27 أغسطس 2011

سِت حِكَايات عَن المُؤانسة

(1)


المؤانسة بالأمل


لَم يَكُنّ "القصبجي" يَعْلَم أن "رَقّ الحَبيب" هيَ آخر ما سَيُلَحّنه في حياته ، ولكنّه مع ذلك أخرج فيها كُل ما يَعْرفه عن المُوسيقى وعَنْ العِشْق


كان في "أم كُلثوم" شيئاً جاذباً ، يَدْفع الرّجال ، ليس فَقَط لأن يحبُّونها ، ولكن بأن يُفَضّلوا دَوماً البقاء بقُربها ، مهما بدا ذلك قاسِيَاً وصَعْبَا


أحبّ القصبجي أم كلثوم ، وارتضى بأن يتحوّل "الأستاذ" و"الموسيقار" العظيم الذي تَتَلْمَذّ على يَده الجَمِيع ، والذي كان ليُصْبح - ربما - أعظم مُوسيقي مَصْري في القرنِ كاملاً ، إلى عازِف عُود وَرَاء "السّت" .


ولَكِنّ التَّفسِير وَاضِحاً ، ليْسَ فَقَط لأنّها "أم كلثوم" ، ولكن لأننا نَمِيلُ إلى الأَمَلِ دَوْمَا ، لا نُريدُ فٌقدانه ، مهما بدا ما نُريدُه بعيداً ، نُغالط الحَقَائِق ، ونُبادل ما لا نُريد تَصْدِيقه ، لِيَزْدَاد الشّوق بالوَلَعْ .


لهَذَا ، اعْتَقَد "القصبجي" دوماً أن تَضْحيّاته تٌُقرّبه ممّا يُريد ، واستعد بأن يُضَحّي بكُلّ شيء آخر ، بما في ذلك موْهِبتُه الفذَّة ، مُقابل أن يُبقى على "أملِ" أن تُصْبِح "أم كلثوم" حَبِيبته ، مَثَلَهُ كَمَن تَرْك تسعة وتسعون خروفاً في البريّة ، وذَهَبَ لأجلِ الضَّال ، وماتَ دُونَ أن يَجْده .


ولكن ، مع ذلك ، لَمْ يَكُن "القصبجي" لِيَعْش يوماً بغَيْرِ الأمل ، وَبقُربِ الضَّال .


(2)

المؤانسة بالعَتَب



ظَلَّت العلاقة بين "حسن شحاتة" ، أحد رموز نادي الزّمالك على مرّ تاريخه ، وجمهور الفريق ، في أحسنِ حال ، منذُ بدأ اللّعب في النادي في بداية السبعينات ، وحتى يناير 2010 ، كانوا دائماً هم السَّنَد له ، وتحديداً في السّنوات الأخيرة ، بعد أن أصبح المدير الفني للمنتخب الوطني ، تطالُه الكثير من سهام النَّقد ، أكثرها حقاً وبعضها بهتاناً ، ولكن في كُلّ الأحوال ظلَّت جماهير الزّمالك بجانبه ، ظالماً كان أو مظلوماً .


ولذلك فإن تِلْكَ الجماهير ، لم تَقْبل من أحد رموزها ما اعتبرته "خيانة" ، ولا شيء أقل من ذلك ، حين استدعى شحاتة لاعب الفريق "أحمد حسام ميدو" لمعسكر إعداد بطولة كأس أمم 2010 ، وقرر الاستغناء عنه بشكلٍ مُهِين ، كردّ على واقعة الصدام الشهيرة بينهم في مباراة السنغال عام 2006 .


رَحَل "مِيدو" عن النَّادي ، وحَمَّلت جماهير الفريق "شِحَاتة" مسئولية هذا الرحيل ، خَسِرَ الزّمالِك الدّوري ، فَشَلَ "مِيدو" في الاحْتِراف ، خَسِرَ الزّمالِك الدّوري من جديد ، وعادَ "مِيدو" بعد أن لَفَظَتْهُ أوروبا ، بَقَت الكثير من الأشياء على حالها ، عدا شيء واحد قد تغيّر : أصبح شحاتة بالنسبة لجماهير الزمالك ابناً ضالاً لَمْ يَتُبّ .


وانحدر كُل شيء مع "شحاتة" بالتوازي ، ساءت أموره مثلما ساءت أمور ناديه: تأييده المُطْلَق للنظام السابق أثناء ثورة يناير ، اضطراب علاقته بإتحاد الكرة بعد سقوط النّظام ، الأداء الباهت الذي يقدُّمه منتخب مصر في الفترة الأخيرة ، وأخيراً : خروج المنتخب من تفصيات الكأس التي حمل لقبها لثلاث مرّات على التوالي ، والنّتيجة: عَزْل شِحاتة نفسه عن كرسي المدير الفنّي الذي ظلَّ عليه لمدّة سِت سنوات .


