06 أكتوبر 2017

علا





في المرة قبل الأخيرة، كنا نتحدث على التليفون، أخبرتني أن لديها قلق مُزمن من الشغل، فقلت لها أن عليها أن تترك بيتها المُغلق الذي لا تدخله الشمس، وأنني أعمل نهاراً في أحد الكافيهات ومن الممكن أن تأتي ونشتغل سوياً، فقالت لي أنها تخاف؛ تخاف من ألا يكون المكان مُريحاً، وتخاف من أن يكون الإنترنت سيئاً، وتخاف من دوشة الناس، وتخاف من الناس بشكل عام، فقلت لها أن تأتي إلى بيتي؛ سيكون هادئاً وتدخله الشمس والإنترنت سريع والمشاريب ببلاش. في اليوم التالي أتت، لم تكن بخير، ولكننا جلسنا في الشمس نهاراً كاملاً، واشتغلنا جيداً، ثم نزلنا سوياً إلى الشارع، أنا إلى مشوار وهي إلى بيتها، احتضنا بعضنا طويلاً، كعادة أحضاننا الطويلة، وغاصَ جسدها الصغير بين ذراعي حتى شعرت بضلوعها، ثم مَشت.

طوال الأيام الماضية، أستعيد تلك التفاصيل بدقة داخل عقلي، تتحول كل لحظة عابرة إلى أثرٍ قيّم، حتى السلامات والصدف واللقاءات العابرة، حتى الضجر والزهق والحكايات المملة، حتى التفاصيل العشوائية من قبيل مشاهدة "كارمن" في أول يوم العيد، كل شيء يتحوّل فجأة إلى دُرٍّ مَدفون في مجرى القلب والذاكرة؛ فالموت يخلق فراغاً، فراغ مادي من هؤلاء الذين كانوا هنا، ولا يترك شيئاً، إلا الذكريات، الثمينة جداً، العزيزة جداً، التي نخشى عليها من النسيان، ونبقيها بالحديثِ عنها.

لابُد وأن يفكر الواحد قطعاً في "أول مرة"، ومن المُلفت أن "أول مرة وآخر مرة" كانتا واضحتين، لا التباس فيهما ولا نسيان. ففي المرة الأولى كنا في ساحة بها ما يقارب الخمسين شخصاً، ترك المُيَسّر إدارة الجلسة التعارفية للناس، وبعد دقائق طويلة من العشوائية والتخبُّط والأصوات المتداخلة، طلبت هي أن تتكلم، لم أعرف عنها بعد ذلك جرأة الكلام وسط جمع من البشر، ولكن ليلتها كانت رائقة ومُرتبة، اقترحت أن يتولى كل شخص التعريف بمن قبله، "أنا سأعرف فُلان، ثم يرفع من بعدي يده ليعرفني"، وهكذا في دائرة طويلة وغير تقليدية، سِرنا على الاقتراح، كانت "أول مرة" أراها، وكانت خاطِفة وجَميلة وأخاذة، أذكر أن المُيسّر قال يومها ضاحكاً أننا عرفنا من ستكون مديرة المُعسكر في العامِ المُقبل. وإن كانت –بعد عام- لم تذهب إليه من الأصل.

لم نتحدث كثيراً خلال أيام المُعسكر العشرة، أو على الأقل لا أذكر ذلك، كل منا كان يدور في دوائره، ولكن يلاحظ الآخر على الأغلب، لأنه في اليوم الأخير، وبعد أن عرضت –ضمن معرض صغير- كتابها "نقط وخطوط"، ذهبتُ إليها، وتحدثنا، وقلت أنني أحببت فكرة المذكرات المرسومة، والطريقة التي ترسم بها الأيام، وكلام آخر لا أذكره، ولكني أذكر ردها، وأحتفظ به دون كتابة لأنني لن أنساه.

