21 سبتمبر 2007

واذكر رحمة ربكَ في القرآنِ والإنجيلِ والتوراة

ملحوظة هامة :
هذا الموضوع لا يهدف للوعظ بأيَّ شكل من الأشكال !
ما هيَ إلاَّ أفكار تراءت لصاحب هذهِ المُدَوَّنة


( 1 )

بسم الله الرحمن الرحيم : { عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ } * { أَن جَآءَهُ ٱلأَعْمَىٰ } * { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ } * { أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ ٱلذِّكْرَىٰ } * { أَمَّا مَنِ ٱسْتَغْنَىٰ } * { فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ } * { وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّىٰ } * { وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَىٰ } * { وَهُوَ يَخْشَىٰ } * { فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ } * { كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ } * { فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ } * { فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ } * { مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ } * { بِأَيْدِي سَفَرَةٍ } * { كِرَامٍ بَرَرَةٍ } صدق اللهُ العظيم

سورة عبس
الآيات
من 1 إلى 16

لا أعرف تحديداً لماذا أتأثر بشدة حينما أستمع أو أقرأ الآياتِ الكريمات التي تعبر عن المرة الوحيدة التي قال فيها الله تعالى لنبيَّه الكريم ( كلا ) ..
أشعر حينها بحالة من السكون ، قُلتُ ذلك لأحدهم مرَّة فأخبرني بأنَّ قلبي يخشع لله ، لم أقتنع ، فهيَ ليست حالة خشوع تحديداً .. قدرما هيَ شعور جارف بأنَّ "الله جميل" .. فقط لا غير !

حينما أستمع لتلك الآيات – وبضع غيرها – أتلمس بشدة ذلك النور الذي يجمع الأديان .. السماوية وغير السماوية ، ذلك الإله الذي يدعونا إلى المحبة .. الرحمة .. الخير ، يتجسد ذلك كله – في أقصى صوره من وجهِ نظري – في آياتِ سورةِ "عبس" .. مصحوبة بالحكمة الإلهية الجميلة : إنَّ أكرمكم عند اللهِ أتقاكم ..

أغلب المفسرون اجتمعوا على تفسير واحد لتلك الآيات ، هذا التفسير هو أن الآية نزلت كعتاب من الله عز وجل لسيدنا محمد – صلى الله عليه وسلم - .. حيثُ كانَ جالساً مع بضع رجال من أشراف وأفاضل قريش – قيلَ أن منهم عمرو ابن هشام والوليد ابن المغيرة - يدعوهم للإسلام في سنواته الأولى .. دخولهم فيه واقتناعهم به يحقق دفعة كبيرة للدعوة المحمدية .. ليسَ فقط لأن كثيرين سيدخلون إلى الإسلام كتابعين لأشرافهم .. ولكن – بالأهم – أنَّ الكثيرين ممن خافوا الجهر بإيمانهم اتقاءً لشرَّ هؤلاء سيجهرون به ويمارسونه دون خوف .. كما أنَّ صد الناس عن الإسلام سيتوقف مما سيزيح الكثير من العقبات التي واجهتها الدعوة – راجع الدفعة المعنوية والمادية التي حققها دخول عمر ابن الخطاب للإسلام - ، هذا الأمر يتطلب من الرسول الجهد والعزم .. وبينما هو يحادثهم جاءه رجل أعمى هو "عبد الله ابن أم م
كتوم" وقال للرسول : "ارشدني وعلمني مما علمك الله" وألح في طلبه عدة مرات وهو يعلم انشغال الرسول بأشرافِ مكة ، فعبس الرسول – في وجه أعمى لم يره – وأعرض عن طريقه ليكمل مخاطبته لمن يخاطبهم ..

هنا نزلت كلمة الله ( كلاَّ ) في المرة الوحيدة التي يقولها المولى لرسوله ذي الخلقِ العظيم ..

هناك تفاسير شاذة عن هذا الإجماع – بمختلف الطوائف - ، بعضها تفاسير شيعية ترى أن الآية نزلت في عثمان ابن عفان حيث جالس النبي صلى الله عليه وسلم وجاء رجل فقير فأعرض عنه وعبس ! .. أو أن الرجل المقصود من أهلِ بني آمية ! ، وبعض التفاسير الزيدية ارتأت أنَّ توجيه خطاب غير مباشر يعني أن المخاطب ليسَ النبي والمُتحدث عنه في الآياتِ هو شخص مجهول لم يذكره الله عز وجل لأن المهم هو المعنى المقصود من الآية وليس الأشخاص !

