19 نوفمبر 2012

النور الذي يُحيي التماثيل


مُفتَتَح تأريخي:
في جُمعة «رد الاعتبار للشهداء»، يوم 2 ديسمبر الذي تلى معركة «محمد محمود»، كانت واحدة من أعظم تفاصيل الثورة: قام الثوَّار بوضعِ الشاش على أعيُنِ التماثيل المُتفرّقة الشوارِع، فبدا أن تاريخ مصر كاملاً يُشارك في تلك اللحظة.
.
.
.


(1)
مِسك الشَّيخ في يدِ الضَّرير



وَقتها، «عُمر مَكرم» كان شاهداً على ما يَحدث منذ الصباح، يَقِفُ هادئاً كما يَليقُ بشيخٍ عَجوز، ورغم الحُزن الشديد الذي شَعره حين اقتحمت قوات الأمن ساحَة الميدان، وضَربت المُصابين والمُعتصمين، إلا أنه حافظ على ثباته، مُسَبَحاً وداعياً لله في سِرّه.

ما دَفع الشَّيخ حَقاً للغضب هو مرور "أحمد حرارة" بجواره، مَحمولاً على الأكتاف، والناس حَوله يُحَوْقِلون ويتهامَسُون، عن ذلك الطبيب الذي فَقد عَينه في الثورة الأولى، يَوم 28 يناير، وظل مُصمماً على التوجُدِ في كُل الأحداث من ذَلِك الوقت، حتى أصيبَ منذ قليل في العينِ الأخرى، وأصبح، لا حَول الله، في خَطر ألا يَرى ثانيةً.

عين «حرارة» كانت الدليل الأول في نُوفمبر البعيد هذا على أن «ثورة ثانية» آتية، وأن المَعركة القادِمة لن تنتهي قريباً، وأنّ النُّور الذي صَار يَخجل من عيونِه، سيَجِدُ طَريقاً آخر إلى قلوبِ الناس، تماماً كقلبِ «عمر مَكرم» الواقف بالجوار، وقرر في تِلك اللحظة أن يترك مَكانه ويذهب بين الثوار.

تَرَجَّل لدقائق من أمامِ مَسجده ليذهب إلى شارع «محمد محمود» في النّاحيةِ الأخرى، دَخَلَ ثائِراً، يَشُمُّ الغاز ويَحْدِفُ الطُّوب ويَصيح مُحَفزاً بين الحين والآخر «الله أكبر»، فيزداد الناس أملاً وإيماناً، قبل أن يَؤمّ الشهداء في كُل موعد للصلاة، ويُذكرهم بأن الله الذي حَفِظَ إبراهيم من النَّار.. سيحفظ الثوار أيضاً.

لأيامٍ ظلَّ يَفعل ذَلك، يَدعو لحرارة في كُل وقت، ويُتابع أخباره من بعيد، ويحزن حَتى بياضِ العين حين يَعرف بأنه لَن يرى ثانيةً.

ولَم يَترك «عُمَر مَكرم» الشارع إلا حينَ علم أن حرارة نَزِل إلى الميدان، ليزيد من حماسِ ثواره ويقينهم، هَرْوَلَ الشَّيخ إلى الكَعْكَة، اقترب من الجَسَدِ ذو الوَجه المُبتسم، و«حرارة» لَم يَرَ.. ولكنه شَعر بمن يُقبّله فَوق رأسه، وحين حاوَل أن يُمسِك بيد المُقبّل، لَم يَشعر إلا بمسكٍ طَيّب الرَّائحة.
 



(2)
نَجِيب الذي تَرَكَ الكَنَبَة ونَزِل إلى الميدان



لم يَكُن «نجيب» مع الثورة حينَ قامِت، أو –في أفضلِ الأحوال- كان موقفه حيادياً ومتأملاً لما يحدث، كان مُكتفياً بما جاءَ في خِطابِ 1 فبراير، ويراه مثالياً، صَحيح أنه شَعِرَ بالفرح في لحظة التنحّي، ولكن ذلك كان لأنه يرى تِلك اللحظة، التاريخية دونَ شَك، وليسَ يقيناً بشأنِ الثورة ومسارها.

ظَلّ مُتابعاً لشهورٍ، يَشعر بالقلق أغلب الوَقت، يتذكر آفة النسيان في حارتنا، ويخافُ من الثورات يُنفذها الشُّجعان، ولكن الفائز في النهاية هم الدهاة والجبناء، يؤمن بالطَّرِف الثالث وبالأيادي الخفيّة، لذلك فهو لم يذهب إلى الميدان في أيّ مرة، وفضَّل أن يُتابع صامتاً، دون اتخاذ أي موقف.

