"طريقُ الرجل الطيَّب محاصر من جميع الجهات بظلمِ واستبدادِ الرجل الشرير ، باسم المحبة والخير والإرادة الحسنة .. سأرعى الضعيف في وادي الظلمات"
اكتشفتُ بدهشة – وكأنني أعرف للمرة الأولى – أن كل قصة يمكن أن تروى بأشكالٍ مختلفة .. تقلبها رأساً على عقب !
يعرف هؤلاء الذين يقع مكان سكنهم .. عملهم .. أو سكن أحد أقربائهم بين إمبابة والجيزة هذا الميني باس الشهير الذي يصل بين المنطقتين ، أسكنُ أنا في المنتصف تقريباً .. عند تلك المنطقة التي يرمز لها بميدان لبنان ..
بالأمسِ كنتُ ذاهباً إلى صديقٍ لي في الجيزة .. وكاختيار بديهي ركبتُ أحد هذه الميني باصات ..
في فترة الظهيرة .. من الجيد أن تجد مكان تطأ فيه قدمك عوضاً عن طموحك المشروع بالجلوس ، ركبتُ أحدهم .. وقفتُ في بداية العربة ممسكاً كالعادة بالميدالية .. الموبايل .. كيس المناديل ، عند أرض اللواء ينزل العديدين ويركب آخرين .. يتبدلون ومع ذلك تبقى نفس الملامح والوجوه ، في ثواني أصبح هناك العديد من الكراسي الفارغة في مؤخرة العربة .. في ثواني ستمتلئ ، لذلك فقد اتخذتُ خطواتاً متعجلة للجلوس في كرسي مفضل في آخرها بعيداً عن مناوشات المقدمة المعتادة على فراغات تكفي لوضع قدمين – و ربما واحدة - ..
لا أعرف تحديداً ماذا حدث .. فقط أثناء مروري كان هناك سيدة عجوز تجلس على كرسي الخارجي .. بيدها كيس كبير به "رقاق" نصفه بالطرقة والنصف الآخر تضعه على قدميها .. بدا أن هناك مسافة كافية لمروري دون الاحتكاك بكيس الرقاق هذا .. إلا أنها صرخت بضجر :
- حاسب حاسب هتكسره هتكسره
- ما هو ...
- طب عدَّي بقى .. عدَّي
نطقت الجملة الأخيرة بتأفف واضح .. ربما مهين كذلك ، شعرتُ بتلك الصفة الأخيرة - بعد مروري وجلوسي بهدوء ودون رد - من خلال تلك الحسناء التي تجلس أمامي والتي رمقتني بطرفِ عينيها بإشارة بدت تنمُ عن شيء من قبيل : انتَ مش هترد عليها بروح أمها ؟؟!
ابتلعتُ الغضب بداخلي وحولت نظراتي بين الخارج حيناً وبين السيدة العجوز حيناً آخر .. لم أدقق النظر كثيراً في ملامحها فجميعهم يملكون نفس الملامح المُرهَقَة التي حفر الزمن لنفسه مملكتاً فيها .. نفس الأشكال بالفعل .. حتى بحبات العرق الدقيق التي تبرز على الوجه أيًّ كان الجو – صيفاً كان أو شتاء - .. والطرحة السوداء الرخيصة الموضوعة بغير عناية ولا اكتراث بما تخفيه – وما تظهره – من شعر .. والجلباب – الأسود دائماً - المُبَقَّع المثقوب من أسفل ويظهر تحته جلباباً أحمر اللون لا يقل رخصاً ولكنه يتكاتف مع أخيه لحمابتها من برد الشتاء .. تمسك كيس الرقاق هذا باصرار طفل يرضع في ثدي والدته بعد جوع ..
لم يكن الاهتمام بتلك التفاصيل منبعه النية المسبقة لما أكتبه الآن .. إطلاقاً ، فهذا لم يدر بذهني فالأمر حتى الآن عادي جداً .. نمر به جميعاً ولا يثير الاهتمام ..
لكن منبع الاهتمام بدأ من محاولة الوصول لأن ما فعلته كان الصواب .. وأنه – وإن كان كوَّن بعض الغضب – التصرف المناسب والسليم في حالة مثل تلك ، أنها ببساطة من هؤلاء الذين نسميهم ( شلق ) ونتحدث عنها على القهاوي بابتسامة عريضة باعتبارهم ( عالم ولاد كلب ) ، ما الذي يدخلني معها في صراع فارغ ؟؟ .. بل أن تصرفي يملك بعداً يجعل مني المؤدب الهادئ الذي اختار عدم الرد على امرأة في سن جدته برغم قلة زوقها ..
برغم الغضب .. فإنَّ مشاهدة الأمر بتلك الصورة كان مرضياً إلى حدًّ بعيد ..
