(1)
وأم كلثوم اللي ساكنة الراديوهات
قاعدة ويَّا الجدّة في الدور الفوقاني
كُل حواديتهم آهات
وأم كلثوم اللي ساكنة الراديوهات
قاعدة ويَّا الجدّة في الدور الفوقاني
كُل حواديتهم آهات
أمين حدَّاد
(2)
«أم كلثوم نفسها كانت تَكْبُر»! بدت الجملة غريبة، حين قالها المُلحّن محمد الموجي في حوارٍ بعد سنوات طويلة من وفاتها، كأن أحداً لا يُصدق بديهية أنها، «السّت»، كانت أيضاً تَهْرُم وتَعْجَز وتَشِيخ.
بدا «الموجي» بحاجة إلى حكاية كي يؤكد على حقيقة تبدو للوهلةِ الأولى بديهيَّة، قال أنه حين قدَّم معها أغنية «للصبرِ حدود» عام 1964 أرهقته كثيراً، كانت تقدم الكثير من الاقتراحات على الجُمَل اللَّحنية، العُلُو والهبوط، متى يَرِق صوتها ومتى يَشتَد، بعدها بسبعِ سنوات اجتمعا من جديد في أغنية «اسأل رُوحك»، وفي تلك المرَّة تركت له «ثومة» كل شيء، كانت أغنيته.. دون اقتراحات منها، لأن «الست»، حتى لو بدا ذلك غريباً على السامعين، كانت تكبُر.
و«الموجي»، رغم كل تلك السنوات، لم يَنسَ ما قالته له صَبيحة غناءها «للصبرِ حدود»، في الوصلة الثانية للحفلِ الذي غنّت في وصلته الأولى «انتَ عُمري»، حين حَدَّثها مُعاتباً، «كده تدبحيني انتِ وعبدالوهاب؟»، في إشارة إلى أن الناس حين انتهوا من ساعتين لـ«لقاءِ السحاب»، كما سُمّي، لم تكن قلوبهم تَحتمل المزيد، فجلسوا هامدين وبدت أغنيته غير ناجحة، والسيّدة ضَحِكَت من جملة المُلَحّن الشاب، ثم قالت له بودّ «اتلهي»، قبل أن تُكْمِل بحكمة «يا مُحمد، بكرة تشوف الأيام هتعمل إيه».
والمُلحّن الشاب.. عَاشَ بعدها كثيراً كثيراً، أمسَى كهلاً، يَرى عَمَل الأيام، وأغنيته تكبر مع الناس، أكثر حتى من لحنِه الآخر الذي خرج دون تدخُّلات من «الست»، وبقدرِ «انتَ عُمري» التي ظن يوماً أنه ذُبح بسببها.
سنوات طويلة بعد ذلك، مات «الموجي»، وتغيَّر العالم عن سابقه، مُستخدم على موقع «يوتيوب» يَقوم برفعِ مَقطع «أكتر من مرَّة عاتبتك» من أغنية «للصبر حدود»، مقطع مثالي عن مُساءلة الفُرص والذكريات، الآهات تعلو وتَهبط، الصوت يَشتد ويرق، غضب على الضَّال الذي ذهب رغم كل الاحتمالات، وتأسي للنّفس التي ظَلَّت تَرجو وتَنتظر، «أكتر من مرَّة عاتبتك وادّيتلك وَقت تفكَّر / كان قلبي كبير بيسامحك إنما كان غَدرك أكبر»، المُعلّق الأول على المقطع في «يوتيوب» كَتَب، بافتتانٍ، «يا عُمري عليكِ يا ثُومة، يا عُمري عليكِ يا ثُومة»، ويكررها، كأنه يعنيها تماماً، هذا الافتتان يَجعل معنى للحكاياتِ كُلها، قطع بازل صَغيرة: إضافات أم كلثوم في اللحن، ليلة «الموجي» الصعبة ظاناً أنه ذُبِح، ونبوءتها له في الصباح عما سـ«تَعْمله الأيام»، يتداخل كل شيء ويجتمع في الافتتانِ العابر: «يا عُمري عليكِ يا ثُومة».
