09 سبتمبر 2013

مشروع ليلى.. نوح يُبحر بسفينته وحيداً


أو: "مثل سيرة ذاتية للتلات سنين اللي فاتوا في حياتي"



بين الإسطوانة الأولى التي صدرت لفريق «مشروع ليلى» عام 2010، وحملت اسم «مشروع ليلى»، وبين إسطوانتهم الأخيرة «رَقّصوك»، التي طُرِحَت قبل عدة أيام، فكرة واضحة ومُستمرة عن «الخلاص الفردي» من هلاك المُجتمع، كمثلِ فرارِ نَبي من قومِه، والنجاة بذاته في البريَّة، بعيداً عن القريةِ الظالمِ أهلها.

ولكن ما يبدو للوهلةِ الأولى من تشابه في النتيجة النهائية، شعور الوحشة والغربة بداخل الوَطَن، ومُحاولة النجاة بشكل فردي، يُظْهِر من وراءه، وبشكلٍ واضح، خلافاً جوهرياً في «المَزاج العام» الذي يَقف وراء الأغاني، ثم، وفي نُقطةٍ أعمق، يحمل «الخلاص» نفسه معنى متبايناً في المرتين.

في 2010، كانت «الطاقة» التي تحرك أفراد الفريق، وفي تِسع أغانٍ ضمها عملهم الأول، هي الغَضَب والضَّجَر، العالم وقتها، وعالمنا تحديداً، كان في دائرة مُغلقة، تدور وتدور دون انقطاع، «صرنا خمسين سنة من حارب
/الحرب نفسها.. ما مننسى»، هذا الشعور بالثبات وعدم الحَركة وَلد الضَّجَر: «كأني عارف المكان/وشكلي ملخبط بالزمان» وتبعه الغضب من كل شيء: «قرفنا الدَّيْن/تعبنا الذّل/شتقنا الجوع/شبعنا من الخرى»، ليكون الألبوم هو نتاج كل هذا، انقلاب لاذع على كل ما يتم التعامل معه، وفي أغلب الأحيان، باعتباره من المُسلَّمات، ما يَطال الحَرب والشوفينية والموسيقى والقِيَم السَّطحية للمجتمع، في مُقابل انتصار كامل للفرد، المواطن في مواجهة الوطن، والأقلية في مُقابل الجماعة، الحُب المِثلي في «شِم الياسمين» أو اختلاف الدّين والفوارق الاجتماعية في «فساتين» أو هجائية الفقر والقهر في «إم بمبليلح» وقصة العم «بو مسعود».

مع نهاية الألبوم، يبدو أحد المُقترحات الوَجيهة لـ«خلاصٍ فَردي» هو الهجرة، «جاي عَ بالي سفر
/لحالي أهاجر/غيّر لون شعري/زبط مكياجي/خبي باسبوري/وحدي»، لا مَعنى أن تنظر إلى السماء، إذ لا سماء هُناك. ولا يوجد هُنا، في 2010 وفي الألبوم الأول، شعور بالانتماء أو أي عاطفة تجاه الأرض أو الوَطَن، فقط الكثير من الغضب الذي يَدفع صاحبه للذهابِ بعيداً، خصوصاً مع الإيمان بأن شيئاً لن يتغيَّر، فقد «وعدتيني بشي ثورة/كيف نسيتي.. كيف نسيتيني؟»، ولم تَحدث أي ثورة، وفي 2010 لم يكن من المنتظر أن تحدث.

ولكن ما جَرى بعد ذلك كان أن بائعاً مُتجوُّلاً في إحدى الأحياء التونسية الفقيرة أشعل النَّار في نَفسه، وما ظُنّ في البداية أنه حادثة صَغيرة غير مُهمة، لن يُفرد لها أكثر من عمودٍ صغيرٍ للتندُّر بأحد الجرائد، كان الجَمرة التي بدأت الحِراك الشَّعبي الأهم في تاريخ المنطقة، من حيّ إلى حيّ، ومن ولايةٍ تونسية إلى أخرى، قبل أن تُصبح «الثورة» مُنتجاً صالحاً للتصدير الخارجي، من تونس إلى مصر، ومن مِصر إلى عدةٍ بلدانٍ بالتوازي، كل شيء وقتها صار مُحتملاً، ودائرة العالم، عالمنا، قد انفتحت أخيراً، وعن آخرها، ليصير كل شيء قابلاً للتغيُّر.

