27 مارس 2009

كمسيحٍ جديد


منذ عدة سنوات ، شاهدتُ 
أحمر للمرة الأولى ، كان أول معرفتي بكيسلوفسكي ، لم يرقنِ كثيراً حينها ، ربما لم أفهم .. لم أشعر .. ربما عاملته كغيره من الأفلام

في العام الماضي – تماماً كهذه الأيام – سألني صديق رأيته حينها للمرة الأولى عن مخرجي المفضل ، أخبرته بكونه 
شاهين بالطبع ، سأل "من بعده ؟" ، قلتُ له "كيسلوفسكي" ، لم يعرفه ، كان يمكنني حينها أن أعرّفه بكونه مخرج بولندي شهير .. أن أسرد قصة حياته .. أو أحدثه عن هجرته لفرنسا وما صاحبها .. أو بصنعه سلسلتين من الأفلام من أعظم ما قدمت السينما يوماً .. أو حتى أعرّفه بأقوال مخرجين عظام آخرين عنه ، ولكني صمَتُ قليلاً وقلت له "هل تذكر ذلك المشهد لجاك نيكلسون حينما أخبر هيلين هانت بكونها "تجعله رجل أفضل" ؟! ، كيسلوفسكي يجعلني "إنساناً أفضل" !" .. سكتُ قليلاً محاولاً البحث عن كلمات تشرح أكثر ما أريد قوله : "إنه يجعلني أقرب لحقيقة كل شيء ، أقرب لنفسي .. للناس .. أقرب للحياة ذاتها"

لم أفكر قبل ذلك في الكتابة عنه ، لم أفكر أبداً في تناول أحد أفلامه بالنقد أو التحليل ، هناك أشياء من الصعب الحديث عنها لأنه من الصعب اختصار ما نشعره حيالها ، هناك مشاعر تستعصي على الوصف مهما بدا من صدق أو حصافة الكلمات ، صحيح أنه يوجد الكثير مما يمكن أن يقال عن
كيسلوفسكي – سينمائياً وإنسانياً – ولكن كل هذا لا يعني شيئاً دون أن تخوض تجربة مشاهدته ، إنه يخاطب الشعور .. لا أريد أن أكون إكليشيهياً ولكني لم أقل ذلك عن غيره : كيسلوفسكي يخاطب الروح ، ليس بنفس النسق الداخلي المعقد الذي يمكن أن نراه في أفلام تاركوفسكي أو بيرجمان أو غيرهم ممن قد يطلق عليهم البعض نفس الوصف ، ولكنه – وإن كان بنفس العمق – فإنه أبسط .. أكثر ملامسةً لنا ، دائماً ما نشاهد أفلاماً .. ولكن نادراً – نادراً فعلاً – ما نمر بما يمكن أن نطلق عليه ( لقد عشنا فيلماً ) .. نحن نعيش دائماً في أفلام كيسلوفسكي .. يرسمنا بداخل شخوصه لا فقط يخبرنا عنهم .. نمر بنفس التجارب .. نشعر بنفس الأحاسيس .. نستنطق نفس ملامح الإنسانية .. نحيا ما يحدث ويتجسد فينا


المرة الأولى التي شاهدتُ فيها (
الديكالوج .. الوصايا العشر ) مررت بتجربة لا يمكن تسميتها سوى بكونها ( صوفية ) فعلاً ، الوصايا هي سلسلة تلفزيونية أخرجها كيسلوفسكي للتلفزيون البولندي في النصف الثاني من الثمانينيات كمشروع شخصي مع كريستوف بيزيفتش – كاتب السيناريو الذي شاركه كافة أفلامه تقريباً – من أجل فهم وإسقاط ( الوصايا العشر ) التي وردت في العهد القديم على الحياة المدنية الحديثة عن طريق تجريد ( منطوق ) كل وصية وتحري ( معناها الحقيقي ) مما قد لا يتصل بوضوح بلفظ الوصية ولكنه يعبر عن مبتغاها تماماً ويولّد عاطفة ( شعورية وإيمانية ) هائلة لا يمكن وصفها ، شاهدت الوصايا في عشرةِ أيام .. في وقت كنت أقرأ فيه – للمرة الأولى – روايات غسان كنفاني و"الديوان الكبير" للإمام محيي الدين ابن العربي ، ولا أظن أن هناك أيام واضحة أعتقد دوماً في كونها كوّنتني مثل تلك الأيام التي أراها من بعيد – الآن وبعد عامٍ ونصف – كطاقة نور أضاءت لي الكثير من الأشياء .. ومن ضمنها نفسي