(3)
في تسجيلاتِ حفلاتِ أم كلثوم، تَكون تلك الافتتانات مَسموعة، صَيحات الجمهور وآهاته في كل مرة، ومع الوقت، مع مرات السماعِ الكثيرة، تصبح تلك الأصوات جزءً من رُوحِ الأغنية، كأنَّها وُضِعَت مع اللَّحن ذاته.
سيّدة «حيَّرت قلبي» الجالسة بين الجمهور تبدو مثالية للتعببر عن ذلك، كانت الأغنية هي اللقاء الأول بين أم كلثوم ورياض السنباطي بعد شهور من الزَّعل والفرقة مطلع الستينات، كان يدقق جداً في «مشروعها الفني» ويجادلها في كلمات أغانيها، رأى أنه ليس من مقامها أن تقول «حب إيه اللي انتَ جاي تقول عليه»، فغضبت، وحين غنتها.. غَضب، وظل الخصام حتى عادوا بـ«حيّرت قلبي معاك».
هناك عدد من أغاني أم كلثوم تبدو «حيَّة» جداً، يتغيَّر «تون» الكلمات واللَّحنِ في آخر الأغنية عما كان عليه في أولها، بهدوءِ ورَويَّة، تبعاً لتبدلِ الحالِ، «حيرت قلبي» واحدة من تلك الأغنياتِ، تَمر «ثومة» أثناء غناءها بأموادِ مُتعاقبة، غَضب من مَحبوبٍ لا يَلحظ حُبها، ثم مُسامحة، ثم عتب فخِصام، ثم خوف، ثم تقبُّل، متلازمة الذهابِ وراء الضَّال وأسئلة المُحِب من طرفٍ واحد، وأخيراً، في المقطع الختامي للأغنية تبدو وكأنها وصلت لحلٍّ «هفضل أحبّك من غير ما أقولّك.../... لحد قلبَك ما يوم يدلّك»، في تلك اللحظة تَكون أم كلثوم مَبسوطة! يبدو ذلك واضحاً على صوتها، لذلك فهي تكرر الجملة التالية لخمسِ مرات متتالية كأنها تستعذب جمال خيالها: «ولما يرحمني قلبك ويبان لعيني هواك/وتنادي عَ اللي انشغل بك وروحي تسمع نِداك».. في كل مَرَّة تَنْطِق فرحاً، والجمهور بالتالي كان فرحاناً أيضاً، لا يُريدها أن تنتهي، وأن تكرر الجملة أبداً.
في تلك اللحظة تحديداً، تقوم سيدة «حيرت قلبي» بـ«زغروطة» طويلة، كأنها تعبر عن انبساطِها بفرحِ أم كلثوم في الأغنية، أو –ربما- برجاءها الذاتي، تُكرر الزغروطة ثانيةً، ثم مرةً ثالثة، يَصيح الناس، للسيّدة فوق المَسرح وسيّدة أسفله، حينها فقط تتحول «بدّي أشكيلك.../وبدّي أحكيلك...» على مدارِ الأغنية إلى «أرضى أشكيلك من نار حُبّي/وابقى أحكيلك عَ اللي في قلبي» ولأن الأغنية «حيَّة» فإن جملة «أصور لك ضنى روحي/وعزة نفسي منعاني» تصبح في الختامِ تساؤلاً راضياً «وأقول يا قلبي ليه تخبّي؟/وليه يا نفسي منعاني؟» ، ومع مرَّات طويلة من السَّمَع.. صارت «الزغروطة» جزءً من «حيَّرت قلبي»، كأن لحن «السُّنباطي» وفَرح أم كلثوم لم يَكن ليكتملِ بدونها.
بالمثلِ، تماماً، يبدو محمد عبدالوهاب وكأنه تَرك مساحة فارغة مخصوصة في لحنِ أغنية «فكروني» لأجلِ هذا الرجل الذي صَفَّق له الجمهور!
«فكّروني» واحدة من أكثر الأغاني حُريَّة في تاريخ أم كلثوم، بعد بداية حذرة وتقليدية في «انتَ عمري» و«أمل حياتي»، كان «عبدالوهاب» من الجبروت أن يَجعل «الطبلة» في عزفٍ مُنفرد في أغنية للسِتّ، وكان من العظمة بأن يَمُرّ بذلك ويجعله جميلاً، وفي بقية الأغنية بدت تلك الحريَّة المُتطرفة واضحة، لذلك كان مُلائماً أن يحدث ما حَدَث هُنا تحديداً.