أنا شخصياً أفضل كثيراً أن يكون المخاطب هو محمد ابن عبد الله بصرف النظر عن إجماع أغلب المفسرين على الرواية الأولى .. وبصرف النظر عن عدم معقولية ومنطقية التفاسير الأخرى – تبعاً لمحتوى الآيات - ..
فتفضيلي هذا له عدة أسباب :

أولاً : أن ذلك يعني أن كون الرسول الكريم ذا خلق عظيم .. فهذا لا ينفي السهو والنسيان في بعض الأحيان ، وأن العصمة لا تعني عدم الخطأ مطلقاً
ثانياً : التأكيد على أن الإسلام – حتى في سنواته الأولى – لم يحث الله نبيه على الاهتمام بالأشراف والأفاضل في مكة ، الدعوة تشمل الجميع .. من أتى إليك فعلمه ومن أعرض عنك فاعرض عنه ، فهي ( تذكرة ) بحسب التعبير القرآني ..
ثالثاً : أن تكون الآية قد نزلت في موقف عبوس ( مرئي ) لرجل وصفته الآية بالأعمى ، أي أنه لم يرَ عبوس وجه النبي ولم ينجرح منه بالطبع ، ومع ذلك فقد عاتب الله نبيه عليه
رابعاً : بلاغة وقوة وشدة العتاب والتعجب في التعبيرات القرآنية المتتابعة في الآيات .. ربما لو تركتُ قدسيتها ككلمات منزلة من المولى وتحدثت من جانب أدبي – فقط – لقلتُ الكثير !

كل ذلك يصبُّ ربما فيما أراه من نورٍ وجمال في تلك الآيات ..
رحمة الله بهذا الرجل الفقير الأعمى الذي أتى لنبيه راغباً في العلم لعله ( يتطهر من ذنوبه أو تنفعه كلماتك للذكرى ) فاقت كل شيء حتى أنه خشي عليه من عبوس لم يره ! ، كذلك التأكيد على عدم الاهتمام بفصيلٍ وتفضيله بسبب النسب أو المال .. إلخ ذلك : فأما من استغنى عنك وأعرض .. تتوجه إليه بالدعوى .. وتُعْرِضُ أنتَ عمن جاءك راغباً في الذكرى والتذكرة !! ( كلا إنها تذكرة .. فمن شاءَ ذكره )
رجل فقير .. أعمى .. أخطأ في البداية حينما لم يراعِ ظرف طلبه للعلم ، فضله الله عز وجل على أشراف مكة وسادتها ، بل وعاتب نبيه عتاباً شديداً قاسياً من أجله .. وكانت – كما قلت – المرة الوحيدة التي يقول فيها الله لرسوله ( كلا ) في القرآن كاملاً !

يُقالُ أنَّ الرسول حينما استمع لتلكَ الآيات .. بكى بكاءً شديداً ، وأصبح بعد ذلك يخاطب عبد الله ابن أم
مكتوم حينما يأتِ قائلاً : مرحباً بمن عاتبني فيهِ ربي !

****

مش شايف إن الخشوع في الصلاة ليه علاقة بالبكا ! ، أنا شخصياً عمري ما بكيت وأنا بصلي ، مش مهتم أوي بإحساس إني خايف من ربنا ، لما بكون بصلي .. بفتكر كل الحاجات الحلوة اللي في الدنيا .. أبستم وافتكر دايماً إن ربنا جميل عشان كده بصليله ، يمكن عشان كده بقول إن أنا ليَّ ميول صوفية من عمر ست سنين ! قبل ما أعرف حتى يعني إيه صوفية ، صوفية بالفطرة والبديهية كده : أنا بصلي لربنا عشان عايز أصليله وأكون معاه .. مش عشان شوية حسنات !

****

( 2 )

