إلى أحمد رجب
ونصف عالمي الآخر الذي لم أكن سأعرفه لولاه
.
.
دائماً ما تكون لحظة مؤثرة جداً حين يخبر الشيخ حُسني ابنه يوسف "عارف وانتَ صغير.. كنت لما بتمشي بتدّب عَ الأرض.. دلوقتي انتَ مش عاوز تلمس الأرض..عاوز تطير.. عرفتك من خطاويك"
مؤخراً أحببت الحكاية التي يسردها سيد العجاتي على اللواء عاطف بعد تقديم استقالته من الداخلية في نهاية "موجة حارة"، عن الفئران التي تهرب من السفينة عند الغرق، "إنما أنا أحسن من الفيران.. أنا هطير".
ربما مرّ التعبير في الكثير من الأعمال الأخرى، سينمائية وأدبية، لذلك فوضعه في العنوان ليس بلاغة، هو فقط الحقيقة، قبل عدة سنوات لم يكن علاء يعرف كيف يطير.. الآن صار يعرف.
.
.
أذكر ذلك جيداً، يوليو 2009 كانت المرة الأولى التي يعلق فيها "رجب" في المدوَّنة هُنا، كانت فترة سيئة جداً، لديّ نظرية أن المرء يتألم بعنف من علاقة عاطفية واحدة في حياته، ولا يتألم بهذا القدر بعدها أبداً، وأنا كُنت صغيراً، وعبيطاً، وذلك الوقت كان مرّتي. أذكر بالوَيَم تعليق "المواطن رجب".
بعدها بوقتٍ قليل وجدت إضافة منه على فيس بوك، ثم بدأنا نتحدَّث، واتفقنا أن نتقابل، في قهوة ستراند باب اللوق، أذكر جيداً كوبايات السوبيا التي تناوبت على الترابيزة، وعن المرة التي طلب فيها "شاي" ووضع 5 معالق سُكّر، أذكر أننا تحدثنا عن السينما والكتابة والمدوّنات والكُتب.
أذكر –أكثر من أي شيء- أن "رجب" قال لي حينها أنه يريد أن يصبح "أحسن صحفي في مصر"، هززت رأسي دون أن أأخذ حلمه بجدية، لم يكن قد بدأ حينها الخطاوي، امتلك بعض المصداقية حين أضاف: "أظن إن اللي ممكن يمنعني من كده وينافسني فعلاً هما فلان وفلان.. بس فلان الأولاني نفسه قصير.. وفلان التاني لغته وطريقته في الكتابة صعبة رغم إنه موهوب جداً". ولكن حتى تلك الجدية والحسبة الدقيقة لم تكن كافية لأن أؤمن فيه من الجلسة الأولى، فقط هززت رأسي من جديد وقلت بأن "جيلنا" لديه الفرصة لأن يصنع أشياءً عظيمة.
بعدها بشهور قليلة انتقل "رجب" لقسم التحقيقات كما كان يحلم ويُخطط، وبعدها بعامين فقط.. أصبح ضمن أهم أسماء صحفيي التحقيقات في مصر.. لو لم يكن أهمهم..
.
جرت الحكاية قبل أن أعرف علاء، حكاها لي مرّة، وحكاها لي رجب مرّة أخرى.
على الأغلب كانت تلك هي مرة "ألمه"، لا يحق لي سرد التفاصيل حتى لو كُنت القاص في هذا "البوست"، ولكن مُختصر الأمر أنه لم يستطع السفر إلى حبيبة، لأن الجيش رفض إعطاءه إذن سفر، كان صغيراً ولا يعرف كل تلك التفاصيل البيروقراطية، حضَّر كل شيء، التذكرة والشنط وحياته هناك، وفي الأخير.. أُوْقِف في المَطار، عند البوابة الأخيرة، "غير مسموح لك بالسفر". ترك حَبيبته.. وعاش هُنا.
"رجب" يقول أن شيئاً تغير في "علاء" حينها، داوته السنين بطيئاً بطيئاً، ولكنه في النهاية ظل باباً أُغلق على حياة أخرى مُحتملة كان ليعيشها، وهو لم ينسَ.. بعدها بسنوات حين سَمَح فيس بوك بإضافة تواريخ قديمة هامة في حياتَك.. وضع علاء تاريخ 2008.. وكتب إلى جانبه "سافر إلى بيروت".
.
.
في نفسِ اليوم تَمشيت مع "رجب" من ستراند إلى عبدالمنعم رياض، جلسنا على الدكك قرب التمثال، تحدثنا عن "أصحابنا"، وكَرّ أسماء كثيرة، حربية.. علاء.. تركي.. أسامة.. طلال.. سمير، لم نكن حينها قد عرفنا مرصفاوي وخير، وأنا بدوري كنت أحكي له عن فضل.. شريف.. عبدالوهاب.. زنجي.. حسين، لَعبنا لُعبة المتشابه في أصدقائنا.. كأن نُوصل كل شخص بالشخص الذي يُشبهه.
لاحقاً بدأت الشلل تتعارف، قهوة البستان أخذت مننا الكثير من الأيام، البلح باللبن، وعلبة البيبسي الكاملة رغم أن الكوب ممتلئ، أذكر الآن جملة حربية حين عرفني أنا وفضل "ده إحنا بقينا بنحكي للناس إن عندنا أصحاب لما بنجوع عَ القهوة بيقوموا هما يجيبوا الأكل.. قبل كده كنا بنموت من الجوع".