هدوء شديد في اللَّحن، قبل أن تندفع الآلات كُلّها بصخبٍ مَجنون، يَقطعه صوت أم كلثوم –في واحدةٍ من مراحل تجلياته الكبرى- بـ«آآهه» طَويلة مُنَغَّمَة، «آآآآآه يا حَبيبي»، ولم يكن من الممكن أن يمر ما حدث مرور الكرام، رجُل في القاعة يخبرها بصوتٍ واضح «مِ الأول والله مِ الأول»، قبل أن يتدخل آخر موضحاً «يا حبيبي يا ثومة والنَّبي» «يا حبيبي يا ثومة والله» قبل أن تتناثر الكلمات على شفتيه بدافِع الافتتان: «يا حبيبي يا ثومة.. أوي والله». النَّاس صَفَّقوا، والسيّدة ابتسمت، طلبت من فرقتها أن تبدأ «من أول يا حبيبي».
ولا يوجد أي منطق في أن هذا الرجل لم يَكُن جزءً أصيلاً من لحنِ الأغنية، على الأقل لم يَعُد من الممكن أن تكتمل «فكَّروني» بدونه.
(4)
يوسف شاهين نَفسه كان أحد المُفتتنين الكُبار، كمثلِ رجل «يا حبيبي يا ثومة والنَّبي».. أو حتى يزيد!
صحيح أن «جو» لم يكن يريد أن يخرج فيلماً عن «العذراء»، ولذلك فشل مشروع فيلمه عن أم كلثوم، ولكنه أبقى الافتتان باقياً حتى أتى الوقت المُناسب وعَبَّر عنه.
بدأت الحكاية حين اقترحت الرئاسة المصرية إخراج فيلماً ضخماً عن حياة أم كلثوم، بفضلِ مجهودها الاستثنائي بعد حرب 1967 ربما، أو فقط لأنها أم كلثوم! سعد الدين وهبة اقترح اسم «شاهين» ليخرج الفيلم، والذي كان عِرْقُه المَصري يَهيم بها، وافق سريعاً، قابلوا السّت، واتفقوا على بعضِ التفاصيل ليبدأ «وهبة» في الكتابة، ويبدأ «شاهين» تصوير مادة تسجيلية ستستخدم في الفيلم لـ«ثومة» في سنّها الحالي.
«أم كلثوم نفسها كانت تَكْبُر»! بدت الجملة غريبة، حين قالها المُلحّن محمد الموجي في حوارٍ بعد سنوات طويلة من وفاتها، كأن أحداً لا يُصدق بديهية أنها، «السّت»، كانت أيضاً تَهْرُم وتَعْجَز وتَشِيخ.
بدا «الموجي» بحاجة إلى حكاية كي يؤكد على حقيقة تبدو للوهلةِ الأولى بديهيَّة، قال أنه حين قدَّم معها أغنية «للصبرِ حدود» عام 1964 أرهقته كثيراً، كانت تقدم الكثير من الاقتراحات على الجُمَل اللَّحنية، العُلُو والهبوط، متى يَرِق صوتها ومتى يَشتَد، بعدها بسبعِ سنوات اجتمعا من جديد في أغنية «اسأل رُوحك»، وفي تلك المرَّة تركت له «ثومة» كل شيء، كانت أغنيته.. دون اقتراحات منها، لأن «الست»، حتى لو بدا ذلك غريباً على السامعين، كانت تكبُر.
و«الموجي»، رغم كل تلك السنوات، لم يَنسَ ما قالته له صَبيحة غناءها «للصبرِ حدود»، في الوصلة الثانية للحفلِ الذي غنّت في وصلته الأولى «انتَ عُمري»، حين حَدَّثها مُعاتباً، «كده تدبحيني انتِ وعبدالوهاب؟»، في إشارة إلى أن الناس حين انتهوا من ساعتين لـ«لقاءِ السحاب»، كما سُمّي، لم تكن قلوبهم تَحتمل المزيد، فجلسوا هامدين وبدت أغنيته غير ناجحة، والسيّدة ضَحِكَت من جملة المُلَحّن الشاب، ثم قالت له بودّ «اتلهي»، قبل أن تُكْمِل بحكمة «يا مُحمد، بكرة تشوف الأيام هتعمل إيه».