وما يَهِمَّني ، هُوَ مَا حَدَثَ بعد كُل هذا ، جرافيتي رُسِمَ لشِحاتة على جُدران النَّادي في "ميت عُقبة" ، يَحْمِل صُورته شاباً ، لَمْ يَفْقَد براءته وحُبُّه غير المشروط لناديه ، وتَحْتَهُ كُتِبَت كَلِمَات حَمَلَت روح الشّعر حتى وإن فقدت إيقاعه :

"إحنا أهْلَك / إحنا رجَّالتَك أمانَك / إحنا وَقت الشدّة سَنَدك / إحنا زادَك / يا حَسَن .. لو كُنْت ناسِي / إحنا ناسَك"


عَتَب مِثَالي بالنِسْبَة لابنٍ ضال: مَنْطُوق مِن مَوقِف قُوة ، مؤانِس في أكثر أوقات الضَّعف ، يؤكد - في كُلْ شَطْر - على صِفات ذكورية : "أهلك/رجّالتَك/سَنَدك/زادَك" ، ولا يَنْسَى عَتَب المُنَادي - بحَسْمٍ - عقب مناداته "لو كُنت ناسي" فَيُذَكْره : "إحنا ناسَك"


(3)

المؤانسة بالعَجْز



لَم يَكُن المخرج الأمريكي "جون كازافيتس" يَصْنَع أفلاماً ، كان يُحاول في الحقيقة أن يَعِيشُها ، نَجَح حيناً وفشل أحياناً ، وظلَّت أعماله مقرونة قبل أي شيء بـ"التَّجربة"


في فيلمه الأهم "امرأة تحت التأثير" يَسْرد الرَّجُل قصة امرأة تُدْرك جُنُونِها ، تُحاول التّغلُّب عَلَيه لأجل أسرتها ، تَعْرف أن لديها زوج وأبناء ، تَعْلَم أنها خَطَر عليهم ، تُقاوم الجُنُون من أجل البقاء مَعَهُم .


الزَّوج في المُقابل يَعْرِف هُوَ الآخر بجنونِ زوجته ، وهُو يحبها ، يحبُّها كثيراً ، ويُريد الحِفاظ على تِلْكَ الأسرة أكثر من أي شَيء آخر .


الحياة في المقابل ، كَطَرفٍ ثالث بينهم ، لَيْست طيّبة على الدّوام ، لا يعني أبداً أن هذا هو أكثر ما تُريده أن تَصِل إليه بالفعل ، لذلك يزداد جُنون الزّوجة ، وتزداد الضُّغوط على الزّوج كي يُدخلها إلى مَصَحَّة .


هُناك عَجْز شديد هُنا ، المَحَبّة ليست كافية ، والاتّكاء على الكَتِفِ القَرِيب لا يَعْني بالضرورة الشُّعور بالحِمَاية ، إن كان هذا الكَتِفِ هو الآخر عاجزاً .


وفي الخِتام ، لَيسَ هُناك مَهْرَب مِن هذا الجنون ، ولكن هُنَاكَ مُحاولة ، صادقة أكثر من أيّ شيء آخر ، للمؤانسة .. ولو بالعَجْز ، وبالاحتواءِ .. وإن كان بِرَسْغٍ مُرْتَعِش ، وبالدّفء .. حتى لو باحْتِضانٍ لا يَحْمِي تماماً مِنَ السَّقِيع .



(4)


المؤانسة بالعَهْد


يُرْوَى ، ضِمْن أَعْظَم مَا جَاء في السّيرة ، أن الشَّهيد "أنس ابن النّضر" قَد التَفَتَ نَحْو "سَعد بن مُعاذ" ، في مُنْتَصَفِ "غَزْوة أُحُد" ، قائلاً له : "يَا سَعْد ، الجَنّةَ ورَبُّ النّضر ، إنّي لأجدُ ريحها مِن دونِ أحد"


ولَمْ تَكُنّ الجَنّة عن "أنس" ببَعِيدَة ، فَقَد عَاهَد الله على الشّهادة مُنذُ فاته يَوم "بَدر" ، ووَقَفَ بَين يَدِيّ النّبِيّ (عليه الصلاة والسّلام) قائلاً : "لئِن أَشْهَدَنِي الله قِتَال المُشْركِين ، لَيَريَنّ الله مَا أَصْنع"