إلاَّ أن شيء ما تحرك داخلي يليق بمن قرأ روايتي فيكتور هوجو "البؤساء وأحدب نوتردام" في سن الثالثة عشر وأعادهما منذ عدة أسابيع خارجاً بقناعة أن كل منا لديه منطلق واضح فيما يفعله .. لديه خير حقيقي بداخله حتى لو توارى وراء قناعات ترابية من العنف والشر والأنانية والقبح ..
حاولت جعل الأمر أكثر عمقاً من تلك السذاجة التي طرحتها بالأعلى :
بالنسبةِ لي : كان هناك مسافة كافية لمروري دون إحداث أي كسر بكيس الرقاق مما يجعل تصرف العجوز غير مهذب على الإطلاق .. ويجعلها – منطقياً – "ست شلق" ..
بالنسبة لها : فالأمر مختلف تماماً ، فما أنا إلا "شاب سيس" من هؤلاء الذين تراهم كثيراً .. لا يعلمون أي شيء عن قسوة الحياة ، يكتفي الواحد منهم بكونه يمسك تليفوناً أحضره البابا .. ومناديل يجففُ بها عرقه الثمين متأففاً من أمثالها من الذين تسبقهم رائحتهم ولا يمنعها مُذيل عرق مميز كذلك الذي يستخدمه ..
بالنسبة لي : كان المرور غاية .. المسافة كافية .. وحدوث خطأ ما يؤدي إلى كسر الرقاق ليسَ بذات الأهمية ويمكن محوه باعتذار مبتسم ..
بالنسبة لها : فحماية الرقاق هي الغاية الأهم .. الغاية الأسمى التي تعلو حتى على مشاعر أفندي لطيف مثلي – هكذا كنتُ سأوصف في مشهد مثل هذا برواية ليحيى حقي أوطه حسين ! - ، وحدوث خطأ ما يعني ضياع قوت يوم كامل .. أتدري ؟؟ يوم كامل قد يكفله هذا الكيس ، ولا معنى لهراء الاعتذار المبتسم هنا .. فالأمر أكثر جدية ، فعلى ماذا ستخاف وتصبح شرسه إذا لم تخف على طعامها وطعام أولادها من شخص لا يدرك شيء من كل هذا ؟؟
كان من الممكن أن ينتهي الأمر هنا أيضاً برؤيتي منطلقات كل منا ..
إلا أن هذا غيرُ مرضي !
فقد خرجت هي بالرقاق سليم .. ومع ذلك فقد خلفت لي الغضب وربما الإهانة ..
شعرتُ حينها بأن الأمر غير عادل
وحاولت إعادة تشكيل المشهد بأشكالٍ أخرى متاحة
"طريقُ الرجل الطيَّب محاصر من جميع الجهات بظلمِ واستبدادِ الرجل الشرير ، باسم المحبة والخير والإرادة الحسنة .. سأرعى الضعيف في وادي الظلمات"
1
- حاسب حاسب هتكسره هتكسره
- ما هو ...
- طب عدَّي بقى .. عدَّي
لأكن أنا الرجل الطيب .. وهي الرجل الشرير .. وهدوءي وتصرفي بحنكة هو الراعي الذي يحميني في الوادي ..
أمر في تلك الحالة بهدوء وسلام نفسي مقتنعاً تماماً بأن هذا هو الصواب وأن حقي لابد أن يعود عن طريق رجل أشر سيقابلها في الوادي .. مبتسماً لأنني قد مررت بسلام وأن الراعي لم يخذلني
2
تبعاً لنظرية يبدو أن رامز الشرقاوي مقتنعاً بها فإن مأساة البشر الحقيقية تنبع من كونهم "أولاد كلب" ، وإذا هوهوت الكلاب .. فليسَ على الذئابِ حرج
- حاسب حاسب هتكسره هتكسره
- ما هو ...
- طب عدَّي بقى .. عدَّي
لتكن هي الرجل الطيب .. وأنا الرجل الشرير ..
- جرى إيه يا ست انتِ ما تحترمي نفسك وتتكلمي عدل ، انتِ حد دسلك على طرف
- كنت هتكسر الرقاق يا ***
- تصدقي إنك **** ، رقاق إيه وزفت إيه ، آدي الرقاق اللي خايفة عليه يمكن تتربي
وأهشم بساعدي كيس الرقاق كما يليقُ تماماً برجل شرير ..
وليكن الناس في تلك الحالة هم الراعي لها في الوادي من الأشرار مثلي
يتدخل ركاب العربة الذين لم يرضهم أن أقوم بسب عجوز في سنَّ جدتي وأكسر رقاقها .. ولكن نظراً لعلامات الشر والصياعة التي بدت على وجهي لم يجرؤ أيًّ منهم على الاحتكاك بي ، فقط قاموا بمواساة المرأة ومسح دموعها .. وأمام قسمي الواضح بعدم دفع أي مال لها كتعويض لما تعرضت له من أذية .. وأمام تقطع جملها اللاهثة " لازم ابن الكلب ده يديني فلوس الزفت اللي كسره ، دي مش عشاني يا ناس دي عشان العيال اللي مستنيين في البيت لقمة يتسمموها ، إن شالله يا رب تخدني وتريحني من العيشة الزفت والقرف اللي إحنا فيه ده" ، لم يجدوا بديلاً عن التجميع من بعضهم البعض لإعطائها أي شيء وجعلها تترك العربة حتى لا تستمر المشادة .. وهو ما حدث بالفعل ..
