08 سبتمبر 2009

زمن اللعب راح يا بكر



لم يتغيّر كثيراً ، فقط صارَ أبطأ .. يَتحرّك أَقل .. شُعَيرات بيضاء قد ملأت رأسه ، أشياء كهذه يفرضها الزمن ، إلاّ أن الحريف قد ظلّ حريفاً

عَرفته في منتصف التمانينات تقريباً ، كُنت حينها في السابعة عشر من عمري بينما كان هو في قرابة الثلاثين ، أتذكر كم كُنت مبهوراً به حينَ شاهدته يلعب الكرة الشراب لأول مرّة في إحدى الدورات الرمضانية ، لم يمضِ الكثير من الوقت قبل أن أبدأ في الصراخ مع الصارخين "العب يا حرّيف" ، كُنا نطلق عليه بيننا كونه "خطيب" الكرة الشراب ، لم أصدق حينما جالسته بعدها بأيام لألاعبه "طاولة" على المقهى ، عرفني عليه جودة .. حارس مرمى فريقه في الدورة والذي يكبرني بعدّة سنوات ، قُلت له مباشرة "عايز ألعب معاك في الفرقة يا كابتن" .. رشف من شايه ثم نظر إلى رزق "إيه رأيك يا رزق ؟؟" .. أجابه " شكله لسه عضمة طَرِي ومينفعش معانا ، بس الرأي رأيك والفرقة فرقتك يا حَرّيف" .. ارتشف من شايه ثانيةً ونظر إليّ لثواني ورمى الزّهر "الواد مخلوف اتخبط خبطة جامدة في ماتش إمبارح ولازم يستريح ، أنا بقول نجربه مكان مخلوف الماتش الجاي"

لِحُسنِ الحظ أنني كُنت جيداً في لعب الطاولة أكثر حتى من إجادتي في لعب الكرة الشراب ، أخبرني بعدها أنه قد وافق لذلك "شوف ، أي حد بيلعب طاولة كويس لازم يبقى بيلعب كورة كويس"

كابتن فارس كان يلعب الكرة أفضل مما يلعب الطاولة ، بقامته القصيرة .. وكرشه الصغير .. وهيئته غير المتناسقة ، أذكر حين شاهدت مارادونا لأول مرة أثناء كاس عالم 86 أقسمت لكل من لم يعرفه أنه يشبه كابتن فارس ، نفس جسده الذي لا يوحي بلاعب كرة .. ونفس الحرفنة التي لم أرَ مثلها ، كابتن فارس حين يلعب .. كُانت تضج الساحة بالتّشجيع ، حتى هؤلاء من فوق الكباري .. الأتوبيسات تتوقف قبل المارة والمارة لا تتوقف حناجرهم عن الصراخ

حينَ لعبتُ بجانبه لأول مرة كنت أشعر وكأنني في الإستاد فعلاً ، كُنت مبهوراً وكثيراً ما نسيت أنني ألعب وتوقفتُ لمشاهدته ، انتهت المباراة يومها 4-1 وأحرز هو "هاتريك"، اقترب مني بعد نهايتها قائلاً "انتَ بتنهج بسرعة" ثُم وضع يده على كتفي "بس بتلعب بدماغك حلو ، جهّز نفسك عشان الماتش الجاي صعب" ، من يومها توطدت علاقتي معه

أذكر أن أول "فلوس" أكسبها في حياتي كانت بفضل الكابتن فارس ، يوم أن فُزنا بتلك الدورة الرمضانية ، أَعْطَى كُلًّ من لاعبي الفرقة ثلاث جنيهات رغم معارضة رزق ، حتى مخلوف الذي لم يلعب أغلب مباريات الدورة لم ينسه

كابتن فارس أحرف في الكرة مما هو في الطاولة ، وأحرف في الحياة بما هو أكثر حتى من حرفنته في الكرة