فَلَمَّا جَاء يَومُ "أُحُد" ، وشَاعَ بَيْن المُسلمين أن رَسُول الله قَد قُتِل ، صَرَخَ فيهُم "أنس" : "إن كانَ قَد مَات ، فقوموا وقاتِلُوا عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْه" ، فَنَزَلَت: "ومَا مُحَمَّدّ إلاّ رَسُول قَدْ خَلَت مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُل" ، وانْطَلَق "أنس" يَشُقُّ صُفوفَ المُشْركين ، حتّى سَقَط شَهِيداً ، يَنَالُ الجنّة بَعْد أن وَجَد ريحِها، فَنَزَلَت "مِنَ الْمُؤمِنِينَ رِجالاً صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْه"


قِيلَ أنّ النّبي حين تَفَقّد شُهداء أُحد ، وَجَدَ "أنس" وبه بضعة وثمانون جرحاً ، ما بين ضربة بسَيْف ، وطَعْنة برمْح ، ورَمْية بِسَهْم


قِيلَ أنّ المُشركين قَدْ مَثَّلُوا به وغَابَت مَلامِحْه ، فَلَمْ يَعْرفه أحد إلا أُخته "الرَّبيع بنت النّضر" لعلامةٍ في إصبعه


قِيلَ أن سَعْد قَد بَكى بشدّة وهُوَ يقولُ للرّسول: "فما استطعتُ يا رَسول الله ما صَنَع"



(5)


المُؤانَسَة بالمَحَبّة


أُحِبُّ الكِتَابة عَمَّن أُحِبَّهُم ، الأشْخَاص يَتَغَيَّرُون ، مِنْ الحِكْمة تَصْدِيق أنّ الدُّنيا (قد) لا تُبقِي الأشياء على حالها ، مَهْما بَدَت صَلْبَة ، لَسْتُ حَكِيمَاً ، ولَكِنّ الكِتَابة تَحْفَظُ المَشَاعِر .. ولو بالذّكرى .


وللمَحَبَّةِ أنواع ، أَعْظَمَها .. هِيَ تِلكَ غَيْر المُسَبَّبَة .. غَيْر المَشْرُوطَة ، أنا الّذِي أُحِبُّك .. فأنا المَدِينُ لَكَ بِكُلّ شيء ، وهَذَا يَكْفِي


***


تَعْتَبِرُ البنت السَّمْراء البَدِيعة ، "العقل اللي يوْزِن بَلَد ، والقَلب الكبير اللي قد الفيل" ، أن أكثر الأوقات القريبة بيننا هيَ تِلْكَ التي سِرْنَا فيها ضمن أكثر الأماكن قُرباً لها ، أو تِلْكَ التي شَعَرَت فيها بالحِمَاية والأمان فقط لأنّنِي هُنا ، رغم أن كُل شيء آخر كان يُفَضِي إلى غَيْرِ ذَلك .


وبالنّسبةِ لي ، لم تَكُن لَحْظة واحدة ، أو بِضع لَحَظات ، رغم كَثْرتها ، فقط أُفكّر دوماً أنني لم أَكُنْ لأصير هذا الذي أنا عليه في تِلَك اللَّحظة ، وهو أفضل كثيراً مِمّا كُنته قبل عدّة أشهر ، لو لَمْ تَكُن هِيَ هُنا .


والحِكَاية هُنا في التَّفاصيل ، حَيْثُ تَكْمُن رَوح الله ، الَّذِي آلَف القُلوب كَيْفَمَا شاء ، ليُؤانِس عِباده بالمَحَبّة .



(6)


المؤانسة بالكِتَابة


هذا البُوست كَافِيَاً لِذَلِك !

هناك 12 تعليقًا:

غير معرف يقول...

المؤانسة بالإبداع
حيث يمكنك أن تقرأ نصا فيعيدك الي عالمك الرحب ، ويجبرك علي الإمساك بالقلم، جبر فيه اشتهاء
كامل امتناني

هناء

TheGrace website / موقع النعمة يقول...

