11 سبتمبر 2012

ستة أمثال عن انتصارِ الرّوح: أو ما يتبقى من الناس بعد ذهاب المؤانسة


في البدء: ست حكايات عن المؤانسة


(1)
مَثَل الشيخ المَجبور





كَثيرون لَم يَفهموا، على الرَّغمِ من استفاضةِ الجرائد في الشَّرح، كَيفَ أن خِصام دام لثلاثةِ عَشر عاماً قد انتهى بخطبةٍ من قاضٍ وجملةٍ من شيخ؟

في البدء كان الشّيخ على حق، حين رأى أن له عائداً مادياً في الإسطوانات التي بيعَت لأغانٍ من ألحانه، وكانت الأنجح ربما خلال الأربعينات

والسّت، رأت أن خلافاً مادياً لا يجب أن يجعله يتجاوز العِشرة، أمانة العيش والمَلح على أصحابِهم، ويَسِر إلى "القصبجي" و"السنباطي" بالتوقُّف عن التَّلحين لها حتى تُزيد أجرهم، ثم يُصَرّح عنها للصّحفِ والجرائد، وكأن خمسة وعشرون عاماً من الرّفقة قد ذهبت سُدَىّ

كان كُل منهم بحاجة إلى تَطييبٍ للخاطِر، ولكن سنوات من العند والخِصام لم تُزد كل منهم إلا جموداً، وتبتعد الأيام القديمة –حرفياً- مع كل يوم يَمُر

كان زكريا يجلس على مقهاه المُفضَّل، مع "أهل الهوى"، يَرى صوتها وهو يملأ سماء القاهرة، وألحانه في المُقابل تَندثر وتُنسى بعيداً عنها، يَغْلُب من مُصالحة رَوحه، ثم يَكادُ يَنكسر حين يسمعها تغني كلمات "بيرم" من ألحانِ غيره، فيُهَدْهَدَ نفسه بالآهاتِ والأمل

والسّت في المُقابل لَم تَنْسَ، ولكن طِباعها العَنيدة والصَّلبة مَنعتها من جُبران خاطِره وهي في موقفٍ أقوى، خصوصاً حين التجأ إلى القضاء واتَّسَع الأمر أكثر، فأقسمت ألاَّ تَتَراجع، واكتفت بغناءِ الألحان القديمة في كُل مَرَّة افتقدت فيها لوجودِ الشيخ بالجوار

وكُل هذا قد انتهى في صُبَيْحَة يوم عادي من عام 1960، حين ذَهب كلاهما إلى المَحكمة، وأمام القاضي "عبد الغفار حسني" الذي ظَلّ يُحاول تَطْييب ما تركته الأيَّام لساعتين أو يَزيد، حتى نَطَقت السّت بكونها تُقدّر زكريا كثيراً وترتاح إليه، فردَّ الشَّيخ بأنها أعزّ الفنانات إلى نَفسه ولا يَقدر على مواصلة التقاضي مَعها، بَكَى وبَكِت، وبدا أن ثلاثة عَشر عاماً من الخِصام كانوا أهون كَثيراً من حُسْنِ الخاطِر المَجبور

خلال البقية الباقية من عام 60، اتفق الشَّيخ مع السّت على أن يُلحّن لها ثلاث أغنيّات، ولكن لَم يُمهله العُمر سوى لأن يسمع أغنية واحدة أخيرة لها منه.. وربما كان مَبلغ المَثَل في كَونها الأعظم: هو صحيح الهوى غلاّب؟

وكثيرون لم يعرفوا كيف انتهى خِصاماً طويلاً بخطبةٍ وجُملة، ولكن الإجابة كانت في السؤال.. الهوى غَلاّب



(2)
مَثَل الابن الضَّال



تِلك الليلة الباردة في باريس عام 2006 لابُد وأن لها دَخلاً في كُل ما جَرى بعد ذلك، "هنري" كان ينظر إلى "بيريز" الذي يخرج من الملعب بعد سبعة عشر دقيقة فقط من نهائي دوري الأبطال، يَشعر بثقل الخَيبة على وجهة بعد أن ظلوا لسنواتٍ يطاردوا هذا الحُلم مَعاً وفي النهاية لم يُمنح حتى بعض الوقت، الأسمر كان يُدرك أن تِلك المباراة لو لم تَنته بالفوز ستكون النهاية لأحد أعظم الأجيال في تاريخ كرة القدم