12: 9 الْمَحَبَّة فَلْتَكُن بِلَا رِيَاء كُونُوا كَارِهِين الشَّرَّ مُلْتَصِقِينَ بِالْخَيْرِ
12: 10 وَادِينَ بَعْضُكُم بَعْضَا بِالْمَحَبَّة الْأَخَوِيَّة مُقَدَّمِينَ بَعْضُكُم بَعَضَا فِي الْكَرَامَةِ
12: 11 غَيْرُ مُتَكَاسِلِين فِي الْاجْتِهَادِ حَارِين فِي الرَّوْحِ عَابِدِينَ الرَّبَّ
12: 12 فَرِحِين فِي الرَّجَاءِ صَابِرِينَ فِي الضَّيِقِ مُوَاظِبِينَ عَلَى الصَّلَاةِ
12: 13 مُشْتَرِكِينَ فِي احْتِيَاجَات القَّدَّيسِين عَاكِفِينَ عَلَى إِضَافَةِ الْغُرَبَاءِ
12: 14 بَارِكُوا عَلَى الَّذِينَ يُضْطَهِدُونَكُم بَارِكُوا وَ لَا تَلْعَنُوا
12: 15 فَرَحَا مَعَ الْفَرِحِين وَ بُكَاءً مَعَ الْبَاكِين
12: 16 مُهْتَمَّين بَعْضُكُم لِبَعْضٍ اهْتِمَامَا وَاحِداً غَيْرُ مُهْتَمَّين بِالْأُمُورِ الْعَالِيَةِ بَلْ مُنْقَادِينَ إلَى الْمُتَّضِعِين لَا تَكُونُوا حُكَمَاء عِنْدَ أنْفُسِكُم
12: 17 لَا تُجَازُوا أَحَدًَا عَنْ شَرًَ بِشَرًّ مُعْتَنِينَ بِأُمُورٍ حَسَنَة قُدَام جَمِيع النَّاسِ
12: 18 إنْ كَانَ مُمْكِنَا فَحَسْبِ طَاقَتِكُم سَالِمُوا جَمِيع النَّاسِ
12: 19 لَا تَنْتَقِمُوا لِأَنْفُسِكُم أيُّهَا الْأَحِبَّاءِ بَلْ اعْطُوا مَكَانا لِلْغَضَبِ لَأنَّهُ مَكْتُوب لِي النَّقْمَة أنََا أُجَازِي يِقَولِ الرَّبَّ
12: 20 فإنْ جَاعَ عَدُوَّك فَاطْعِمْه وَ إنْ عَطشَ فَاسْقِهِ لَأنَّك إنْ فَعَلْتَ هَذَا تَجْمَعُ جَمْر نَار عَلَى رَأْسِه
12: 21 لَا يَغْلِبَنَّك الشَّرَّ بَلْ اغْلِب الشَّرَّ بِالْخَيْرِ


مِن رِسَالَة بُولَس الرَّسُولِ إلَى أهْلِ رومِيَّة
الإصْحَاحِ الثَّانِيَ عَشر
الآيَاتُ مِن 9 إلى 21


تبدأ رسالة بولس الرسول إلى أهل رومية بالقول : "خلق الإنسان ليحيا" وتأتي الرسالة كلها – في نظري – مكملة لهذا المعنى : كيف يحيى الإنسان ؟؟

تمتلئ الرسالة بمبادئ الحب والخير .. تأكد في أغلب آياتها على ذلك المعنى ، رغم أن في الرسالة نفسها يقول بولس في الإصحاح الثالث والعشرون .. الآية أربعة وعشرون : "لأنَّ الجميع قد أخطأوا .." !
الرسالة لا تقول أن كل ما فيها سيُتَّبع .. فالجميع قد أخطأوا ! .. ولكنها الإجابة الحقيقية على سؤال : كيف يحيى الإنسان ؟؟
سُميت هذه الرسالة بكاتدرائية الإيمان المسيحي .. ساهمت في توبة القديس أغسطينوس .. كما أنها تحوي عناصر الإيمان من وجهه النظر المسيحية .. وإن كُنت أراها شخصياً تحوي عناصر ( الإيمان ) في المطلق ! ، ذلك الذي وجهه بولس في رسالته بهدف تحقيق عدم التفضيل ما بين اليهود المتنصرين وبقية الأمم .. اليهود يرون أنهم – حتى بعد دخولهم وقبولهم الإيمان بالمسيحية – أفضل من غيرهم فهم "شعب الله المختار" حتى عند تنصرهم ! ، فكان جزءً كبيراً من رسالة بولس يؤكد – تصريحاً أو تضميناً – أنَّ "أكرمكم عند الله أتقاكم" وأنَّ الإيمان ليس ( هبة ) يمنحها العابد لله .. بل هي هبة وهداية من ( الله للعابد ) ..
وكأن بولس وقتها قد تحدث بميزان عالمي .. يتخطى خصوصية الوضع ويضع أسس الإيمان .. أصول الحياة ، بمعنى آخر – كما قلت - : كيف يحيى الإنسان ؟؟

وبالرغم من أنَّ الإصحاح الثامن يبدو الأهم حيثُ سُمَّيَ "بقدسِ أقداس الكاتدرائية" إلا أن الآيات التي نقلتها هنا تختصر الكثير من مُجمل الرسالة :
1- محبة حقيقية بلا مصلحة
2- عبادة الله بصدقٍ وحرارة
3 – عطاء المحتاجين مما أعطاهم الله – لاحظ بلاغة تعبير "مشتركين" وليسَ "معطين" -
4- التسامح وعدم مواجهة الغضب بالغضب بل بالحب والرحمة
5- الفرحة مع الفرحين .. البكاء مع الباكين
6- سالموا جميع الناس