وحده «رضا عبدالعزيز» هو الذي دَفَعَه للنزول، كان يَسمع لأيامٍ عن الاشتباكات الدائرة، عن العيونِ التي تّذهب، والشُّهداء الذين يَصعدون، عن الميدان.. وشارعه.. والحياة التي ارتدَّت فيهم، ويتابع الناس وهم يحتفلون –رغم خسائرهم- بما بدا أنها حرباً لحريّتهم، حتى عَرِفَ –عن طريق مقال «إبراهيم عبد المجيد» الذي داوَم على قراءته- بحكاية «رضا».

«رضا عبدالعزيز محمد زُهير» كما حَفِظَ اسمه، الشاب الصغير.. ضئيل الحَجم، الذي لا يزيد عمره عن 19 عاماً، الفقير، الذي يعيش في «عزبة الخصوص»، والذي أنهى وَردية عَمله يوم 20 نوفمبر واتجه نَحو الميدان، ليساهِم في نقلِ الجرحى، وأثناء إسعافه لمصابٍ.. اقتربت منه عربة أمن مَركزي.. وقامَ عَسكري بإطلاق الخرطوش على عَينيه، ليفقد «رضا» النّور كُله.

فَكَّر «نجيب»، بأن هؤلاء الفقراء هم مَن ظل يَكتب عَنهم، وأرادَ أن يُعرّف العالم بأجملَ ما فيهم، وأن شاباً صَغيراً عَرِفَ الإيمان لآخر ما يكون كان هو –ببساطة- «أجمل ما فيهم»، ما يَصلح –كما فَكَّر- لفصلٍ حادي عَشر في «الحرافيش» لو كان قادراً على الكتابة.

تَحرّك «نجيب» بهدوء من مَكانِه في ميدان «سفنكس»، مُستنداً على عَصاه، طَلِع إلى كُوبري «مايو»، ومَشى على كورنيش النّيل، حتى وَصَلَ إلى التحرير، وعلى الرغم من أنه لم يَدخل إلى شارع «محمد محمود» إلا أنه جَلَس في مُنتصف الميدان، بنظرٍ مُعلقٍ عَليه، وحينَ علِمَ أن «رضا» سافَرَ إلى ألمانيا لإجراء عَملية، قام بالدُّعاء كَثيراً، وقرر أن يَستقبله في المَطار حين يعود.



(3)
قلبُ «أم كلثوم» الذي لم يَحْتَمِل



حَيّها الهادئ في الزمالك لم يكن ينقل بدقة ما يحدث، فقط سَمعت بعض الكلمات المتناثرة على مدار أيام حول ما يحدث هناك في «محمد محمود»، وحول كونها اشتباكات ظنت أنها عادية.

لم تُدرك «أم كلثوم» ما يحدث إلا في يومِ تلك المسيرة التي مرّت أمامها في شارع أبو الفدا بعد أسبوع من بدء المعركة، كان المتظاهرون يضعون شاشاً على عينٍ من أعينهم، ويحملون صوراً كثيرة لرفاقٍ لهم أصيبوا في العينِ.

ابتسامة «مالك مصطفى» كانت أكبر مما يحتمل قلب أم كلثوم، صورته الشهيرة التي حملها رفاقه كانت قاسية، يسير قوياً بعد أن أصيب، مُبتسماً رغم كل تلك الدماء على كوفيّته، ويشعر النَّاظرين بالخَجَل والرغبة في أن نكون أقوى، فقط لأجلِ عينيه.

و«أم كلثوم»، التي لم تترك حَيها منذ سنين، نزلت بَين الناس، وَضعت هي الأخرى شاشاً على عينيها وثارت في المسيرة، وحين وصلت إلى الميدان.. ألقت السلام على نجيب الجالس في هدوء وهنأته على «نوبل» للمرة الأولى، ثم وقفت بجانب الدكتورة «رانيا فؤاد»، الشهيدة الوحيدة في الأحداث، لتصلي وراء «عمر مكرم» وبقية الشهداء.

وفي المساء، ورغم كل شيء يحدث، حافظ المصريون على عادتهم الوحيدة التي أبقوا عليها طوال عقود، وملأ صوتها سماء القاهرة من كل الراديوهات، وسَمعته مع السامعين.

الراديو كان يذيع «رق الحبيب»، والناس بدوا طَيّبين وبخير، نَسوا كل شيء إلا صوتها، وحين وصلت إلى الجزء الذي تقول فيه «حرمت عيني الليل من النوم لاجل النهار ما يطمني»، ظنّت أم كلثوم أنها سَمعتها «حرمت عيني من النور»، فابتسمت وأدمَعَت، وقررت أن تبيت بالميدان في تلك الليلة.


هناك 3 تعليقات:

Dr. Kafy يقول...

تحققت المعجزة و سكت عن الحق البشر فهل تتحقق معجزة أكبر و ينطق الحجر

Unknown يقول...

تقديري و اعجابي

websiteالزمن الجميل

un4web يقول...

مشكوووووووووووور
http://www.alsadiqa.com