"فينجر" في المقابل لم يستطع النّظر في عيني "بيريز" مطلقاً بعد إخراجه من المباراة، ورغم يقينه الذاتي بأن ما فعله كان الصواب، لكن أحداً لن يفهم أن طرد حارس مرماك بعد ربع ساعة من النهائي الذي انتظرته لسنوات قد يدفعك لخيارات قاسية، ليست خيارات مُفضَّلة بأيّ حال

خَسر أرسنال النهائي في الدقائق الأخيرة، بيريز لم يَلعب بقميص النادي مرة أخرى، وهنري عَلم أن عِقد الفريق الأسطوري الذي فاز بالدوري دون خسارة قد بدأ في الانفراط، ذلك الذي حدث أسرع مما يظن

اعتزال "بيركامب"، وخروج "فييرا" ثم "بيريز" و"كامبل" و"لورين" في نفس الصيف، جَعل "هنري" يَمشي وحيداً في كُل مباراة، يَشعر بأنه يجب عليه أن يحمل ثُقل 10 لاعبين آخرين لأن الأنظار دائماً ستوجّه نَحوه، حِفنة من الأطفال يُنتظر أن يكون لهم أكثر من مُجرَّد قائد، مُلهم ومُخَلّص في كل مباراة، ما الذي يُمكن أن يبقيك هُنا؟ هل من الممكن أن تحقق شيئاً؟، يتوجه بهواجسه إلى "فينجر" بوضوح: "هل ستشتري أحداً هذا الصيف؟" ويُجيب المُعَلّم الفرنسي بأن "هؤلاء الفتية يَكبرون، يجب أن يشعر فلاميني وهليب وفابري وبيرسي بالثقة، بأن أرجلهم مُثبّتة في الأرض"، يُفاجئ هنري بأنه سيتخلى حتى عن "جيلبرتو" و"ليونبيرج" ليكتمل شعوره بالصحراء وَسط العُشب الأخضر، لماذا إذن لا يَقبل عَرضاً من برشلونة؟ ذلك الخِصم الآخر في نهائي باريس، "لقد أصبحت في الثلاثين، أريد على الأقل الحصول على دوري الأبطال"

رَحَل "هنري" إلى الجنوب، تاركاً وراءه إرثاً ضخماً لأعظم سنوات عُمره، ومن جَديد شعر بالغربة، كابنٍ ضال تلاحقه الوجوه المألوفة للوَطَن، صرخات الإنجليز الهيستيرية في المدرجات أو القسمات الحادة لوجه "فينجر" العجوز، كل ما لم يكن موجوداً في كتالونيا كان يُلاحقه، ورغم حصوله على دوري الأبطال بعد ذهابه بعامين إلا أن ذلك كان أقل من فوزِ مباراة واحدة هامة مع الأرسنال

في الموسم التالي أصبح "هنري" احتياطياً، كَهل في الثالثة والثلاثين لا يُعامل بالاحترام الكافي بعيداً عن الأهل، والأمور كانت تسوء مع أرسنال بالتوازي بفريقٍ لا ينضج، وظل هو –رغم العَتَب والغياب- رمز جماهيره الأول، ابن ضال فَضَّل الرحيل ولكنه في النهاية يَظَل ابناً، تُنتظر عَودته كالحلم، ويذبح له العِجل المُثْمِن إن جَاء، وهو ما حدث ليلة 31 مارس 2010، وفي الدقيقة 75 من مباراة الأرسنال وبرشلونة، الزيارة الأولى لهنري إلى ملعب الإمارات، حين نَزَلَ بديلاً، يشعر بالغربة من جديد وكأن كل الأرض قد صارت ضيّقة، لولا أن انتشلته تِلك التحيَّة العظيمة لستين ثانية أو يزيد، وقف فيها الجمهور كاملاً ليستقبله، مُحتفياً بأثرِ العِشرة مَهما تَهون، قوياً ومؤازراً ويصرخ باسمه حتى وإن كان غريباً، ليصبح الضيف أهلاً من جديد ويذوب الجليد في صَدره ببطءٍ

بعدها بعام عاد هنري إلى أرسنال لمدة شهرين أشبه بالحلم، وكأن الأيام عادت للوراء، وعند رحيله ثانيةً، إلى أمريكا هذه المرة، كان يعلم أن هناك وَطناً ينتظره مهما ابتعد، ولم يَعُد الضال ضالاً بعدها أبداً 



(3)
مَثل الصديق الخائن




"عندما يخونك صديقك يجب عليك أن تَرد، افعل ذلك"، تِلك هي الطريقة التي كان "ماكس" يرى عليها الأمور، ولكن ما استكانَ إليه "نودلز" في النهاية كان الخيار الوحيد الصائب الذي اتخذه طوال حياته.

