تقولُ الحِكاية ، التي عاصَرْتُ جانباً مِنها ، أن يوسف شاهين ، أثناء إحدى ذروات الحراك السياسي في مصر ، مع اعتصام القُضاة من أجل استقلالهم عام 2006 ، قد اقترح ، مُتحَمساً ، أن يحمل المُعتصمون والمُتظاهرون في قادِم المُواجهات عُصياً وشوماً ، من أجلِ مُواجهة قوات الأمن والبلطجية ، والدِّفاع عن أنفسهم في مواجهة الوحشية المُفرطة التي يتم بها فض اعتصام أو تفريق مُظاهرة .
لَمْ يُلقَ اقتراحه وقتها بجديّة ، وفُضّ الاعتصام سريعاً ، وقُبِضَ على عشرات من النُّشطاء الذين شاركوا فيه تضامناً مع المَطالب المشروعه للقُضاة ، فقرر شاهين أن يبدأ في فيلمه الجديد "نهاية نِظام" ، الذي تحوّل بعد ذلك إلى "هي فوضى" ، مُحققاً صورة مُتخيَّلة لفكرته العظيمة في آخر مشهد أخرجه في حياته: آلاف المواطنين يحاصرون القسم ، ويَشْتَبكون مع الشرطة ، ويُسقطون النِظام ، ذات الصورة التي تحقَّقت على أرضِ الواقع يوم 28 يناير ، بعد أن صارت ثورة ، يخرج فيها الملايين إلى الشارع ، وهُم شَعباً يُريد إسقاط النظام .
ولَم يَكُن يوسف مَعهم ، لأنه قد مات ، أو صَعَد ، وفي صورة شاعرية كان يراهم ، وفي ما هُوَ أكثر: كان يَهْتِفُ وراءهم ، ويُمارس الثورة ، فِعل الإرادة والقوة والرفض والاختيار ، الذي دائماً ما عَكَسه في أفلامه ، مُتَمَنّياً أن يراه وَاقعاً .
تَصَوَّرت ، سُبحان الله ، أن محمد أبو سويلم وعبد الهادي ، بهيَّة وفاطمة ويوسف والشيخ أحمد ، إبراهيم المَدبولي ، وتفيدة بنت حسونة ، يحيى شُكري مُراد ، وشكري مُراد ، قد ساروا ، وثاروا ، فوق كوبري قَصر النيل يوم جمعة الغضب ، تصوَّرتهم ، وقد راح كُل مِنهم يَشِد على يد الآخر ، مُعزياً ، في الرَّجل الذي ، لفرطِ الثِقة ، قد جَعلهم يُغَنُّون "الشارع لِنا" ، وتركهم ، قبل أن يرى الشارع وقد صار لهم بالفعل .
(2)
هيَ مُصادفة ، حتماً ، ولكن لابُد وأن لها ، ككل شيء آخر ، معنى ، في أن يكون ميلاد يوسف شاهين في الخامِس والعشرين من يناير .
كُنت أكتُب ، قبل عام ، في ظهر 25 يناير 2011 ، أن عين يوسف كانت تَعكس دائماً صورة مُثلى لبلادٍ أحببتها ، تفسح للحلمِ مجالاً كي يتحقق ، وتقفُ مع الثورة إن حدثت ، بل صار الأمر ، لفرطِ الشبة ، أن تتبعه مسيرته ، هُو تتبع لمصر ذاتها ، التي كانت ، في سنينها الأخيرة ، تَكْبُر وتَشِيخ وتَعْتَل ، ومِثلها كان .. يَكْبُر ويَشِيخ ويَعْتَل ، يَنْحَدِر هُو بمسيرةٍ سينمائية ، وتنحدر هيَ بكُل شيء آخر .
ثم كان ما حدث في الخامس والعشرين من يناير ، نَزَلتُ إلى الميدان ، ووجدته مُمتلئاً ، نَوَيْنَا الاعتصام ، فَفَرَّقونا ، ورَحَلنا ، بنيّة العودة إلى تِلكَ الأرض من جديد ، وحَدَث ، فقُمنا بثورة ، وأسقطنا نِظاماً ، ولم أستطع ، طوال الوقت ، مُراوضه أن كُل هذا قد بدأ يومها ، وأن ذكرى الميلاد قد صارت واحدة: الثورة ويوسف .
(3)
لم أكْتُب عنه بالأمس لأنّي كُنت هُناك ، وتمنَّيتُ أن يكون هُو أيضاً كذلك ، وفي لحظةٍ ، تخيَّلت ، لا أنّني أكتب عَنه ، ولكن أكتب له:
تَعلَمُ كُل ما حَدث ، وأنه مَرّ على مصر نهاراً كالثامن والعشرين من يناير ، لن تعود بعده إلى سابِق ما كانت عليه .
أنه كان هُناكَ شعباً ، وخفافيش سوداء ، وأننا انتصرنا ، ما ظنناه ، وقتها ، نصراً بيناً ، ونهاية للأمر ،بسقوطِ الوَحْش ، والوصول للأميرة .
ولكن ، لم تَسر الأمور على هذا النحو ، ووجدنا ، للعَجب ، أن ما فات كان أسهل ما في الأمر ، وأن الثورة لا تتوقف ، لأنه ما مِن نهاية ، كُلما تُسقط وَحْشَاً ، تُواجهك وُحوشاً ، وإذا كُنا قد تعلّمنا شيئاً ، بعد عام كامل ، فهو أن تِلك هي طبيعة الأمور ، وما من حَدٍّ سَيُعْلَن عنده انتصار الثورة ، ولذلك سَتَظُل مُستمرّة ، وسَنستمر معها ، لأن اليأس ، كما قال أمين ، خيانة للشهداء ، ولأننا يَنْبَغي أن نَفْرح ونَسُر ، كوننا قد عَرفنا الثورة وعشنا معها .
عزيزي يوسف شاهين: الثورة مُستمرة .
هناك تعليق واحد:
الثورة مستمرة مهما يلاحقها من مؤمرات وزي ما انت قلت بتهزم وحش تلاقي وحوش وعن نفسي شايفة ان اهم انجاز للثورة انها اسقطت القناع عن وجوه لطالما ادعت الوطنية علي حساب الوطن
إرسال تعليق