لأجلِ هِبة
.
.
.
أنا لَمَّا حَبّيتَك
خَطَر على بالي
تَقول الحِكاية
، أن النّاس اشتروا تذاكر الحفل الأخير لأم كلثوم ، والذي سيُقام في فبراير 1973 ،
وحينَ لم تَعُد قادرة على مُغالَبَة مَرضها ، والحِفاظ على صورتها ، "السّت"
، بكُلّ ما تَحْمَله الكلمة مِن كَمَالٍ ، قرّرت إلغاء الحَفل ، وقامت الشركة المُنَظّمة
بفتحِ شِبّاك التذاكر ، لإعادة ثَمَنها إلى الجمهور ...
(1)
واللّي هَوِيته
اليّوم دايم وصاله دوم
يَذْكُر عارفو
الشيخ "أبو العلا محمد" ، أنه كان شديد الخوف على أم كلثوم ، ويتوقّع لها
حياةً قصيرة .
كان هو واحداً
من أهم المُجددين في الموسيقى العربية مَطْلَع القرن الماضي ، من أوائِل من أدركوا
أهمية التوافق بين الكَلِمَة واللّحن ، وكانت هي الفتاة الريفية ، التي تمتلك صوتاً
عظيماً ، رآه الفرصة الحقيقيّة بالنسبةِ له كي يُعيد الغناء العربي إلى تُراثِه ، ويَبعث
الرّوح في الموسيقى الشرقيّة بعد قرون كادت فيها أن تَنْدَثِر .
والشّيخ كان
يؤمن أن الألحان يُنْشِئها الرّجال ، لكن يُجَوّدها النِساء ، وأم كلثوم كانت بالنسبةِ
له أعظم المُجَوّداتِ من نساءِ العَرَب ، ولذلك كانَ يَخافُ عليها ، ويَعتقد أنها لن
تُعَمّر في الحياةِ كثيراً ، لأنها ، كَما قال ، "تُغَنّي بدمها" ، تَحرق
نفسها في الغِناء ، بكل رَوْحها .
لم يرها وهي
، في مَرحلةٍ لاحقة ، تُغنّي بكلّ جُزء في جسدها ، يَدها ، وجهها ، حركتها ، تَضْحَك
وتَبكي مع كل كلمة تَنطقها ، لَم يَر ، ولكنه كان يعلم مُبكراً ما هِيَ عليه .
لم يَمر وقت
طويل قبل أن يُصاب الشيخ بالشلل في عُمرٍ صغير ، توقف عن الغناءِ والتلحين ، ومُتابعة
مشروعه مع أم كلثوم ، اكتفى فَقَط بأن أطلقها ، ساعدها في البداية ، وبقى معها لخمسِ
سنوات ، ثم تركها وهو يعلم إلى أين سَتَصِل .
والشّيخ مات
، وبَقت السّت .
(2)
وإيه يفيد الزّمن
مع اللي عاش في الخيال
ذاتَ يوم ، بعد
أربع سنوات من لقاءهم الأول ، جَلَسَ أحمد رامي وقرّر أن يَكْتُب لأم كلثوم كُل ما
يَحمله قلبه نحوها ، ويُحَاول أن يصل إلى نهايةٍ واضحة لكُلّ هَذا ، ولَم يَقُم من
على كُرسيه حتى انتهى ، وفي الصّباح ذهبَ إليها يَحْمِل كِتابَه ، وقرأ عَليها
"إن كُنت أسامح وآنسى الأسية" ، وحين وَصَل إلى "اوعى تجافيني يا نور
عينيّ أحسن بعادك يهون عليّ" ، أدمعت عيناها .
في وقتٍ قريب
من هذا الصباح ، نَظمَ القصبجي لَحناً مُدهشا للكلماتِ ، وأم كلثوم وَضَعت فيها جُزءً
من روحها ، لتغنّيها على المسرح أول مرة ، فيُرَى الحضور وقد مَسّت في كُل منهم ضالاً
يُلاحقه ، حُلماً لا يَكْتمل ولا يُترَك ، فأصبحت أنجح أغاني العشرينات كُلها ، وباعَت
، حين طُرحت على إسطوانات ، رُبع مليون نُسخة ، وكانت هي اللحظة التي أصبحت فيها
"السّت" على القِمّة التي بقت عليها للأبد .