في العمل الأخير للمخرج "سيرجيو ليوني"، والذي استغرق فيه 14 عاماً من عمره حتى يُخرجه إلى النور، يتجلَّى في جانبه الأعظم جزئية نادراً ما اكتملت سينمائياً بتلك الصورة، وهي الذكريات، أن تكون جزءً من التجربة ولستُ مشاهداً لها، أن تتورَّط تماماً في الماضي الذي يحمله الشخصيات على عاتقهم، وتتفهم –لدرجة المُعايشة- كل خياراتهم وردود أفعالهم.

في الفيلم، تَدور الأحداث في قرابة الخمسين عاماً، نُشاهدها في أربع ساعات على الشاشة، و"نُعايش" أجزاءها الأهم، ولذلك فما يحدث في الساعة الأولى من زمن الفيلم
/السنوات الأولى من حياة الشخصيات، يتحوَّل في نهاية الساعة الثالثة –بعد أن صاروا كهولاً- إلى جانبٍ أساسي من ذاكرتنا وذاكرتهم، نُصبح مُثقلين به معهم درجة اتخاذ نفس القرارات.

"ماكس" الذي أَوهم "نُودلز" بكونه مَيتاً وتركه ليضلّ بعيداً يَصف الأمور بدقة عن "عينيك المغرورقتين بالدموع لدرجة أنَّك لَم تَر أنني الشخص المحروق على جانب الطّريق"، ويُجمل ما حدث بذات الوضوح "أخذت منك كل شيء، حياتك كلها، ولم أترك لَك إلا 35 عاماً من الحزن لأنك قتلتني"، التساءل بعدها يأتي في مَحله "لما لا تُطلق النار؟".. لما لا تَنتقم عزيزي "نودلز"؟

الإجابة لا يمكن أن تكون مُقنعة إلا بمُعايشتها، تِلك اللحظة التي يتوجّب عليك اتخاذ قرارات تؤثر على بقيَّة حياتك، إما أن تَنصر رَوحك أو تُلطّخها، "نودلز" كان يَعلم في تلك اللحظة تحديداً ما يتوجَّب عليه فعله، أن يَحفظ ما تبقى له، وأن يحفظ نفسه قبل كل شيء، ربما لأن خيانة الأصدقاء لا تُرد بالانتقام، ولكن بمساحاتِ النَّدم التي تتركها لهم.

يسأله "ماكس": "هل هذه هي طريقتك في الانتقام؟"

رُبّما كان الأمر كذلك، ولكنها أيضاً الطريقة التي أرى بها الأمور



(4)
مَثل يوسف وأخوته


هُناك العديد من الأسباب التي تجعل سورةِ "يوسف" هي المُفضَّلة عند مُعظم المصريين، الجانب القصصي الواضح والممتد من مَطلع السورة حتى آخرها، الحكايات المُتداخلة عن خيانة الأخوة والأب الثَّكِل والابن الضال دون اختياره، البلاغة القرآنية في لحظةِ الإغواء وقتامة جدران السّجن المُغلق لبضع سنين، ثم انفراجه بَعد ضيق، بسبعِ سنوات عجاف وسبعَ سُنبلاتٍ خُضر، وصولاً لتأويل الرؤى وسجود الشَّمس والقمر وأحد عشر أخاً.

ورغم ذلك، فإن السبب الأهم من كل هذا هو كونها سورة مثالية للمؤانسة، بالحُزنِ قبل أي شيء، وبانتظار تأويل الرؤى حتى عند اليأس، هِي سورة الرَّبت على الكَتف والبِشر بالصَّبر الجميل.

ومن بينَ كُل لَحظات الشدّة المُتتالية على مدارِ القَصَص في السورة، تَبدو لَحظة افتراء الأخوة على "يوسف" بعد اجتماعهم هي اللَّحظة الأقسى، عشرون عاماً أو يزيد قد مَرّت، هُناكَ الرَّمي في البئر والحِرمان من الأبِ والعَشيرة والبقاءِ ضالاً كغريبٍ حتى إن عُرِف، ولكن شيئاً من هذا لم يَكُن كتلك اللحظة التي رَأوه فيها دون أن يعرفوه، وافتروا على سيرته كذباً وقالوا "فقد سَرَقَ له أخٌ من قبل"، وكأن هذا هو ما يأتِ به ذكره طوال ما خلى من سنين، وكأنَّهم قد صَدَّقوا حِكايتهم حتى صارَت حقيقة بالنسبة لَهُم، فكان الأمر عليه أسوأ من غيابةِ الجُبِّ