تركت العجوز العربة تسبقها دموعها وقولها المسموع "حسبي الله ونعم الوكيل" ، وجلستُ أنا بجانب الحسناء وعلى ملامحي نشوة الانتصار .. نظرتُ لها بطرف عيني مطلقاً بصوت واضح "عالم ولاد كلب لازم ياخدوا بالجزمة" .. وهو ما أكدته بهز رأسها لأسفل ولأعلى ، مما جعل الأمر برمته مقدمة لبدءِ حديث لم يسعفني خيالي في التفكير إلى أين سينتهي ؟! .. فكر أنتَ !
تصرفت السيدة بما يليق ( برجلٍ طيب ) .. وتصرفتُ أنا كما يليق – تماماً – بالرجل الشرير .. وكانت الانفعالات المحيطة جميعها هي الراعي كما يجب أن يكون ..
****
إلاَّ أنني لم أرضَ أبداً عن كلا الرؤيتين !
****
3
تبعاً لنظرية يبدو أن رامز الشرقاوي مقتنعاً بها فإن مأساة البشر الحقيقة تنبع من كونهم "أولاد كلب" ، وهذا هراء لا أقتنع به على الإطلاق – كما يليق بشخص عرف بؤساء فيكتور هوجو وأحدبه في الثالثة عشر من عمره ! -
- حاسب حاسب هتكسره هتكسره
- ما هو ...
- طب عدَّي بقى .. عدَّي
لأكن أنا وهي .. هؤلاء الجالسين في العربة والسائرين خارجها .. أنا وأنتم .. كل من يمكن له أن ينضم تحت كلمة ( نحن ) .. نحنُ الرجل الطيب .. والدنيا هي هذا الوادي .. والأقدار التي تخلق بيننا أحياناً صدف غير منطقية أو تشكل بداخلنا إثم نريد تحقيقه .. هي الرجل الشرير .. ولتكن المحبة هي الراعي لنا
- أنا آسف يا ستي مكنش قصدي
- ولا يهمك يا ابني
أبتسم .. تبتسم .. وتبدو الابتسامتين من أجمل وأصدق ما صادفتُ في يومي
لا تصبح لي في تلك الحالة جزء من ملامح مزعجة ومتشابهة .. بل كياناً إنسانياً شَكَّلتُ في لحظة خطراً على قوته فتعامل بعنف .. وفي اللحظة التي تليها أشعرته بإنسانيته – وربما إنسانيتي – فتعامل بلين !
بدا الأمر رائعاً حقاً
به بعض السذاجة .. ولكن من قال أننا لسنا بحاجة ملحة لأن نتصالح مع كل سذاجاتنا التي تجعلنا أكثر إنسانية ؟؟
****
خرجتُ من كل تلك الأفكار على صوت السيدة العجوز تشتم السائق ويردُّ عليها بالمثل لأنها طلبت منه أن يهدء سرعة العربة كي تنزل بحمولتها ولكنه تعجل فكادت تسقط ويتهشم قوتها ..
بدا ليَ الأمر في تلك اللحظة مثيراً للشفقة .. لها وله ، ماذا لو ابتسم أحدهما لثانية واعتذر ببساطة ؟ ماذا لو ساعدها أحد الركاب في إنزال كيس الرقاق للأسفل ؟ ماذا لو تمهل السائق نفسه لثواني تتيح لها النزول بأريحية ؟ وماذا لو لم ترفع صوتها عليها وتشتمه ؟؟
بدا ليَ كذلك أن أدعي وقتها ادعاءً – ربما غير سليم – وهو أن كل ما نقرأه من كتب .. نشاهده من أفلام .. نسمعه من موسيقى ، أن كل تفاعلتنا مع العالم الخارجي مع اتساعها تصب جميعها في مصبٍ واحد : أن تجعلنا أكثر بشرية !
تابعتُ السيدة بنظري .. بدت ملامحها ساخطة ولاعنة للكثير من الأشياء التي صادفتها في رحلتها اليومية ، في الأغلب كنتُ من ضمن تلك الأشياء ، ومع ذلك ودتُّ لو استطعت الاعتذار إليها والتأكيد على أن المسافة كانت كافية للمرور دون أي خطر على الرقاق !
إلا أنها غابت عن نظري بعد تحرك العربة سريعاً مع صراخ التابع "جيزة جيزة جيزة"