والمُلحّن الشاب.. عَاشَ بعدها كثيراً كثيراً، أمسَى كهلاً، يَرى عَمَل الأيام، وأغنيته تكبر مع الناس، أكثر حتى من لحنِه الآخر الذي خرج دون تدخُّلات من «الست»، وبقدرِ «انتَ عُمري» التي ظن يوماً أنه ذُبح بسببها.
سنوات طويلة بعد ذلك، مات «الموجي»، وتغيَّر العالم عن سابقه، مُستخدم على موقع «يوتيوب» يَقوم برفعِ مَقطع «أكتر من مرَّة عاتبتك» من أغنية «للصبر حدود»، مقطع مثالي عن مُساءلة الفُرص والذكريات، الآهات تعلو وتَهبط، الصوت يَشتد ويرق، غضب على الضَّال الذي ذهب رغم كل الاحتمالات، وتأسي للنّفس التي ظَلَّت تَرجو وتَنتظر، «أكتر من مرَّة عاتبتك وادّيتلك وَقت تفكَّر / كان قلبي كبير بيسامحك إنما كان غَدرك أكبر»، المُعلّق الأول على المقطع في «يوتيوب» كَتَب، بافتتانٍ، «يا عُمري عليكِ يا ثُومة، يا عُمري عليكِ يا ثُومة»، ويكررها، كأنه يعنيها تماماً، هذا الافتتان يَجعل معنى للحكاياتِ كُلها، قطع بازل صَغيرة: إضافات أم كلثوم في اللحن، ليلة «الموجي» الصعبة ظاناً أنه ذُبِح، ونبوءتها له في الصباح عما سـ«تَعْمله الأيام»، يتداخل كل شيء ويجتمع في الافتتانِ العابر: «يا عُمري عليكِ يا ثُومة».
(3)
في تسجيلاتِ حفلاتِ أم كلثوم، تَكون تلك الافتتانات مَسموعة، صَيحات الجمهور وآهاته في كل مرة، ومع الوقت، مع مرات السماعِ الكثيرة، تصبح تلك الأصوات جزءً من رُوحِ الأغنية، كأنَّها وُضِعَت مع اللَّحن ذاته.
سيّدة «حيَّرت قلبي» الجالسة بين الجمهور تبدو مثالية للتعببر عن ذلك، كانت الأغنية هي اللقاء الأول بين أم كلثوم ورياض السنباطي بعد شهور من الزَّعل والفرقة مطلع الستينات، كان يدقق جداً في «مشروعها الفني» ويجادلها في كلمات أغانيها، رأى أنه ليس من مقامها أن تقول «حب إيه اللي انتَ جاي تقول عليه»، فغضبت، وحين غنتها.. غَضب، وظل الخصام حتى عادوا بـ«حيّرت قلبي معاك».
هناك عدد من أغاني أم كلثوم تبدو «حيَّة» جداً، يتغيَّر «تون» الكلمات واللَّحنِ في آخر الأغنية عما كان عليه في أولها، بهدوءِ ورَويَّة، تبعاً لتبدلِ الحالِ، «حيرت قلبي» واحدة من تلك الأغنياتِ، تَمر «ثومة» أثناء غناءها بأموادِ مُتعاقبة، غَضب من مَحبوبٍ لا يَلحظ حُبها، ثم مُسامحة، ثم عتب فخِصام، ثم خوف، ثم تقبُّل، متلازمة الذهابِ وراء الضَّال وأسئلة المُحِب من طرفٍ واحد، وأخيراً، في المقطع الختامي للأغنية تبدو وكأنها وصلت لحلٍّ «هفضل أحبّك من غير ما أقولّك.../... لحد قلبَك ما يوم يدلّك»، في تلك اللحظة تَكون أم كلثوم مَبسوطة! يبدو ذلك واضحاً على صوتها، لذلك فهي تكرر الجملة التالية لخمسِ مرات متتالية كأنها تستعذب جمال خيالها: «ولما يرحمني قلبك ويبان لعيني هواك/وتنادي عَ اللي انشغل بك وروحي تسمع نِداك».. في كل مَرَّة تَنْطِق فرحاً، والجمهور بالتالي كان فرحاناً أيضاً، لا يُريدها أن تنتهي، وأن تكرر الجملة أبداً.