وليست الحِكاية
هُنا عن نجاحِ الأغنية ، أو صعود أم كلثوم ، ولكنها عن رامي ، الشاعر الذي بقى مُحباً
لخمسين عاماً أو يَزيد ، والذي لم يَكُن سعيداً حين وَقف مُشاهداً نجاح "إن كُنت
أسامح" في المسرحِ أول مرة ، وهي تَمَسّ في الحضور وتراً موصول بجرحٍ عند كل منهم
، لأن ، ببساطة ، كانت هذه هي آلامه هو ، وجراحه هو .
وما قد يُرى
من تِلك الحِكاية ، هي الصورة الأسطورية عن "أم كلثوم" ، المُتْوَحَشّة ،
التي جَمَعت مُحبّيها حَولها ، تَمُص دَمُهم ، مجازاً ليس بعيداً عن الأسطورة ، من
أجل البقاءِ على القمّة .
ولكِن ، أم كلثوم
، التي ظَلّت لا تُغنّي أي قصيدة لشاعرٍ حَي لسنواتٍ طويلة ، حفاظاً فقط على شعور رامي
، أسمته "شاعرها وخلِيلُها" حين سُئِلَت عما يعنيه بالنسبة لها ، أم كلثوم
التي لَم تُحِبُّه ، ولكنها لم تُبدِ في أي وقت عدم احترام لمحبّته ، وتركت له حريّة
القُربِ والبُعد دوماً .
أم كلثوم لم
تَكُن مَصَّاصة دِمَاء ، وإلاّ لما بَقى كُرسي القصبجي فارغاً بعد وفاته ؟
(3)
هُوَ انتَ تِقدر
.. تِقدر تِسلاني ؟!
القصبجي أحب
أم كلثوم ، لأن الجميع يُحِبُّون أم كلثوم ! ، الجاذبيّة الأنثويّة الخاصة التي تَحملها
، الخَلِيط المُدْهِش بين الكِبرياء والدَّلَع ، ما يدفع الرّجال ، ليس فقط لأن يحبّونها
، ولكن أن يفضّلوا دوماً البقاءِ بقربها ، مهما بدا ذلك قاسياً وصعباً .
ولَم يَكُن القصبجي
يَعلم أن "رق الحَبيب" ، من أواخِر ما سيُلحنه لها، بعد عشرون عاماً من الرّفقة
كان فيها أعظم مُلحنيها ، ولكنه مع ذلك أخرج فيها كُل ما يعرفه عن الموسيقى ، وعن العِشقِ
، ثُمَ نَضَب ، أو رأت أم كلثوم ذلك ، وظَلّت على مدارِ سنوات تُشجّعه على مُحاولة
التّلحين لها ، ثُمّ ترى أن ألحانه صارت مُفتقدة للبصمة التي مَيّزته .
كانت أم كلثوم
لا تَطِيق الفَشَل ، ولذلك لم تَرِد المُخاطرة ، بقى بجانبها أستاذاً ومُعلماً ، كما
وَصفته دوماً ، مُديراً لفرقتها ، وعازف العود الوحيد ، سَيّد عازفي العود في القرنِ
كاملاً ، ولكنه لم يُلحّن لها منذ نهاية الأربعينات .
مات قصب في مارس
1966 ، قَبل أن يَحضر أعظم نَجاحات أم كلثوم ، في الحفلة التي تَلَت وفاته مباشرةً
، حينَ غنّت "الأطلال" لأولِ مرة ، كان كُرسيه فارغاً لا يَحمل سوى عوده
، والفرقة ظَلّت خالية من عازِف لأربعِ سنوات كاملة ، وحين سُئِلَت "السّت"
، أجابت بأن الكُرسي خالٍ من جسده فقط ، ولكنها تَشعر بروحه تُصاحبها دَوماً أثناء
الغناء على المسرح ، وتشعر بالرّهبةِ منه .