واجمالاً لكل ذلك : واجه الشر بالخير ، بالصبر .. بالاحتمال .. بالحب والإقتداء بالسيد المسيح – رضيَ الله عنه - ..
وفي كل هذا .. لا فضل فيكم لأحدٍ على أحد : إنَّ أكرمكم عند الله اتقاكم ، أكرمكم أكثركم إتباعاً لعناصرِ الإيمان

****

معروف إن أقرب وقت العبد يكون فيه لربنا وهو ساجد ، يقال إن الدعوة بتكون مستجابة ، لما بسجد لربنا وبعد ما بقول "سبحان ربيَ الأعلى" تلات مرات .. مش بعرف أدعي بأي حاجة ، ببستم وأروح قايل "ما انتَ عارف كل حاجة" وبحس فعلاً إن هو سامعني ، وأحياناً كتير أشوفه بيبتسم لي ، ومش بشوف أبداً إني المفروض أقول "حضرتك تعلم كلَّ شيء" ! ، واحد مرة قالي إن ده فيه عدم تأدب مع المولى .. بس أنا شايف فعلاً إن ربنا أجمل من كده .. هو عارف جوا فيه إيه ، وده كفاية

****

( 3 )

أمَّا أنا فمثلِ زيتونة خضراء في بيتِ الله ، توكلتُ على رحمة الله إلى الدهرِ والأبد

من سفرِ المزامير
الآية ( 1 )
المزمور
الرابع والخمسين

****

ربنا جميل أوي على فكرة
أجمل بكتير من اللي إحنا فاكرينه

16 سبتمبر 2007

فلسفة التنفيس



في واحد من أشهر – وأعظم - المشاهد في تاريخ السينما المصرية يسأل أحمد زكي المحامي المُكلف بالدفاع عنه محمود المليجي عن السبب في قبوله لقضيته رغم معرفته سلفاً أنه سيخسرها ، فيجيبه المليجي في مرارة "تنفيسة .. تنفيسة ليَّ ولك ، كلمة حلوة نقولها صحافي يلقط مننا لمحة نضيفة، قاضي تفلت منه كلمة شجاعة ، أهي تنفيسة للكل"
قبل أن يدخل في منولوجه الشهير "وعايزني أكسبها" !

***

حال الصحافة في مصر – والتي تسمى تجاوزاً بالصحافة – لا يتجاوز كونها مجرد "تنفيسة" ، تنفيسة للكاتب .. للقارئ .. تتركها الحكومة لتضرب أكثر من عصفور بحجر واحد .. من ناحية تأكد على ديمقراطيتها وسماحها بحرية التعبير .. ومن ناحية أُخرى تسمح ( للمثقف/القارئ ) على حدًّ سواء بمساحة "ينفس" فيها عن غضبه اتجاه الأوضاع المتردية .. وهي – من ناحية ثالثة – تعلم أن صحافة التنفيس ليست قادرة على صنع تغيير ما في المجتمع يمسُّ مصالحها ولو من بعيد ، تحدثوا عن الفساد .. السلطة .. النفوذ ، هاجموا التوريث .. الرئيس .. الحزب الحاكم ، وفي النهاية : لا جديد ..
ربما لذلك كانت الدستور – على مدار أكثر من عامين – هي أنجح الجرائد المصرية ، فهيَ الأكثر براعة في استخدام "فلسفة التنفيس" ، المواطن المصري الآن لا يحتاج لتحاليل سياسية كُبرى .. أو أحاديث عن مستقبل يعلم أنه لن يتغير .. لا يحتاج لصحافة تتبع الفساد لتصل إلى مصدره .. فالسؤال – غير المُقال – : ما الفائدة من كل هذا إذا كنا نتعامل مع نظام "لا يسمع" ؟! ، لذلك فيبدو أن أقرب ما أراده هو صحافة تعبر عنه .. هكذا "بعبله" ، تتحدث بلغته ومنطقه وفلسفته ، تسب الحكومة آناءَ الليلِ وأطراف النهار ، صحافة بلغة القهاوي – كما وصفها زاماً ممتاز القط في إحدى نبشاتُه – .. ومن أبرع من الدستور في ذلك ؟؟
ولذلك كان نجاحها الملفت المتخطي لجرائد أخرى اتبعت نفس ذات النهج – نهج التنفيس – ولكن حاولت تطويعه لشكل ثقافي مُعيَّن ، فكانت كمن أمسك العصا من المنتصف .. فلا هي قدمت صحافة حقيقية ، ولا برعت في التنفيس كما يجب أن يكون !