النعمة هي إحسان مجاني, عطية بلا مقابل, هبة بلا استحقاق, فضل علينا من محبة الله خالقنا لنا . ببلاش !
النعمة TheGrace أيضا هي موقع على الانترنت, مجلة الكترونية مسيحية باللغة العربية, غير ربحية, تنويرية تروج للإيمان الصحيح بالمسيح والسلام والوئام لكل العرب,
لأن يقين الغفران والفرح والسلام والطمأنينة أفضل من التشويش والحيرة والحرب والضياع, المحبة أفضل من الضغينة والكراهية كما ان النور أفضل من الظلمة.
الى متى نبقى بخطايانا بلا يقين فريسة للشك والحيرة, للأنانية والضياع والحقد والثأر والإنتقام . لماذا لا نقبل فداء الرب لكل منا بمفرده, لنحظى بالغفران الشامل والكامل, نتغيّر ونعبر بالإيمان إلى حياة النصرة على الخطية في الروح والمودة, التسامح والرحمة في قرارة نفوسنا وعائلاتنا ومجتمعاتنا وأوطاننا. نخلق أو نولد من جديد ونتمتع بعلاقة مباشرة حميمة, حيّة ومتجددة مع الله خالقنا وفادينا, نفتح قلوبنا لربنا يسوع المسيح الذي أحبنا وبذل نفسه على الصليب لأجلنا وقام من بين الأموات, لينعم علينا بنعمة الخلاص والحياة الأبدية بالروح القدس, بمجرد التوبة الحقيقية والثقة بالسيد الرب المخلّص يسوع تلبية لدعوته حسب كلمته المقدسة الإنجيل

candy يقول...

المؤانسة بالنشر فى مدونة
والمؤانسة بالقراءة على مدونة بالصدفة

هذا يشرح موقفى

تحياتى :)

غير معرف يقول...

نفس عميق ابتسامة كبيرة تملأ الوجه ،، شعور بالبهجة.

Unknown يقول...

رائع جداً,,
السادسة الأبلغ (:
جميل جداً ما خطته أناملك
متابع لك من أيام كيسلوفسكي وكيتاروستامي.
شكراً حتى النهاية !! (:

Autumn leaf يقول...

المؤانسة بالأمل....
كم أنت عظيمة يا ست أم كلثوم
أعتقد أن الوقوع بغرام إمرأة مثل أم كلثوم أمر طبيعي جداً وباعتقادي تستحق أكثر من ذلك

غير معرف يقول...

ثقافة الهزيمة .. مغامرات البقرة الضاحكة

ما قصة لوسي أرتين؟
ـ لوسي أرتين كانت علي علاقة بالرئيس مبارك والعلاقة بدأت عن طريق زكريا عزمي وجمال عبدالعزيز، و كان فيه رجل أعمال مشهور بيحب يعرف مبارك علي فتيات من دول شرق أوروبا وحسين سالم كان متولي دول غرب أوروبا.

هل قصر الرئاسة كان يدار بهذه الطريقة؟
- القصر كان يدار بالسفالة والأسافين والنقار والقمار والنسوان وقلة الأدب ودا كل اللي كان شغلهم ومصلحة البلد بعدين.

هي سوزان كانت بتحس بالغلط اللي كان بيعمله الرئيس؟
- هي كانت مقهورة من اللي بتشوفه والنسوان داخلة طالعة قدامها واللي جايين من أوروبا الشرقية وأوروبا الغربية ومش قادرة تتكلم وبتبكي علي طول بسبب اللي بتشوفه وأحيانا كنت بأصبرها وأقولها مصر مافيهاش غير سيدة أولي واحدة، بس بعدها قرر الرئيس أن ينقل جلساته الخاصة في شرم الشيخ وبرج العرب.

ھل تزوج علیھا؟
-لا ھو مش محتاج یتجوز .. البركة في زكریا عزمي وجمال عبدالعزیز...

…باقى المقال ضمن مجموعة مقالات الهزيمة ( بقلم غريب المنسى ) بالرابط التالى

www.ouregypt.us

Unknown يقول...

ولَكِنّ التَّفسِير وَاضِحاً ، ليْسَ فَقَط لأنّها "أم كلثوم" ، ولكن لأننا نَمِيلُ إلى الأَمَلِ دَوْمَا ، لا نُريدُ فٌقدانه ، مهما بدا ما نُريدُه بعيداً ، نُغالط الحَقَائِق ، ونُبادل ما لا نُريد تَصْدِيقه ، لِيَزْدَاد الشّوق بالوَلَعْ

------

راق لي منك هذا ،،،

تحياتي و إعجابي لما سطر قلمك

منجي


مدونة الزمن الجميل يسعدها دعوتك إلى جديدها !



-

Unknown يقول...

فلتسمح لى candy
بأستعارة كلماتها
المؤانسة بالنشر فى مدونة
والمؤانسة بالقراءة على مدونة
بالصدفة!فهكذا جئت الى هنا

larva يقول...

مشكوووور

Tasneem Adel يقول...

وجدت مدونتك صدفة
و أجمل الأشياء تلك التى نعثر عليها صدفة
اقرأ ما كتبته أنت فى لحظة شعور بثقل الحياة على قلبى
رؤيتك للاشياء و المواقف خففت عنى

محمد المصري يقول...

وذَلِكَ هو عَيْن المؤانسة يا تَسْنِيم :)

تِسلمي جداً