31 مارس 2014

نور


- مرة زمان، من خمس سنين يمكن، كنت بقول لواحد صاحبي إن ديوان «أيام العَجَب والموت» بتاع فؤاد حدّاد هو ديواني المُفضَّل، بالصُّدفة كان أول ديوان أقراهوله، وتقريباً مَفهمتش حاجة، بس كان ليه أثر مش قليل، رد عليَّا بإنه «بقاله سنين بيمشي في الديوان ده ومش حاسس إنه قرَّب يوصل».

من قبل الوقت ده، ومن بعدها، كنت بقرا الديوان كل كام شهر بدون قصد، مُحتفظ بنسخة قديمة جداً لمكتبة الأسرة، معلّم على بعض الأبيات بقلم جاف، وكاتب في آخر صفحة اسم دَوا برد، الغلاف بتاعه فيه حتة مَقطوعة، وكل مرَّة أرجع لنفس النسخة، اللي شايله "زَمَن"، أشوف الوقت قد إيه هيخلّيني أقرَّب، وكل مرة بحس إني خدت خطوة، «بس لسه مقربتش أوصل».

المرة دي وانا بقراه كنت بسمع بعض قصائده بصوت «حداد» نفسه، أكتر جزء «تبقى» كان في قصيدة النَّبض: «شيخ فؤاد يا شيخ فؤاد هتطير
/ولا راح تتقل على كتافهم/ولا تتسمَّر في نور الأرض؟/ولا بعد الناصية راح نِعْمَى/يا حبيبتي للأبد عن بعض»، بيعيدها مرّتين في التسجيل، صوته بيعلى ويتهدَّج في آخر المرة التانية، ومبيكونش عندي تفسير مُحدد ليه كانت الجملة المرة دي كبيرة في قَلبي للدرجة دي.

- في الشهر ده أكتر حكاية فكَّرت فيها كانت حكاية عن العالم الياباني اللي جاب 3 أكواب فيهم ميَّة قليلة، وِقِف قدَّام الأولى وقال "
I Miss U" ووقف قدَّام التانية وقام "I Love U" ووقف قدَّام التالتة وقال "I Hate U"، ولما رِجع بعدها بيوم لقى الكوباية التالتة لون الميَّة فيها غامِق ولما شفاها تحت المِجْهَر كانت ذرَّاتها عَطِنَة، في مُقابل نقاء الأولى والتانية.

عادةً العَقل هيبقى عنده «ديفنس ميكانيزم» ضد حكايات من هذا القبيل، بس ده مش مُهم، مَفيش حد مُطالب يخلّي حد يصدَّق أو يقتنع بحاجة، أنا نفسي مقدرش أقول إن عَقلي مُستسلم بشكل كامل لحكاية عن «طاقة الكلمة»، حتى لو كلمة «طاقة» نفسها هي أكتر حاجة قلتلها وتتبعتها خلال الشَّهر، وحتى لو الحكاية نفسها هي أكتر حاجة فكَّرت فيها.

- "يتكون كل كائن حي في معظمه من الماء، فجسم الإنسان مؤلف بنسبة 60% من الماء. أما الفيل وسنبلة القمح فيتألفان بنسبة 70% من الماء، ودرنة البطاطس ودودة الأرض تتألفان من 80% من الماء. أما ثمرة الطماطم ففيها 95% من الماء، وتحتاج كل الكائنات الحية إلى كميات من الماء للقيام بعملياتها الحيوية".. صفحة «ويكيبديا» عن «الماء»

- يمكن عشان كده تحديداً أثر قراءة القرآن في صَمت غير أثره لما يُقال بصوتٍ مَسموع بينك وبين نَفسك، اللحظة دي لما جَلَست جَنب القَبر مثلاً وكنت بقرأ سورة «الكَهف»، بدون تَرتيب أو قَصد، وكان العالم مُمتلئ بالقدر ده من الراحة والسّكون، «الحِسّ» كان مُهم وقتها، كُنت هَكتب، حالاً، إن الراحة والسكون كانوا خارجين منّي مش جايين من العالم، ثم ربطت بـ«فيكَ انطوى العالم الأكبر»، «ابن عربي» يعرفُ الكثير، والكلمة حمَّالة أوجُه، ده أحد الوجوه أكيد.