ما جَرى في ذلك الشتاء العربي، مَطلع 2011، دَفع بوصلة «المَزاج العام» للتغيُّر بشكلٍ جذري، إعادة تعارف واسعة النّطاق بين الناسِ وأوطانهم، وبين النَّاس وأنفسهم، ومن رَوحِ ذلك أنتج الفريق أغنية مُنفردة مُهداه إلى «جيلِ الثورة» تحمل اسم «غداً يومٌ أفضل»، ككلِ ما يُمكن أن يُتاح من أمل، قبل أن يتبعها باسطوانته الثانية «الحل الرومانسي».

لم يتخلَّ الفريق عن سُخريته اللاذعة، أو مُحاولة تَفكيك المُتَّفق عليه مُجتمعياً، ولكن في تِلكَ المرَّة، منتصف 2011، بدا أن هناك «انتماء» ما لوَطنٍ يُتيح احتمالات عدَّة، كأن «يتزوّج المرء ويقرأ أنجلز في سريرِ زوجته» مثلاً، الفريق هنا يَعود للأرضِ التي قرّر هُجرانها في نهاية ألبومه السابق، وبدا أن أعضاءه، في عودتهم تِلك، يَبتسمون بخجلٍ بأن ذلك «حل رومانسي بس مش غَلَط»، حَل جماعي يأخذ مكاناً عوضاً عن الخلاص الفردي، وبشكلٍ واضح «قوم نِحرق هـَ المَدينة
/ونعمّر واحدة أشرف/قوم ننسى هَـ الزمان/ونِحلم بزمن ألطف» كما قالوا، وردَّد الآلاف خلفهم.

السنتين الفارقتين بين إسطوانة «الحل رومانسي»، والعمل الأخير «رَقَّصُوك» كانوا مساحة مُتسعة لانهيار الأحلام العظيمة، كل الآمال التي عُقِدَت حول الثورات العربية، واليَقِين المُلِح بضرورة تغيير العالم، ارتدوا عَلْقَماً، كأن الدائرة التي انفرجت في 2011 عادَت، بصورةٍ خاطفة، لانغلاقها من جديد، ومن جديد صارت تدور وتدور.

قبل عامين كان الجميع مُوقناً من الانتصار، لذلك فـ «رَقَّصوك» هو خلاصة خَيْبَات الأمل المتتالية، وهُنا يبرز الفارق الأهم بينه وبين «مشروع ليلى» في 2010، العمل الأول كان هجائية حادة، العمل الأخير هو مرثيَّة حَزينة، الأول لم تُرَ فيه السماء، الأخير هو عن سماء كانت واضحة ثم حُجِبَت، الأول لرُوحٍ لم يمسسها الحُلم، الأخير عن رُوحٍ خذلتها كل الأحلام، وبينهم.. هناك حكاية مُكْتَمِلَة عن ثلاثِ سنوات من حياةِ «جيل الثورة»، في خَيطٍ مَوصول لا يَنْقَطِع.

في كافة أغنيات «رَقَّصوك» هناكَ شعور جارِف بالهَزيمة، الألبوم يبدو كتجربة مُكتملة، مُعبرة تماماً عن اللحظة الراهنة، كل أغنية فيه هي جزء مُتَّصل بالآخر، في أغنية «بَحر»،التي تَرد في الخَتام، يسرد الفريق حكاية غامضة عن الأخ الذي «رأي السّر
/كان هَيْبُوح» قبل أن يَموت «أخويّ جوا الموج عَم بينوح» في تواطئ كامل من الجميع «والصيادين غافلين، خامدين، نائمين»، هل من المُمكن مُراوغة صورة الثلاث سنوات الماضية و«الأخوة» الذين ذهبنا معهم إلى البحربـ«حلٍ رومانسي» ولكنه «دَبّغ الموج بدمهم»؟

لذلك فإن الصُّمود الذي يَظهر أحياناً في الألبوم، أغنية «ونعيد» مثالاً، يظهر «بلا يأس ولا أمل»، مُواجهة مُستمرَّة، دون نهاية، لا تحمل يقيناً بيومٍ أفضل أو سّذاجة حل رومانسي، هو صمود من لا خيار له، ويُحاول فقط أن يُذكر من حوله بأن هناك خيارات أخرى مُتاحة لهم: «فينا نُرفض ناكل بعض
/فينا نقاوم/فينا نحلق فينا نِطير»، مُحاولة حقيقية للارتكاز على القيم التي حرَّكت الثورة، والتذكير من جديد «إذا منحمل الشتا المصير رح ييجي رَبيع».