في الوصايا ، حكى
كيسلوفسكي وبيزيفتش الكثير ، الكثير من الآلام والكثير من الأحزان والكثير والكثير من الخطايا ، ولكن مع ذلك أمكنهما – بطريقة لا أفهمها – أن يسامحا .. وأن يجبروننا - نحنُ - على المسامحة ، أن يستندا – بكل ثقلهم – على شيء أكبر لا يسميانه ولكنه يبدو واضحاً في كل أعمالهم .. شيء يدعى ( القدر ) ، قدر يجعل لكل شيء معناه .. ولكل آلمٍ سببه .. ولكل حزنٍ نهايته .. ولكلِ روحٍ خلاصُها ، تلك الدفعة الإيمانية النابعة من السند والبعد الديني الواضح الذي تحمله الحلقات .. والدفعة الشعورية النابعة من شخصيات وتفاصيل ( نعيشها ) مع أبطال الوصايا ، كل ذلك أمكنه أن يصل للجميع .. حتى لشخص ملحد وفاقد إيمانه بالبشرية ومؤمن حتى الثمالة بفسادها واستحقاقها كل عذاب ممكن كـ"ستانلي كوبريك" .. حتى لشخصٍ كهذا استطاعت ( الوصايا ) أن تمسه وتلمسه وتنير له شيئاً كي يقول عنها يوماً "لن تستطيع أن تدرك عظمة هذه الوصايا تمام الإدراك إلا حينما تشعر – بعد فترة طويلة من المشاهدة – أنها استطاعت الوصول إلى قلبك والتأثير فيك" .. كوبريك نفسه يقول ذلك ! قبل أن يتبع كلماته قائلاً "أنها التحفة الوحيدة التي رأيتها ويمكنني تسميتها"

وفي ثلاثية الألوان .. يعود الرفيقين من جديد كي يسامحا ويغفرا .. كي يخلقان طاقة فينا لا تقل – في رأيي – عما خلقاه في وصاياهما ، لا أريد المبالغة ولكن بنهاية رحلة الثلاثية نشعر (
بالخلاص الروحي ) فعلاً .. نشعر بأن أرواحنا قد أُنقذت مع من أنقذوا ، نشعر بأن كيسلوفسكي استطاع أن يغمرنا بعاطفة المحبة التي ملأ بها ثلاثيته تماماً كما استطاعت فلانتين أن تغمر القاضي جوزيف ببراءتها وملائكيتها ، في ثلاثية كيسلوفسكي نحن نمر برحلة الحياة كاملة : الفقد .. الحزن .. الوجع ، الخيانة .. الكراهية .. الانتقام ، العزلة .. الحنين .. فقد الاتصال ، نمرُّ بإناسِ جردتهم الدنيا من كل شيء حتى لم يعد لديهم رغبة في أيّ شيء .. نمر بآخرين أكسبهم الظلم كراهية لم تستطع أن تمحي روح المحبة بداخلهم .. وثُلّث يعود إيمانهم بالعالم والناس وحتى بأنفسهم بعد أن يجدوا البشرية - وبما فيها ذاتهم - أفضل مما تصوروا يوماً ، ( نعيش الحياة ) كي نصل في النهاية إلى مبتغى الرحلة كلها : إلى التسامح .. وإلى المحبة

كيسلوفسكي مرّ بالكثير من الأوجاع في حياته حتى امتلأ قلبه بها ، ولكنه ظل حتى آخر نفس يحدثنا عن أن نكون ( أنفسنا ) وأن نملك القدرة على ( المحبة ) التي يكمن فيها خلاصنا ، ولا أعرف حتى الآن كي استطاع أن يحمل كل التلك الآلام ويبشر بكل هذا الحب ويسقط في النهاية بقلبٍ معتل من وطأة وثقل كل تلك الآلام ، هو مسيح .. مسيحٌ جديد بشّر الناس بنفس المعاني وجسد لهم نفس الأفكار ولكن في هذا العصر بكاميرا محمولة على كتفيه

*****

منذ عدة عدة سنوات ، شاهدتُ أحمر للمرة الأولى ، كان أول معرفتي بكيسلوفسكي ، لم يرقنِ كثيراً حينها ، ربما لم أفهم .. لم أشعر .. ربما عاملته كغيره من الأفلام

بالأمس ، شاهدتُ الثلاثية للمرة الرابعة في سنواتِ عمري ، وحينما انتهيتُ 
بالأحمر .. أخبرتُ نفسي بأنني – ربما – لم أشاهد شيئاً في حياتي بمثلِ هذا الجمال

أحببتُ الكثير من الأفلام ، والقليل منها اعتبرته ( مني ) – مني فعلاً وبكل ما تحمله الكلمة من معنى -
ولكن من كل ما كان منّي .. تتضاءل كل الأفلام بجانب (
الأحمر ) من الألوان الثلاثة .. ويتضاءل الجميع بجانب كيسلوفسكي