13 يوليو 2013

أوّل الصيف اللي فات (نسخة فُصحى)

(1)

في واحدة من أكثر اللحظات المُشرقة في رواية «الغابة النرويجية»، التي اكتشفت مؤخراً أنها روايتي المُفضَّلة على الإطلاق، تحضر «ميدوري» لمقابلة «واتانابي» بعد أسابيع من غيابه، في نهاية اللقاء تعطيه جواباً كتبته في الفترة التي ذهب فيها ليحضر لهما الطعام، أخبرته بأنها كانت تنوي أن تَبيت معه تلك الليلة، تَطْبُخ له، تَرعاه بشدَّة، تَمْنَحه كل ما تمتلكه من مَحَبَّة الأقرباء، وأن الشنطة التي أحضرتها معها وضعت بها بيجامة وأدوات طَبيخ، ولكن المُشكلة.. أنه طوال لقاءهم كان عقله وروحه مُعلَّقين بأشياءٍ أخرى، أنه ليس هنا، ليس معها، ليس في الحاضِر، لم يَلْحَظ حتى أنها قد غيَّرت «قَصَّة» شَعرها، ولا يؤلمها في كل هذا إلا معاملتها بيقين أنها مَوجودة دائماً ولذلك فهو لا يَكْتَرِث بها، يَذهب بعيداً، وراء ماضيه وهواجسه، دون أن «يراها» فعلاً

آخر جملة في الخطاب كتبتها «ميدوري» وهي ترى «واتانابي» قادماً بالطعام من بعيد، كتبت أنها لو أخبرها الآن أن «شعرها جميل أو حتى سيء» ستُقَطّع هذا الجواب، وستذهب معه إلى البيت، تُرْفِق به وترعاه، ولكنها لا تظن أن ذلك سيحدث، وإذا انقضى هذا اليوم بالرّحيل، فهي لا تريده أن يُحدّثها بعد ذلك مُطلقاً

«واتانابي» قرأ الجواب، ما يعني بالضرورة أنه لم يَلْحَظ في الفرصة الأخيرة قَصَّة شعر «ميدوري» الجديدة، في اليومِ التالي ذهب إلى الجامعة، ورآها، حاول أن يتكلم معها فصدّته، تأمل في شكلها كثيراً كثيراً، ثم أرسل لها تلغرافاً اعتذارياً، جملته الأخيرة كانت «أعلم أن هذا متأخراً جداً جداً جداً، ولكن شعرك كان رائعاً حقاً»

كل أدب «موراكامي» يتعلَّق بالماضي وعوالقه، ما تركناه وراءنا دون أن يتركنا، وما يتبقى لنا في النهاية، هو يعرف الكثير عن ذلك، ولأن هذا هو أكثر ما فكَّرت فيه خلال الإحدى عشر شهراً الأخيرة، فقد صار الرَّجل مُفضَّلاً، هذا الأسى مثلاً في تكرار كلمة «جداً» هو أسى لرجلٍ يعرف الإدراكات المتأخرة، ولذلك.. فعندما كُنت في منتصف الرواية كتبتُ لـ«واتانابي» أنه يجب أن يترك الماضي وراءه ويَنظر نحو «ميدوري»، ذات الأمر الذي أخبره به «موراكامي» في النهاية على لسانِ إحدى الشخصيات، الرواية كانت أنا.. تماماً


(2)

أهم قرارين اتخدتهم في حياتي في آخر إحدى عشر شهراً كانوا السَّكَن بمفردي في جاردن سيتي بديسمبر الماضي، والتحرُّك في شوارع المَدينة بالعَجَلة في مارس الذي تلاه

هُناك الكثير من الأشياء بدأت مع الأمرين، بدء تعلُّم العود، الخَطّ العربي، هذا التحكُّم الكامل في إيقاع حياتي اليومي، ثم.. هذه الخفّة التي يحققها وجود العَجَلَة، والتعرُّف على تِلكَ المَدينة من جديد، والتَّوق لرؤية مُدُن أخرى على جانبي النَّهر

وضمن أكثر ما تغيَّر عند السَّكَن بمفردي هو تعلُّم الطَّبخ، الطَّبخ شيء مُدْهِش، والأكثر دَهْشَة هو مشاركته مع شخص آخر، حبيب أو قَريب، ولذلك فإن أكثر ما كُنت أتذكره خلال ذلك الوقت، تحديداً في المرات الأولى، هو هبة، وأول الصّيف اللي فات، وذلك اليَوم الذي طَبَخنا فيه سوياً، وجلسنا لنأكُل في أمانِ الله، ثم تفرَّجنا على فيلمٍ سَيء، وضحكنا كَثيراً، وكانت الحياة بخير