ويوسف أَسَرّ الحُزنِ في نفسه، لم يُبدهِ لهم، وَضعه بجانِب كُل تِلك الرؤى التي تَنتظر التأويل، مُوْقِناً أن الله قَريب

أربع عشرة آية أخرى.. كان الأخوة يَطلبون الغُفران لأنهم خاطئين، فاكتفى المَكلوم بالعَتَب "هل علمتم ما فعلتم بيوسف وأخيه؟"، قبل أن يَرْحَم في آيةٍ تالية هيَ الفَصل في انتصارِ الرَّوح .. يُخبرهم فيها ألاَّ تَثريب عَليكم اليوم، وما يَتبقى منكم هو قميصٌ يُلقى على وجه الأب الكَظيم حتى يَرتد بَصِيراً، ويأتون إليه جميعاً.. يَعقوب كالشَّمس والأم كالقَمر والأخوة أحدَ عَشر كَوكبا، فتكتمل الرؤية والحَمد، ولُطْف الرَّب ولو بَعد حين


(5)
مَثَل الخير لأنفسكم


كُل واحدٌ منكم لَديه نَبْتَة صَالِحة، يَرويها كل يوم كي يحميها من الدَّهر، فإن أتى له أخٌ يُدنّسها، أيذهب وراءه ليؤذيه؟، أم يتركه ويجلس بجوارِ النّبتة حتى يُطَهّرها؟، أقول لَكم: هكذا يكون الفرح في السماء، بروحٍ لا تَقبل الدَّنس، وتترك المُدَنِّس ليشقى في البرية

وفي هذا أيضاً مَثل "الرفقة الصَّالحة"، كُل منكم يَمشي سنيناً في وادي الظُّلمات، ألا يُحيط نَفسه بمن يَعرفون المَسِير ليرشدونه إن ضَلّ؟، إن هذا إلا خير تقدّموه لأنفسكم فتجدوه

***

بالمثلِ، كانَ الشيخ الذي جُبِرَ خاطره بكلمةٍ حَسَنة، والجمهور الذي أبقى الضال ابناً إن جاء، الصّديق الذي لم يخسر نفسه حتى عند الخيانة، والنَّبَي الذي غَفَر لأخوته فاكتمل التأويل، جَلَسوا بجوارِ النّبتة حتى تُطَهَّر، لتفرح السّماء بخيرٍ لأنفسهم


(6)
مَثل قوسين يُغلق أحدهما الآخر


في البدءِ تكون الحكاية، الحياة التي تُعاش، المَحَبَّة المُطلقة غير المشروطة، مِثالية البدايات التي لا يبدو وراءها نهاية، ثم شدّة التجارب التي تَصهر كل شيء لتُظْهِر حقيقته

والحكاية حين تَكْتَمِل تُصبح مَثَلاً، ما بقى فينا من الدَّهر، وما مَر بنا من تجربة، نَكبر بها ونَنْضُج، وإن لم تُدَنَّس أرواحنا فإننا سَنَصير أشخاصاً أفضل

لذلك فالحكايةِ والمَثَل هُم قَوسين، تبدأ الحياة أحدهم وتُغلقه بالآخر، ورغم الخسائر التي تذهب في المسافة بين القوسين، ولكن يَنبغي في النهاية أن نَفرح ونُسَر، كالرجل الذي كان أعمى يوماً ثم رأى، طالما بَقى لَنا وفينا كل ما خُفنا يوماً من فقدانه

الآن يُغْلَق القوس ويَكْتَمِل المَثَل.

هناك 3 تعليقات:

Unknown يقول...

دائمًا أنتظر ما تكتبه لأنك مدون متمكن ورائع جدًا..مدونتك هي الأفضل بين كل المدونات التي أتابعها وان كان ما تنشره قليلًا..
تعرفت على مدونتك بفضل كيسلوفسكي ومن وقتها أصبحت متابعًا دائمًا للمدونة وعرفت عددًا من أصدقائي على المدونة وأعجبوا بها جدًا..
شكرًا من لبنان

Mist يقول...

إلهي يجبر خاطرك كل مرة يا محمد يا مصري..قطعة من الروعة والأنس والجمال. ربنا يحفظك

Tasneem Adel يقول...

شكرا لأنك تدون :)