في تلك اللحظة تحديداً، تقوم سيدة «حيرت قلبي» بـ«زغروطة» طويلة، كأنها تعبر عن انبساطِها بفرحِ أم كلثوم في الأغنية، أو –ربما- برجاءها الذاتي، تُكرر الزغروطة ثانيةً، ثم مرةً ثالثة، يَصيح الناس، للسيّدة فوق المَسرح وسيّدة أسفله، حينها فقط تتحول «بدّي أشكيلك.../وبدّي أحكيلك...» على مدارِ الأغنية إلى «أرضى أشكيلك من نار حُبّي/وابقى أحكيلك عَ اللي في قلبي» ولأن الأغنية «حيَّة» فإن جملة «أصور لك ضنى روحي/وعزة نفسي منعاني» تصبح في الختامِ تساؤلاً راضياً «وأقول يا قلبي ليه تخبّي؟/وليه يا نفسي منعاني؟» ، ومع مرَّات طويلة من السَّمَع.. صارت «الزغروطة» جزءً من «حيَّرت قلبي»، كأن لحن «السُّنباطي» وفَرح أم كلثوم لم يَكن ليكتملِ بدونها.
بالمثلِ، تماماً، يبدو محمد عبدالوهاب وكأنه تَرك مساحة فارغة مخصوصة في لحنِ أغنية «فكروني» لأجلِ هذا الرجل الذي صَفَّق له الجمهور!
«فكّروني» واحدة من أكثر الأغاني حُريَّة في تاريخ أم كلثوم، بعد بداية حذرة وتقليدية في «انتَ عمري» و«أمل حياتي»، كان «عبدالوهاب» من الجبروت أن يَجعل «الطبلة» في عزفٍ مُنفرد في أغنية للسِتّ، وكان من العظمة بأن يَمُرّ بذلك ويجعله جميلاً، وفي بقية الأغنية بدت تلك الحريَّة المُتطرفة واضحة، لذلك كان مُلائماً أن يحدث ما حَدَث هُنا تحديداً.
هدوء شديد في اللَّحن، قبل أن تندفع الآلات كُلّها بصخبٍ مَجنون، يَقطعه صوت أم كلثوم –في واحدةٍ من مراحل تجلياته الكبرى- بـ«آآهه» طَويلة مُنَغَّمَة، «آآآآآه يا حَبيبي»، ولم يكن من الممكن أن يمر ما حدث مرور الكرام، رجُل في القاعة يخبرها بصوتٍ واضح «مِ الأول والله مِ الأول»، قبل أن يتدخل آخر موضحاً «يا حبيبي يا ثومة والنَّبي» «يا حبيبي يا ثومة والله» قبل أن تتناثر الكلمات على شفتيه بدافِع الافتتان: «يا حبيبي يا ثومة.. أوي والله». النَّاس صَفَّقوا، والسيّدة ابتسمت، طلبت من فرقتها أن تبدأ «من أول يا حبيبي».
ولا يوجد أي منطق في أن هذا الرجل لم يَكُن جزءً أصيلاً من لحنِ الأغنية، على الأقل لم يَعُد من الممكن أن تكتمل «فكَّروني» بدونه.
(4)
يوسف شاهين نَفسه كان أحد المُفتتنين الكُبار، كمثلِ رجل «يا حبيبي يا ثومة والنَّبي».. أو حتى يزيد!
صحيح أن «جو» لم يكن يريد أن يخرج فيلماً عن «العذراء»، ولذلك فشل مشروع فيلمه عن أم كلثوم، ولكنه أبقى الافتتان باقياً حتى أتى الوقت المُناسب وعَبَّر عنه.