مُحاولة استمالة وتذكرة الأطراف المُحايدة في «ونعيد»، تُصبح هجاءً صاخباً في «رقَّصوك»، تبدو الأغنيَّة صورة مُعاصرة لبطلِ رواية «جورج أورويل» الشهيرة «1984»، حيثُ، في الرواية، يُقال له أثناء تعذيبه بواسطة الحزب الفاشي أن الأمر لا يتعلق باعترافاته أو حياته كلها، ولكن بضرورة أن «يكون جزءاً من الكُل»، أن تُكسر إرادته، ويُصبح مؤمناً فعلاً بمبادئ وأفكار الحزب، وبعدها لن يُصبح له قِيمة، وفي كل المُجتمعات المُختلة يبدو همَّاً أساسياً عند الحاكم أن يصير المحكومون، جميعاً، على صورةٍ واحدة، وهو ما يحدث، تماماً، في الأغنية: «طاردوك وهذبوك.. ركَّعوك ودربوك
/تتحرك زيهم» «بالإيقاعِ استعبدوك.. برمجوك وعلموك/كيف ترقص زيهم»، ولا تداري الأغنية وَطأة الخذلان: «كان فيه خيار وانتَ رقصت/كنا أحرار وانتَ رقصت».

مع أغنية «للوطن»، تصبح الصورة أوضح دون أي إضافات: «وبس تتجرأ بسؤال عن تدهور الأحوال
/بيسكتوك بشعارات عن كل المؤامرات»، الدائرة عادت مُكتملة، كأن شيئاً لم يحدث، «خونوك القطيع كل ما طالبت بتغيير الوطن/يأسوك حتى تبيع حرياتك لما يضيع الوطن»، وهم في النهاية يريدون سَحق هويتك الذاتية، كمثلِ بطل «1984»، أن تصير «جزءاً مشابهاً للكل»، أو كما يقولون للمُغني في آخر غنوته: «تعا رقصني شوي»، كي يعلموه «كيف يرقص زيهم».

ووسط مَرثيات مُختلفة أكثر خصوصية وفردية، في «عبده» و«ما تتركني هيك» و«على بابه» و«بيشوف»، لا تخلو أغنية واحدة من الشعور بالهزيمة والثُّقل، وحين يَصِل الألبوم إلى أغنيته «تاكسي»، يَطرح الفريق «حلاً جديداً»، يُعلي من قيمة «الخلاص الفردي» مرة أخرى، وإن كان بصورةٍ مُختلفة تماماً عما كان عليه الوضع قبل ثلاث سنوات.

وسط هذا الجنون اليومي الذي يَعيشُ فيه العالم، عالمنا، يبدو الثبات على المواقف الصحيحة، والتي تكون هي الخيارات الأصعب في أغلبِ الأحيان، هو الحل الوحيد، ذلك هو ما يَخرج به الفريق من مُجملِ التجربة والسنوات الثلاث، ويتجلَّى تماماً في «تاكسي»، بدءً من صعوبة كل ما يحدث حولنا: «الطريق صعب وطويل وبيمتحن الروح» «كبر جسمي وصغر قلبي ليتحمل» «طعم الخل اللي لقيته بدل العسل»، ومروراً باحتفاظ المرء بذاتيته دون أن «يرقص» وسط الجموع: «فيك تسوق ما تنساق بيرجعلك الخيار»، ولا يبدو هذا خياراً بطولياً أو صموداً ملحمياً، فهو، كما جاء في «ونعيد»، مُقاومة بلا يأس ولا أمل: «شئت أو أبيت العربية راح تِمشي
/ومشوارك ما إلو معنى مثل كل شيء».

وحين تأتي آخر كلمات الأغنية: «هتموت
/غصباً عنك راح بتموت»، لا يبدو ذكر تِلك الحقيقة إحباطاً، بقدر ما هو محاولة دفع أخير نحو «الخلاص الفردي»، خلاص لا يتحقق بالرحيل أو الهجرة كما طُرِح قبل ثلاث سنوات، ولكن فقط ألا ترقص مثل الجميع، تَحمل خياراتك مهما خالفت «القطيع»، كمثلِ نبي استخف به قومه.. فحملَ رسالته وسارَ وحيداً.



- نُشِر المَقال في «المَصري اليوم» يوم 8-9 بعنوان مُختلف