وعن نفسي أمتلك موقفاً محايداً – إلى حدًّ بعيد – اتجاه تلك الصحافة ، أحياناً أشعرُ أن الصحافة يجب أن تقوم بدورها بصرف النظر عن تردي المجتمع .. ولكن أفوق بعدها من تلك المثالية الزائدة لأجد أن الأمور كلها قد غدت أكثر وضوحاً من أن تكشفها الصحافة في ممارسة لدورها المفترض .. من لا يعلم أن الفساد سيتوغل ولن يُحاسب المخطئ .. وأن الرئيس سيستمر في منصبه – كما ذكرها صراحةً – مادام حياً .. وأنَّ التوريث سيتم بصرف النظر عن أي اعتراضات تبديها المعارضة .. وأن صعود التيار الإسلامي حدث لأنه يبدو الخيار الوحيد أمام الشعب هروباً من دوامة الحزب الوطني .. إلخ ، فحينما تكون الأمور واضحة بهذا الشكل دون قدرة على تغييرها .. فما الضرر من صحافة تذكرنا في الصباحِ والمساء أنَّ الحزب الوطني ابن **** وحسني مبارك ابن ستين **** ؟!

***

ولكن فلسفة اللعبة لم تستمر على هذا المنوالِ !

***

منذُ ثلاثة أيام بالظبط انتشر بسرعة خبر الحكم على أربعة من رؤساء تحرير صحف مستقلة بالحبس لمدة عامٍ ودفع غرامة ثلاثون ألف جنية بتهمة سب رموز الحزب الوطني !! - دعك الآن من كوميدية وعبثية الاتهام -

بدأ الكثيرين بعدها في الحديث عن مساحة الحرية التي قلت ! والبدءِ في حبس الصحفيين المُنتظَر ، إبراهيم عيسى قال : "جاء الحكم بحبسي مع أستاذي عادل حمودة والرفاق الأصدقاء عبد الحليم قنديل ووائل الإبراشي دليلاً ناصعاً على إن سنتنا سودة" ..

في الحقيقة لم أشعر كثيراً بالخوف على مساحة الحرية التي تتناقص ولا في لونِ سنتنا هل سيصبح أسوداً أم كُحليَّاً !
فالحقَّ في نظري أن الحرية ليست هبة ممنوحة .. ولا مساحة معينة يحددها النظام الحاكم تقل و تزيد حسبما يريد ، ولكنها غير مشروطة وغير تابعة لرغبة الأفراد ، وقانون عدم حبس الصحفيين إذا لم يكن دستوراً ومنهجاً واضحاً فلا معنى له طالما ارتبط "بوعد" أصدره فرد قادر على إلغاؤه أو عدم تنفيذه ! ، وقرار الحبس هذا لا يؤثر على حريتنا في شيء .. فهي غير موجودة من الأساس ، ما الفارق إذاً إذا جاء حبس عيسى ورفاقه اليوم أو بعد عام ؟! طالما هو منتظر ويمكن أن يأتي في أيَّ وقت !

لم يثرني الحكم في شيء .. ولم أشعر أنه يوم أسود في تاريخ الصحافة المصرية كما رأى الكثيرين
الذي أثارني حقاً هو سؤال دار بذهني منذُ سمعت الخبر : لماذا أخلَّت الحكومة بلعبة التنفيس ؟؟!

***

قُلتُ ذات مرة أن الشعوب يمكنها التعايش بسلام مع حكومات ديكتاتورية ونظرة بسيطة لأغلب أنظمة الحكم الثورية خلال عقدي الخمسينات والستينات يجعلنا نكتشف ذلك – بصرف النظر عن النتائج بعدها - ، ولكن العبث حقاً حينما نتعامل مع حكومات ديكتاتورية موصومة بالغباء ، أنتَ يمكنك أن تأخذ من الشعوب حريتها مقابل أن تعطيها "أمانها" .. أما أن تأخُذُ منها كل شيء حتى مساحتها للتنفيس !
وقتها أتخيل شكري مراد المحامي يكمل منولوجه الشهير قائلاً : "زمن بيتحبس فيه الصحفي من دول ولا من دول عشان بيبيع للناس شوية كلام ينفسوا فيه عن نفسهم .. وعايزني أكسبها ! .. ياخي !"