فلتسقط كل كلمات التهنئة التقليديَّة .. وتحيَّاتنا – غير المفهومة – لأبي الفصاد !
ولتسقط معها الفواصل التي يُفْتَرَض أن تُحيلُ عالمي عن عالمك !
"الحياة متخلقتش عشان نعيشها نمل"* وأشهد أنَّكَ – رغم عيوبك – لم تعشها أبداً كنملة ..
يهمني الآن وانتَ في الثمانين من عمرك أن أشرب معك كأساً واحدة في صحَّة جيوكندا المصريَّة** .. جيوكاندتي هذه المرَّة ، ولتدرك أنت بفطرتك وخبثك .. ملاكك الأيمن وشيطانك الأيسر .. كم هيَ جميلة ، هل شاهدت صورتها من قبل ؟ هل أريتكَ إيَّاها ، لا أعلم ولكنَّي قد أريك إياها في يومٍ ما .. هيَ حنُّونة نفسها يا يوسف .. حنونة الخمسينيَّة ، اذكر كل شيء وقسه .. ولكم تلاقت الأرواح ..
-
هذا صحيح ولكن الخوف يا يوسف يزيد ، يقتل المعاني ويضعف الإحساس ويكرمش شباب الروح
هل أدركت الآن بعد سن الثمانين وفي تجربتين منفصلتين خرجت من الأولى كهلاً ومازلت في الثانية تحبو أن الحياة أبسط كثيراً من جائزة نوبل ؟ وأن ما بقى وسيبقى هو عزف مُنفرد باقٍ ؟؟
هل أخبرت صاحب نوبل بما أرسلته إليه منذ شهور ؟؟
انظر في عيني بعينك الخضراء الجميلة واخبرني أنَّكَ فعلت !
منذ فترة لا أرى فيهما سوى السخرية من كل شيء .. حتَّى منَّي ! .. لماذا يا يوسف ؟؟ ، أعلم أنك تفرح لفرحي وترقص طرباً على أنغام الدنيا حينما تسمعني صوت ليلى مُراد ، فلماذا إذن لا تؤانسني في حزني ؟ لماذا تباغتني بتلك الابتسامة الساخرة التي تخبرني بتفاهة أسباب الحزن ؟! ، حتَّى وإن كانت تافهة – أو بدت لك كذلك - .. فهيَ منَّي يا يوسف ولا معنى هنا للسخرية ! ، أم أنَّك تهرب كعادتك من كل معنى للحزن أو شعوراً به ؟؟ أمنَّي تهرب أم من نفسك ؟؟
أدركتُ حزنك لأنَّ روحك لم تحط بمدوَّنتي كما هو مفترض واستبدلتها بروح عمَّك فؤاد ، وربما كنت وقحاً حينما أخبرتك في لحظة غضب إنه "بني آدم أكتر منَّك" ، لك الحق في أن تحزن ولك كذلك حق الاعتذار ، حتى وإن كانت حقيقة .. وحتى إن لامسني هوَ في ذلك الوقتِ أكثر ، فأنتَ تعرف في النهاية من أنت .. ومن أنا .. وما هو بيننا ، ألا تعرف ؟؟
-
لا أريد أن أثقل عليك بأسباب همَّي خصوصاً وأن اليوم لك .. ولكني بالفعل أحتاجك أحياناً ، العام يتداخل مع الخاص وأنت أذكى من أن تطرحُ هذا السؤال ! .. يمكنني أن أخبرك مثلاً بأن لي لي قد توقفت عن إضاءة نور الحقيقة وأنَّ المهزلة الأرضيَّة مازالت آخذة في الاتساعِ .. أو أنَّ سلطان مازال يتحكَّم بمقاليد الوجود في مساحة لا نهائيَّة من الصراع بين فرافير العالم وأسياده .. أو حتى بأن المخطَّطين مازالوا لم يدركوا حقيقة أفكارهم وعلاقتها بالناس .. وأنَّ القمر مازال مخنوقاً و"لحظات القمر" صارت قليلة ، يمكن أن أقول كل ذلك ولكني أعلم أنك تعلمه .. فلا داعي له إذن خصوصاً أنَّ اليوم عيد ميلادك !
قرأتُ السطور التي علَّمناها سويَّاً من "الجنس الثالث"*** عشرات المرَّات .. عبقريَّة نارا في كلماتها .. وعبقري أنتَ أيضاً ، ولكن كيف لم تدرك رغم ذلك أنك أنتَ نفسك لم تصبح جنساً ثالثاً ؟؟ ولم ترتقِ تماماً لبشري يفعل الصواب لأنه الصواب .. هكذا دون مقابل ؟؟ .. كيف لم تدرك ذلك وأنتَ تضعف وتتوه مبادئك في إحدى فتراتك بين كونك سيَّد ذاتك وبين كونك بهلوان في سيرك أكبر منك ؟ ، لا أقصد الهجوم ولا تصوب نظراتك الحادة نحوي بهذا الشكل .. فأنت تعرف أنني أيضاً لم أرتقِ لجنسٍ ثالثٍ .. ربما قاربت .. ربما أبتعد أحياناً ولكني لم أصبح بعد ، والحقيقة أن قلة يصبحون .. ثلاثة فقط من بين عشرات من عرفتهم صاروا جنساً ثالثاً ، هل تعتقد أنني سأصبح كذلك يوماً ؟؟ .. دعك من غضبك واخبرني ؟ .. أتمنَّى ، كم هيَ جميلة ابتسامتك الصافية !
لا أريد أن أتركك بعد أن أخذتنا الكلمات ناسين أن هذا عيد ميلادك ، الخامس عشر أم الثمانين ؟؟ .. هل هيَ حياة جديدة أم تكملة للأصل ؟؟ ، دعنا من هذا .. أعلم أنك لا تحب مثلي الحلويات كثيراً ، دعنا إذن نهيم سائرين فوق نيل القاهرة الساحر هذه الليلة مستمعين إلى صوت موريكوني ، دعنا نتحدَّث كثيراً عنَّي وعنك ..
دعني أزيحُ كل شيء جانباً تاركاً غضبك يصارع غضبي بعيداً وأحتضنك بشدة كما أرغب وأريد
دعني أخبرك بصدق "وحشني"
دعني أقولها لك – ولو مرَّة واحدة - : "كل سنة وانتَ موجود"
===
* من مسرحيَّة "المهزلة الأرضيَّة"
** "جيوكندا مصرية" .. إحدى قصص يوسف إدريس ، مجموعة أنا سلطان قانون الوجود
*** "الجنس الثالث" .. إحدى مسرحياته .. ويُقْصَد بالمصطلح "الإنسان" من نوع "البشر" .. الإنسان الأكثر رقيَّاً مما نراه .. الإنسان الحقيقي في صورته الفطريَّة