بعدها، ولثلاث سنوات، كنت أخاف منها، أخاف من الاقتراب، أخاف من التورُّط في المحبة -أكثر-، أخاف من موتها، وأخاف من حُزنِ ما بعد موتها، بشكل آخر كنت أخاف من قدومِ الأيام الماضية. ولكن هذا لم يمنع الاقتراب ولا التورُّط ولا المحبة. لم يغيّر شيئاً من استغلال بيوتنا القريبة للعمل جوار بعضنا، أو البيات في أحد البيتين لأن الكلام استمر حتى مَطلع الفجر، أو المشي العشوائي في الشوارع المُحيطة والليالي الساكنة ، أو مشاهدة مسلسلات رمضان سوياً، والخِناق لكونها الوحيدة التي أعرفها لم تحب "هذا المساء" وفضلت عليه "30 يوم" لأنه "مُسلّي أكثر"، أو أننا، في أول يوم العيد، وبعد أن انتهينا من "كارمن"، تفرَّجنا على الحلقات الأخيرة من المسلسلات، وهي –رغم أنها لم تحبّ "هذا المساء"- تأثرت كثيراً حين طلب سوني من سمير أن "يَلِفّ وشّه الناحية التانية"، وقالت أنها عاشت مثل تلك اللحظة.. وتعرفها جيداً.

كانت تعرف الألم جيداً، تعرف الكثير عنه. منذ وقت قريب جداً قرأت قصة قصيرة اسمها "أن تحب مريضاً بالاكتئاب"، وكانت الجملة التي بقت في ذهني هي أن "بعض الناس تتجاوز أحزانهم كل المنطق وكل الرفق وكل المحبة"، وفكرت حينها في شخصين، إحداهن كانت هي؛ كان حزنها أكبر منّي، أكبر منّا، أكبر من العالم.

وأفكر الآن أنني كنت "أتدثر بحزنها"، دون وعي منّي أو منها، وفي أوقاتي الأكثر حُزناً، كُنت أذهب إليها –لأنها كانت بَيتاً- وأتوه في حملها، وأسألها إن كانت بحاجة إلى احتضانٍ طويل، في الوقت الذي أحتاج فيه أنا إلى احتضانٍ طويل، ولا يكون هناك فارق.

والآن لم تَعُد بالجوار، وفي أكثر من لَحظة، بعد العودة للقاهرة، طوال الأسبوع الماضي، أرتبك أحياناً حين أستوعب عدم وجودها؛ دَمَعت عيني ذات مرة أثناء المرور أمام بيتها، وأنا أفكر، بضعفٍ، عن أنها الشخص الذي كنت أذهب إليه في الليالي الحزينة.. فلمن أذهب -الآن- بحزني عليها؟

وأهوّن على نفسي بذكرى المرة الأخيرة، كانت ليلة النهار الذي قضيناه سوياً، وكنا نتحدث على الهاتف في الثانية والنصف صباحاً، وأخبرتها أنني لا أستطيع النوم وأفكر في أن ننزل لنتمشى، فردت أنها أخذت المنوم ولكنه "لم يعمل"، لذلك فالفكرة "شقية"، تحمسنا، وفكرنا ماذا سنفعل، لا تريد أن تأكل، ولا أفضل الآيس كريم، طيب.. هل نذهب إلى المالكي؟ متى يُغلق؟ نبحث.. يُغلق في الثالثة، نتفق على أن ننزل حالاً لفرع وسط البلد، أتحرك، وأنتظرها –في القصر العيني- على أول شارعها، وأراها، وأتذكر كثيراً كثيراً تلك الصورة، وأثبتها في ذاكرتي، وهي تأتي راقصة، نحوي، بطول الشارع؛ فَرِحَة وصافية ومتحمّسة، نَركب التاكسي إلى المالكي كي نَلحقه قبل أن يُغلق، ونأكل هناك، ثم نشتري طبق جيلي، ونتقاسمه سوياً أثناء العودة مشياً إلى بيوتنا، نمر على عبد الخالق ثروت، وشريف، وقصر النيل، ونوبار، وحسين حجازي، وسعد زغلول، وحين نجد الكراسي مُغلقة نجلس على قهوة فيينا في القصر العيني،حيث المرة الوحيدة التي جلست عليها طوال حياتي، في مناورة قدرية غريبة لتكون الذكرى الأخيرة أوضح وأكثر فرادة، ثم أغادرها في الرابعة صباحاً، وأتركها لتجلس مع صديق لها، ونحتضن بعضنا طويلاً طويلاً. ثم أمشي.

أمتن الآن لأن تلك هي الذكرى الأخيرة؛ أمتن على رائحتها التي تركتها في الشوارع، ولوحتها التي عَلَّقتها في صالة البيت، وضلوعها التي نَغَزَت صدري في كل مرة احتضان.

لا نَدم الآن ولا غضب ولا لَوْلَوة على الاحتمالات الأخرى التي كانت لتبقيها هنا، لا شيء إلا الوَحْشَة والمحبة والذكريات.