بدأت الحكاية حين اقترحت الرئاسة المصرية إخراج فيلماً ضخماً عن حياة أم كلثوم، بفضلِ مجهودها الاستثنائي بعد حرب 1967 ربما، أو فقط لأنها أم كلثوم! سعد الدين وهبة اقترح اسم «شاهين» ليخرج الفيلم، والذي كان عِرْقُه المَصري يَهيم بها، وافق سريعاً، قابلوا السّت، واتفقوا على بعضِ التفاصيل ليبدأ «وهبة» في الكتابة، ويبدأ «شاهين» تصوير مادة تسجيلية ستستخدم في الفيلم لـ«ثومة» في سنّها الحالي.
الخلافات بدأت سريعاً، أم
كلثوم اشترطت عدم الاقتراب من حياتها الشخصية، و«شاهين» رد بخفَّة «أنا مش جاي
أخرج فيلم عن العذرا»، فانتهى كل شيء!
ما تبقى فقط كانت الحفلة الملونة الوحيدة المصوَّرة لأم كلثوم، في مدينة طنطا، مايو 1969، وبعد سنوات.. 12 عاماً كاملة، حين بدأ في إخراج فيلمه «حدوتة مصرية»، شعر أن جزءً من تلك المادة يُمكن أن يَخْرج، وكان المشهد، بالكامِل، عن الافتتانِ، عن نظرات المُخرج الشاب للسيّدة التي تُمثل رمز بلاده الأهم لخمسةِ عقودٍ كاملة.
نور الشريف، بطل الفيلم، حَكى أن هذا المشهد صور كثيراً، لم يكن يستطيع أن يعبر عن نظرات الشغف و«الافتتان» التي يريدها «شاهين»، وفي النهاية.. جَلَس «جو» على المقعد وراءه، طلب من مساعديه تشغيل أم كلثوم، ثم بدأ يتحدث بجانِب أذنه عن شعوره بها، عن الحفلِ والمنديل والأغنية، عن صيحات الناس، وعن المدينة الساهِرة حول راديو صغير، عن ليلة الخميس الأول من كُلّ شهر، وعن الصوتِ الذي كان ثم ظل وبقى هو الموسيقى الرسمية للحياة القاهرية كل يوم، عن هزَّةِ الكون حين ماتت، وعن رَجفة القلوب في وداعها، تحدَّث «شاهين» عن كل شيء، وحينها رأى النظرة التي أرادها في عينِ «نور»، أشار لمساعديه بتشغيل الكاميرا، فاكتمل المَشهد.
ما تبقى فقط كانت الحفلة الملونة الوحيدة المصوَّرة لأم كلثوم، في مدينة طنطا، مايو 1969، وبعد سنوات.. 12 عاماً كاملة، حين بدأ في إخراج فيلمه «حدوتة مصرية»، شعر أن جزءً من تلك المادة يُمكن أن يَخْرج، وكان المشهد، بالكامِل، عن الافتتانِ، عن نظرات المُخرج الشاب للسيّدة التي تُمثل رمز بلاده الأهم لخمسةِ عقودٍ كاملة.
نور الشريف، بطل الفيلم، حَكى أن هذا المشهد صور كثيراً، لم يكن يستطيع أن يعبر عن نظرات الشغف و«الافتتان» التي يريدها «شاهين»، وفي النهاية.. جَلَس «جو» على المقعد وراءه، طلب من مساعديه تشغيل أم كلثوم، ثم بدأ يتحدث بجانِب أذنه عن شعوره بها، عن الحفلِ والمنديل والأغنية، عن صيحات الناس، وعن المدينة الساهِرة حول راديو صغير، عن ليلة الخميس الأول من كُلّ شهر، وعن الصوتِ الذي كان ثم ظل وبقى هو الموسيقى الرسمية للحياة القاهرية كل يوم، عن هزَّةِ الكون حين ماتت، وعن رَجفة القلوب في وداعها، تحدَّث «شاهين» عن كل شيء، وحينها رأى النظرة التي أرادها في عينِ «نور»، أشار لمساعديه بتشغيل الكاميرا، فاكتمل المَشهد.
(5)
والأغاني بتنتهي ومبتنتهيش
أم كلثوم اللي قالت للهوا «خليني أعيش»
ردّت الشيش في الإمام...