في تلك الفترة كنت لا أزال في "ثانوي صنايع" ، وبعد أن أصبحتُ لاعباً دائماً في فرقته لم أعد مهتماً بالدراسة أصلاً ، سَقَطتُ سنتها وطردني والدي ، لم أفكر حينها إلا في الكابتن فارس ، استضافني لأربعة أيام وفي اليوم الخامس تَغدينا معاً عند الحاتي ، بعد أن انتهينا قال لي "شوف ، أنا محبش يلعب معايا إلا الرجالة ، واللي انتَ بتعمله ده حركات عيال متنفعنيش ، مش هتنزل معايا ماتشات تاني لحد تسترجل في دراستك" ثم وهو لا يزال ينظر في عيني "ميّة يا رفاعي" ثم أكمل "متبقاش عبيط ، الكورة مش هتبقالك ، زمن اللعب هيروح ووقت الجد الدنيا مش هترحمك"

نجحتُ وقتها فقط من أجل أن أعود للعب معه ، وإن كنت تذكرته كثيراً بعدها بسنوات حينَ "راح" زمن اللعب

بعد ذلك بشهور سافر كابتن فارس ، لن أنسى أبداً مباراته الأخيرة في الساحة ، لن ينساها أيًّ ممن حضرها ، عرفنا بعد ذلك أنها كانت مباراة اعتزاله ، سافَر حتى دون وداع ولم أعلم ذلك إلا حين سألت ابنه بكر ، لم أعرف الكثير عنه بعد ذلك ، فقط خطاب شهري ظل يُرسله إلى الكابتن مورو الذي يُدين له بالكثير ، قيلَ أنه انتقل للسكن في المهندسين وأنه عَمَل في تهريب السيارات ، قيلَ أنه قُبِضَ عليه في إحدى المرات وسُجِن لثلاثِ سنوات ، سمعتُ أنه سافر للعمل في الخليج في بداية التسعينات ، إلا أنني لم أصل لشيء مؤكد ومع الوقت لم أعد أسأل ولم يعد أحد يعرف الإجابة ، خصوصاً بعد أن توفى الكابتن مورو ، بكيتُ كثيراً عند وفاة الكابتن مورو وبكيتُ أكثر عندما توقف فارس عن خطابه الشهري ، المؤكد الوحيد الذي أعرفه هو أن ساءت أموره وساءت أموري كذلك !

لم يمضِ على موت الكابتن مورو شهران .. بل أقل من شهرين .. مرّ عشرون عاماً ، أنهيتُ الدراسة ، تزوجت ، أنجبت ، أسمَيتُ ابني فارساً ، ظللت سنوات لا ألعب الكرة إلا في فترات طويلة متباعدة أحنُّ فيها لزمن اللعب

*****

بالأمس ، نمتُ لساعتين بعد الإفطار ، ونزلتُ بعدها إلى "مركز شباب الجزيرة" القريب من بيتي حيثُ تقام دورة رمضانية ، أشارك لدقائق قليلة ، لم أعد أقوى على الجري وصرت "أَنْهَج" أسرع كثيراً من ذي قبل ، لذلك أقضي أغلب الوقت في المُشَاهَدة

بالأمسِ شاهدتُ "كابتن فارس" يلعب من جديد وكأن العمر قد عاد للوراء ، ظللت لدقائق لا أصدق وأقترب لأنظر محاولاً التأكد .. "هوّ ولا مش هوّ .. هوّ ولا مش هوّ" ، استلم الكرة على صدره وشاطها من منتصف الملعب .. ضجت الساحة بالصراخ .. عُدت خمسة وعشرون عاماً للوراء حيثُ شاهدته لأول مرة صارخاً "العب يا حرّيف"

هناك تعليقان (2):

أحمد جمال يقول...

بص .. انا من زمان بجد .. مقرتش حاجة بالبساطة دي ، وبالروعة دي في نفس الوقت ..

mano يقول...

www.goonflash.com

the best flash games on out site