- كنت بفكَّر خلال الشهر أكتب مَقال عن نقط تماس بين أفلام تيرانس ماليك، وتحديداً
The Tree of Life، وبين شعر فؤاد حداد، وتحديداً «أيام العجب والموت»، بس مكنش عندي أي فكرة إزاي ميكونش مَقال بضان بيعتمد على رَبط مُتعسف لحَصيلة الشخص المعرفية، بس الفكرة كانت مُسيطرة عليَّ لدرجة إني فكَّرت أصدَّر المقال بإني هَبذل مَجهود عشان ميكونش «بضان»، وأذكر الكلمة الدقيقة واللي مَلهاش بَديل لَغوي، وبعدين صَرفت نَظر عن الموضوع بالكامل.

بس ما تبقى هو النظرية، كنت بفتكر «شجرة الحياة» كتير خلال الشهر ده، ولأسباب مُختلفة، أحدها هو تعبير «بنت رَبنا»، وافتتاحية الفيلم من الكتاب المقدّس عن: «جميع بني الله»، وأحدها هو جملة «لابيزكي» الفاتنة عن «تصوير الفيلم كأنه اقتفاءً للأثر، كأنك تصور عِطر أو رائحة»، كنت بَصِف الفيلم دايماً بإنه زي واحد بيحكي من الذاكرة، تفاصيل بتُقع، وحاجات تبقى مُشَوَّشة ومش وضحة أوي، وفي النهاية انتَ بتكمل الفراغات بشخصك والعمل بيكون تجربة ذاتية تماماً.

نفس الحاجات دي، بنفس التعبيرات، ممكن أصِف بيها «أيام العَجَب والموت»، أو زي ما هو نفسه بيقول «وانتقل في الماضي واستغرب»، أو زي الافتتاحية البَديعة لديوان «النقش باللاسلكي»: «واعمل مغمَّض.. كإن الدنيا عارفاني».

العملين لعجائز «بيقتفوا الأثر»، بروابط وتفاصيل كتير عن شخوص أصحابهم، بس أنا مش بحاول أتبع أو أأكد النظرية، وطبعاً مش هَكتب مقال عن كده في حياتي، هكتفي بس بإني أقول بين حين وآخر إن أيام العجب والموت وشجرة الحياة فيهم روح بتفكَّرني ببعض.

- جات لي الصورة كالآتي، إن كل كتاب الأغاني والشعر خلال التمانينات والتسعينات كانوا بيتحرَّكوا في مساحة مِتْر في مِتر، وعصام عبدالله عَ الناحية التانية بيجري في فدَّان أرض.

كنت ليلتها بَسْمع «الطول واللون والحريَّة»، ورغم حاجات كتير سَقَطت من منير بس ده بيفضل أكتر ألبوماته دَهْشَة بالنسبة لي، وأكتر ألبوم «حُرّ» عمله –مع وسط الدايرة-، بس كنت أقصد في أول الجملة إني بسمع الأغنية نفسها، «الطول واللون والحرية»، هروح أسمعها دلوقتي قبل ما أكمل كتابة


أنا في الجرنان دلوقتي وحواليا صوت فمستمتعش بيها زي المرة اللي سمعتها في نُص الشَّهر ده، وكنت مُندهش، دَهْشَة حقيقية، بشأن إزاي "عصام عبدالله" كتب الأغنية دي، وازاي التعبيرات غريبة ومألوفة بالقدر ده، وكان قلبي مُمْتَلئً بالجمال.

«مش جايز أموت فيكِ وفيكِ
/ده أنا أموت في عينيكِ من غَمزة
أنا عارف نفسي وتلكيكي
/هَعشق لياليكِ من لَمسة
ده أنا عارف نَفسي وتلكيكي
/
هَعشَق لياليكِ من لَمسة»