدأش وتنتهي وحوادث زي دي تمرّ فيها بعادية زي أي حاجة تانية، ده شيء ضد الإيمان بكل معانيه

دايماً مثلاً كُنت بعتبر إن آية "حتى إذا استيأس الرُّسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا" هي آية السَّنَد بالنسبة لي على قسوة ما جرى في الثورة، "حُكم الله ألا ييسر للمريدين شيئاً من الأحوال إلا بعد يأسهم منها والرضا بالإفلاسِ عنها"، زي ما الإمام القشيري بيقول، وأنا بعتقد دلوقتي -بتأدب وعشم في ربنا- إن دي لحظة استيآس الرُّسل.. شيء من الرحمة والعدل لازم يكون موجود عشان نقدر نَحتمل