من الصعب أن يتعامل المرء مع مخرج لم يمضِ على وجوده السينمائي أكثر من خمسة عشر عاماً باعتباره "أسطورة غير مكتملة" لن نستطيع التعامل معها بعد عدة عقود إلا على هذا الأساس ، ولكن الأمر يبدو أبسط مع تارنينو الذي خلق عدَّة أفلام وضعته في تلك المكانة المميزة – نقدياً وجماهيرياً - التي لا يضاهيه أحد فيها ، أفلام لم يميزها فقط تفوقها الفني والتقني ولكن الأهم هو تلك الروح التي تجمعهم .. روح خاصة بشغف صانع أفلام أصيل في أن يصنع شيء بقدر ما هو ممتع .. بقدر ما هو عميق .. بقدر ما هو مجنون ومبتكر ، وليسَ غريباً أن يبدو تارنتينو دائماً وكأنه فتى في العشرين يلهو بكاميرا حديثه أحضرها له والده ليصنع اقتباسات مميزة من أفلام سبق أن شاهدها .. حوارات لا هدف لها سوى كونها تحدث في الواقع فعلاً .. أحداث غريبة تحدث في أوقات أغرب لأن تلك – ببساطة – هي الحياة ، بشكل عام بدا تارنتينو ضليعاً وماهراً – بشكل لا يُضاهى – في فلسفة العبث .. أو منطق اللا منطق إن صح التعبير ..
لتلك الأسباب يبدو الاهتمام بكل مشروع جديد يدخله المجنون الأربعيني شيئاً طبيعياً ..
ومشروعه الجديد بدا في البداية كمساحة متسعة تسمح له بشيء طالما أحبه وهو "اللهو بالكاميرا" ، هذا المشروع هو اتفاق مع صديقه روبرت رودريجز في تقديم عمل يُسمى "جريندهاوس" عبارة عن فيلمين منفصلين مدموجين في فيلم واحد يقوما فيه بإحياء السينما التي شاهداها شباباً والتي ازدهرت في بداية السبعينات وأطلق عليها هذا الاسم .. سينما ضعيفة الإنتاج .. سيئة الإخراج .. متشابهة الأفكار .. تُشاهد في القاعات الرخيصة .. تعتمد بشكل أساسي على العنف والإثارة الجنسية دون أي منطق درامي ، ولكنها رغم ذلك شكَّلت جزءً من ذاكرة جيل كامل .. هو نفسه جيل هذين المخرجين ..
ولأن تارنتينو مبهور بكل ما له علاقة بالتجديد ومخالفة المألوف .. ولأننا كمحبين له أحببنا فيه ذلك .. انتظرنا عمله الجديد ، ضد الموت في نظري عمل جريندهاوس حقيقي .. مصنوع بشكل مُتقن حتى في جوانب رداءته – المقصودة تماماً - .. به روعة تصويرية وقدرة مميزة على صنع حوارات مثيرة تقوم أساساً على اللا شيء – حوارات عن طقطقة الظهر أو أشكال البرجر المختلفة أو الحيوانات القذرة أو حتى طبيعة المداعبة الجنسية التي تحدث بين مراهقة شابة وصديفها والتي تنهيها بطرده خارج المنزل ! - .. روح تانتينو موجودة في هذا العمل بالفعل – ربما أكثر حتى من كيل بيل - .. ولكن هناك مشكلة واحدة : أن تارنتينو لم يلهو بكاميراته هذه المرة قدرما قلَّد ثورته السينمائية التي حققها في منتصف التسعينات .. ولأن العبث إذا قُلَّد – حتى لو بإحكام – سيفقد خصوصيته .. لم أشعر بخصوصية تارنتينو هنا كما شعرتها في كافة أفلامه السابقة ..
في كافة أفلام تارنتينو السابقة هناك قصة بسيطة للغاية تدور حول الجريمة من زاوية أخرى غير التي اعتدنا عليها تقوم على أساس "لا منطق الجريمة" مع تركيز واضح على "منطق مرتكبيها" ، في أفلامه السابقة هناك "فلسفة" واضحة لكل مجرم فيما يفعله .. تبدو عبثية في أحيان كثيرة ولكنها تملك منطقها الخاص الذي لا تستطيع إلا أن تحترمه .. وفي المقابل هناك شغف بإظهار مدى لهو "الجريمة" وكأنها بطل مشارك في العمل "بلا منطقه الخاص" الذي يرفض تماماً منطق المجرمين ، إناس يموتون في أوقات غريبة وبشكل أغرب .. مخططات يتم كشفها .. فشل في تحقيق المهام المحددة سلفاً .. لأنه ببساطة لا يوجد في الجريمة أي منطق !
"ضد الموت" يمتلك بالفعل كل هذا ولكن دون العمق الذي امتلكته أفلام الرجل السابقة .. سواء إن كان هذا العمق على مستوى الصورة السينمائية أو حتى الأفكار الضاربة في اللهو ، هناك اكتفاء بجنون القصة وشغف إحياء سينما الجريندهاوس وإكسابها نكهة مميزة عن طريق حوارات تارنتونية النكهة ولكن دونَ اقتراب كافي من منطق المجرم – كذلك الذي يحمله جولز في بلب فيكشن مثلاً ! – .. أو حتى صنع ذلك بنكهة التجديد التي نراها في كيل بيل ، هناك مشاهد بدت وكأنها قص ولصق من أفلام الرجل السابقة – مشهد المطعم ومثيله في بداية كلاب المستودع .. مشهد السيارة ومثيله بنفس الزاوية التصويرية في بلب فيكشن .. بل ومشهد أبيض وأسود على نسق آخر في كيل بيل لم أفهم هدفه أو الداعي إليه ! – .. حتى الحوارات التي ميزته دائماً شعرتُ أنها لرجل يَدَّعي أنه تارنتينو ولكنه ليس هو بالفعل ، تارنتينو يُقلد تارنيتنو !
سيكون من الظلم اعتبار هذا العمل سيء بأي حال من الأحوال ، بالعكس هو عمل ممتع ومصنوع بشكل جيَّد للغاية مع تفوق معتاد من الرجل في أدواته السينمائية كافة ، ولكن لن يكون من الظلم أبداً – في نظري على الأقل – اعتباره أقل أفلام كوينتن تارنتينو .. سواء من ناحية الابتكار .. أو من ناحية العمق .. أو من ناحية الجودة ، فهو لم يخرج بكاميراته لاهياً هذه المرَّة كما اعتادَ دائماً ..