(4)
وإن مَرّ يوم
من غير لُقياك ...
بنهاية الأربعينات
، بدا وكأن رياض السُّنباطي قد تَسَلّم أم كلثوم يداً مِن يَدِ الأساتذة ، كانت قد
توقّفت عن الغِناء للقصبجي ، وجرى الخِصام الطويل بينها وبين الشّيخ زكريا على خلافٍ
مادِي ، لم يَبْقَ غير السّنباطي ، وكان كافياً .
طوال الخَمسينات
، لَم تُغَنّ أم كلثوم سوى سِت أغنيّات من غيرِ ألحانه ، والأبعد من ذَلِك ، أنه كان
يُدَقق في ألحانِ غيره ، لأن الوقت جَعلهما لا يَنْفَصلا ، لَم يَعُد يُلَحّن لغيرها
، دونَ حُب القصبجي الذي أفقده رَوحه ، ولم تَعُد تغني لغيره ، إلاّ فيما نَدَر .
مع بداية الستّينات
، أدركت أم كلثوم أن الوقت يَمُر ، وأن المِياة تَجري ، وأنها يَجِب ألاّ تَشِيخ ،
لذلك فقد قرّرت أن تبدأ مَرحلة جديدة ، تقترب بها أكثر من رَوحٍ شبابية ، مثّلها شِعراً
عبدالوهاب محمد ومرسي جميل عزيز وأحمد شفيق كامل ومأمون الشناوي ، ومثّلها لَحنا بليغ
حمدي .
والسّنباطي لَم
يَكُن راضياً عن كُل هذا ، وجرى الخِصام القصير بينهم مَطلع الستينات ،و الذي امتد
لعدة أشهر ، بعد رَفضه تَلحين أغنية ذات كلمات مُبتذلة كـ"حُب إيه" ، بل
ورفضه لغناءها لها لأن ذلك لَيس من قيمتها ، ومُهاجمته لِلَحنِ بَليغ ، الذي لا يَلِيق
بـ"السّت" .
صالحته أم كلثوم
لاحقاً ، وبقى بالقربِ ، ليس مُلحناً وحيداً ، ولكن ظل الأكثر كَثافة ، ورأيه هو الأهم
فيما تُغَنّيه ، رُبما لَم يَكُن راضياً عن "سيرة الحب" و"ألف ليلة
وليلة" ، بالتأكيد كان يغضب ، مثلي ، من "الحُب كله" و"حَكَم علينا
الهَوى" ، ولكنّه في المُقابل لَحّن لها "لسه فاكِر" و"ليلي ونهاري"
و"القلب يعشق كُل جميل" ، أعادَ تقديم "أراكَ عَصِيّ الدّمع" بلحنٍ
مُدْهش الجَمال ، وهو ، قبل كُل شيء ، قَدّم لها "الأطلال" .
وحِينَ رحلت
أم كلثوم ، لَم يُلَحّن السّنباطي بعدها ، عجوزاً كان يَخْجِل من البُكاء ، تَرَكَ
العود لستِ سنواتٍ بقت في حياته ، ومات بالرّبوِ عام 1981 ، قبل أن يَصِف كُل ما مَرّ
به لسبعة عقود أو يزيد بأن "قصة حياتي هي أم كلثوم" .
(5)
يورد على خاطري
كُل اللي بينّا اتقال
كان هُناك بيرم
والشّيخ زكريا ، ولاحقاً صار هُناكَ محمد عبد الوهاب ، مَرّ صلاح جاهين وكمال الطويل
ومحمد الموجي ، الشوقيّات التّسع ، وقصيدة ناجي العَظيمة ، وفي كل هذا كانت هِيَ ،
"السّت" وكَفَى .
.
.
.
......
والنّاس ، الذين اشتروا تذاكر حفلها الأخير ، لم يَرُد أي منهم تذكرته بعد إلغاءه ،
وبقى الجميع مُحافظاً على مَكانِ كُرسيه ، بانتظارِ عودة "السّت" لإقامة
حَفلها من جديد .