بَيتُ سَيد في الهرم، مافيا، والأفلام، أذكر ذلك اليوم الذي تألق فيه سيد كثيراً في اللعب وحين سألت "هو ماله فايق النهاردة ليه؟" قال لي حربية "علياء هنا يا سيدي.. سيد بيطير".. قالها هكذا.. "سيد بيطير".
دخول مصطفى وخير للمجموعة، الراديو، وشقة السيدة زينب، وتسجيل الآيتيمات، وقفش "رجب وحربية" لأن أنا وفضل نختفي كثيراً، الرجل الذي قابل فضل على السلم يشتكي له مصطفى، قصيدة علاء.. "يبقى ليل الدنيا ضُهر.. والطهارة تبقى عُهر"، والمرة التي قتلنا فيها فأراً بذراع الترايبود فانكسر.
وبعدين الثورة.. أحه! لن أحكي شيئاً عن الثورة. ولكننا كنا سوياً.
.
.
لم يقترب علاء مني كثيراً عبر السنين، رغم أننا عملنا سوياً في "السينما.كوم"، ولكنه لم يكن صديقاً قريباً، بقدر ما كان "صديقاً" باقياً. الأهم من علاقتي به كان مسارات حياته هو نفسه، الأكثر عبثية بين كل من عرفتهم في حياتي.
يمكن التأريخ السريع للسنين عبر تعريفات أشغاله: عامل على عربية كبدة.. واحد من مؤسسي أهم تجربة "أونلاين راديو" في مصر.. صحفي في موقع سينمائي إلكتروني.. معد برنامج رمضاني.. صاحب ورشة في الحرفيين.. وأخيراً واحد من أهم المصورين الصحفيين.
كان يتنقل بخفة بين كل شيء، كل قطعة حادة، وبين كل قطعة وأخرى أوقات عصيبة، أذكر تحديداً "قطمة الضَّهر" بعد الفلوس التي خسرها في ورشة الحرفيين، كان يحكي لي أن الأمور ليست جيدة، وأنه مُكتئب، وكانت المرة الوحيدة التي يخبرني بأنه مكتئب، أخبرته –كما أقول دائماً- إن "كل شيء هيبقى كويس"، مصور تحت التدريب في المصري اليوم، بدأ التحسُّن فعلاً، بالخفة نفسها كان يضع روحه في كل "حدث" من المفترض أن يصوره.. ليتحول إلى واحد من أهم المصورين في القسم وفي الصحافة. علاء هو من عايش الناس في رابعة لأسابيع وأصيب يوم الفَضّ.. وعلاء هو من ذهب في السادسة صباحاً ليصور "ما تبقى لنا" من عشرين مُشجع ميّت في ممر استاد، علاء كان يتعامل بروحه وليس بأن تلك وظيفة يؤديها، فكانت المرة الوحيدة التي يستقر في مسار عمل.
وقتها عرف نازانين. ولم يكن بعد قد تعلم بعد كيف يطير.
.
.
"سنين حياتنا.. ذكرياتنا.. أمنياتنا كلها"، أنا لا أحب جملة في أغنية مثلما أحب تلك الجملة.
التراكم المتتالي لسنين حياتنا.. ذكرياتنا.. أمنياتنا كلها كان أمامي في تلك الليلة، ليلة 2 أغسطس 2015، منذ لقائي الأول برجب في "ستراند".. والتتابع المحكم للوقائع والزمن حتى وصولنا إلى هنا، نجلس في الجنينة العامة أمام بيت علاء في العبور، نصنع دائرة متكاملة، سيجارة حشيش مُلتفة بين أغلبنا، يقول مصطفى "أحه لو بعد كل ده تتمسك ومتعرفش تسافر عشان سجارة حشيش". نضحك جداً، لأنه أمر عبثي يليق تماماً بحياة علاء.
علاء الذي تعرّف على "نازانين" وكانا يتحدثان على "جوجل ترانسليت" في الأيام الأولى لأسباب "بابلية"، ثم أحبها وأحبته، سافرت وجاءت وسافرت وجاءت وسافرت، ثم جاء دوره للسفر كي يبدأ حياة أخرى، وطوال أسابيع قبل السفر كان كل شيء يتجه نحو نهاية كابوسية متكررة بباب مُغلق يمنعه من العبور، ولكن في اللحظة الأخيرة حدث شيء مُعجز، والآن يجلس بيننا، يتبقى له 8 ساعات فقط.. ويطير.
أثناء العودة الليلية من العبور، أخبر مصطفى وطارق أنني أفكر أحياناً في الفرص الثانية التي تمنحها لنا الدنيا لغلق الحكايات القديمة، كأن يحدث شيئاً مُشابه تماماً لشيءٍ سبق أن حدث، لنستطيع تغيير المصير، وأن في ذلك رَحمة كبرى. ما فُتِح في 2008 يُغلق الآن.
.
.
يقول لي "مصطفى".. "الواحد بس نفسه ميتغيَّرش، يعني واحنا حوالين بعض كده تحسّ أمان"، أخبره بأن الزَّمن مُوحش، والحياة صعبة، وأنه من المؤسف أن لا شيء مضمون، ولكننا نحاول يا مصطفى، نحاول كثيراً، السنين اللي فاتت لم تكن قليلة، وكوننا بقينا هُنا.. ذلك أمرٌ يستحق الاحتفاء.