لَم تَكن أياماً مثالية، لها مشاكلها وضغطها وتوتراتها، كأي علاقة عاطفية/إنسانية، الحياة لَيست سهلة كما أُصَدّر دائماً كَمُفتتحٍ لأي رأي أو حَديث، ولكن المُدهِش أن الذاكرة ستجعلها كذلك، ستنقّحها تماماً، مثلاً.. قبل أيّام أرسلت لي جَيلان شيئاً لأقرأه من «تامبلر» الخاص بها، رأيتُ عندها تِلك الصورة على جانب الصفحة الأيمن:



من الصَّعب وَصف كم أن هذا هو أنا وهبة، تماماً، كم أن الملامِح تُشبهنا، وأن لدينا نَفس الملابس، وأننا جَلسنا معاً كثيراً في شمس الصيف الأخير، لن تفهم كم أن هذا هو نَحْنُ إلا لو أخبرتك أنني ظللت لخمسِ ثوانٍ أفكر في احتمالية أن هؤلاء هم نحن فعلاً وأن هبة عَمَلت «تامبلر» خاص بها ووضعت تلك الصورة، وستفهم أكثر لو أخبرتك أنني حين أرسلت الصورة لشريف –بعدها بدقائق- أخبرني أنه ظن أن هذا أنا «متصوَّر في فوتوسيشن ولا حاجة»

المُهم أن هؤلاء ليسوا نحن، هم يشبهوننا لدرجة التماثُل، وفي الثواني الأولى لرؤية الصورة كان هناك حنيناً شديداً لتلك الأيام التي لم تكن مثالية، ولكن الذاكرة –في تلك اللحظة- قررت أن تُدعّم كل «روقان» و«راحة بال» الصورة بتفاصيلٍ متناثرة بيننا، أسقطت أي حُزن قَديم وهَزَّت القَلب بحنينٍ شديد لزمنٍ كنا، هي وأنا، أكثر خفّة، حنين للأيامِ والأوقات وتلك اللحظة التي عشناها والتقطت لشبيهينا في بلادٍ بعيدة


(3)

عن ماذا أحكي الآن؟

ليس أمراً مُحدداً، ومع خلفية البوست السابق -بالعاميَّة- فأنا لا أريد أن أقول شيئاً، فقط تلك الفكرة الحَزينة عن أن «أسعد لحظة في حياتك ستمر بك دون أن تعرف أنها جاءت» هي ما تُحرّكني

يحتاج المرء لطاقة ضخمة ومُستمرة كي يُبقي على الدَّهْشَة في الأمور العادية التي يَطمئن لها، الأهل.. الأخوة.. الأصدقاء الأقرب، البشر الذين يراهم يومياً ويعلم أنهم هنا دائماً، «واتانابي» كان مطمئناً لوجود «ميدوري» ولذلك أهملها، وأنا كُنت مُطمئنا للحياةِ فلم أطبُخ مع هبة كثيراً، وصديق اطمئن لوجود أصدقاءه الأقرب فذهب بعيداً ليوطد علاقته بآخرين وليس من المؤكد أنه سيجد ما تركه حين يعود، وسيشعر بالفقدِ والخسارة والوَحْشَة، في أكثر أشكالهم قَسوة، وسيعرف -ربما- أن تلك هي أوقاته الأحزن، وأن ما من شيءٍ يفعله المرء أسوأ من الذهابِ لأجلِ الضال وترك بقية الخِراف في البريَّة

(4)

أعدت قراءة الفقرة الأخيرة في البوست السابق، الذي كُتِبَ قبل شهر ونصف، أعرف ما كنت أقصده، عن الحاضر كله كتهيأةٍ للحظة مستقبلية يَستقر عندها كل شيء، ولكني في تلك اللحظة متشككاً في هذا، الحياة دوائر، تدور وتدور وتدور، صحيح أن الحاضر يُهيِّئ للمستقبل، ولكن المستقبل نَفسه سيصير حاضراً يُهيِّئ لمستقبلٍ أخرى، ما من نقطة للنهاية، لسنا في فيلمٍ هُنا.

والأهم، أن هذا بوست عن الإدراكات التي تأتي بعد أن يَمُرّ الكثير من الوقت، ليس من الجيد إنهاءه بأي حِكْمَة أو تهوين. هو شيء انتهى عند المُلاحظة والسرد لأشياءٍ تحدث بشكل دائم، لذلك يمكن أن نتوقف هنا. بلا خاتِمَة مُحدَّدة.

ليست هناك تعليقات: