(1)
المؤانسة بالأمل
لَم يَكُنّ "القصبجي" يَعْلَم أن "رَقّ الحَبيب" هيَ آخر ما سَيُلَحّنه في حياته ، ولكنّه مع ذلك أخرج فيها كُل ما يَعْرفه عن المُوسيقى وعَنْ العِشْق
كان في "أم كُلثوم" شيئاً جاذباً ، يَدْفع الرّجال ، ليس فَقَط لأن يحبُّونها ، ولكن بأن يُفَضّلوا دَوماً البقاء بقُربها ، مهما بدا ذلك قاسِيَاً وصَعْبَا
أحبّ القصبجي أم كلثوم ، وارتضى بأن يتحوّل "الأستاذ" و"الموسيقار" العظيم الذي تَتَلْمَذّ على يَده الجَمِيع ، والذي كان ليُصْبح - ربما - أعظم مُوسيقي مَصْري في القرنِ كاملاً ، إلى عازِف عُود وَرَاء "السّت" .
ولَكِنّ التَّفسِير وَاضِحاً ، ليْسَ فَقَط لأنّها "أم كلثوم" ، ولكن لأننا نَمِيلُ إلى الأَمَلِ دَوْمَا ، لا نُريدُ فٌقدانه ، مهما بدا ما نُريدُه بعيداً ، نُغالط الحَقَائِق ، ونُبادل ما لا نُريد تَصْدِيقه ، لِيَزْدَاد الشّوق بالوَلَعْ .
لهَذَا ، اعْتَقَد "القصبجي" دوماً أن تَضْحيّاته تٌُقرّبه ممّا يُريد ، واستعد بأن يُضَحّي بكُلّ شيء آخر ، بما في ذلك موْهِبتُه الفذَّة ، مُقابل أن يُبقى على "أملِ" أن تُصْبِح "أم كلثوم" حَبِيبته ، مَثَلَهُ كَمَن تَرْك تسعة وتسعون خروفاً في البريّة ، وذَهَبَ لأجلِ الضَّال ، وماتَ دُونَ أن يَجْده .
ولكن ، مع ذلك ، لَمْ يَكُن "القصبجي" لِيَعْش يوماً بغَيْرِ الأمل ، وَبقُربِ الضَّال .
(2)
المؤانسة بالعَتَب
ظَلَّت العلاقة بين "حسن شحاتة" ، أحد رموز نادي الزّمالك على مرّ تاريخه ، وجمهور الفريق ، في أحسنِ حال ، منذُ بدأ اللّعب في النادي في بداية السبعينات ، وحتى يناير 2010 ، كانوا دائماً هم السَّنَد له ، وتحديداً في السّنوات الأخيرة ، بعد أن أصبح المدير الفني للمنتخب الوطني ، تطالُه الكثير من سهام النَّقد ، أكثرها حقاً وبعضها بهتاناً ، ولكن في كُلّ الأحوال ظلَّت جماهير الزّمالك بجانبه ، ظالماً كان أو مظلوماً .
ولذلك فإن تِلْكَ الجماهير ، لم تَقْبل من أحد رموزها ما اعتبرته "خيانة" ، ولا شيء أقل من ذلك ، حين استدعى شحاتة لاعب الفريق "أحمد حسام ميدو" لمعسكر إعداد بطولة كأس أمم 2010 ، وقرر الاستغناء عنه بشكلٍ مُهِين ، كردّ على واقعة الصدام الشهيرة بينهم في مباراة السنغال عام 2006 .
رَحَل "مِيدو" عن النَّادي ، وحَمَّلت جماهير الفريق "شِحَاتة" مسئولية هذا الرحيل ، خَسِرَ الزّمالِك الدّوري ، فَشَلَ "مِيدو" في الاحْتِراف ، خَسِرَ الزّمالِك الدّوري من جديد ، وعادَ "مِيدو" بعد أن لَفَظَتْهُ أوروبا ، بَقَت الكثير من الأشياء على حالها ، عدا شيء واحد قد تغيّر : أصبح شحاتة بالنسبة لجماهير الزمالك ابناً ضالاً لَمْ يَتُبّ .
وانحدر كُل شيء مع "شحاتة" بالتوازي ، ساءت أموره مثلما ساءت أمور ناديه: تأييده المُطْلَق للنظام السابق أثناء ثورة يناير ، اضطراب علاقته بإتحاد الكرة بعد سقوط النّظام ، الأداء الباهت الذي يقدُّمه منتخب مصر في الفترة الأخيرة ، وأخيراً : خروج المنتخب من تفصيات الكأس التي حمل لقبها لثلاث مرّات على التوالي ، والنّتيجة: عَزْل شِحاتة نفسه عن كرسي المدير الفنّي الذي ظلَّ عليه لمدّة سِت سنوات .
وما يَهِمَّني ، هُوَ مَا حَدَثَ بعد كُل هذا ، جرافيتي رُسِمَ لشِحاتة على جُدران النَّادي في "ميت عُقبة" ، يَحْمِل صُورته شاباً ، لَمْ يَفْقَد براءته وحُبُّه غير المشروط لناديه ، وتَحْتَهُ كُتِبَت كَلِمَات حَمَلَت روح الشّعر حتى وإن فقدت إيقاعه :
"إحنا أهْلَك / إحنا رجَّالتَك أمانَك / إحنا وَقت الشدّة سَنَدك / إحنا زادَك / يا حَسَن .. لو كُنْت ناسِي / إحنا ناسَك"
عَتَب مِثَالي بالنِسْبَة لابنٍ ضال: مَنْطُوق مِن مَوقِف قُوة ، مؤانِس في أكثر أوقات الضَّعف ، يؤكد - في كُلْ شَطْر - على صِفات ذكورية : "أهلك/رجّالتَك/سَنَدك/زادَك" ، ولا يَنْسَى عَتَب المُنَادي - بحَسْمٍ - عقب مناداته "لو كُنت ناسي" فَيُذَكْره : "إحنا ناسَك"
(3)
المؤانسة بالعَجْز
لَم يَكُن المخرج الأمريكي "جون كازافيتس" يَصْنَع أفلاماً ، كان يُحاول في الحقيقة أن يَعِيشُها ، نَجَح حيناً وفشل أحياناً ، وظلَّت أعماله مقرونة قبل أي شيء بـ"التَّجربة"
في فيلمه الأهم "امرأة تحت التأثير" يَسْرد الرَّجُل قصة امرأة تُدْرك جُنُونِها ، تُحاول التّغلُّب عَلَيه لأجل أسرتها ، تَعْرف أن لديها زوج وأبناء ، تَعْلَم أنها خَطَر عليهم ، تُقاوم الجُنُون من أجل البقاء مَعَهُم .
الزَّوج في المُقابل يَعْرِف هُوَ الآخر بجنونِ زوجته ، وهُو يحبها ، يحبُّها كثيراً ، ويُريد الحِفاظ على تِلْكَ الأسرة أكثر من أي شَيء آخر .
الحياة في المقابل ، كَطَرفٍ ثالث بينهم ، لَيْست طيّبة على الدّوام ، لا يعني أبداً أن هذا هو أكثر ما تُريده أن تَصِل إليه بالفعل ، لذلك يزداد جُنون الزّوجة ، وتزداد الضُّغوط على الزّوج كي يُدخلها إلى مَصَحَّة .
هُناك عَجْز شديد هُنا ، المَحَبّة ليست كافية ، والاتّكاء على الكَتِفِ القَرِيب لا يَعْني بالضرورة الشُّعور بالحِمَاية ، إن كان هذا الكَتِفِ هو الآخر عاجزاً .
وفي الخِتام ، لَيسَ هُناك مَهْرَب مِن هذا الجنون ، ولكن هُنَاكَ مُحاولة ، صادقة أكثر من أيّ شيء آخر ، للمؤانسة .. ولو بالعَجْز ، وبالاحتواءِ .. وإن كان بِرَسْغٍ مُرْتَعِش ، وبالدّفء .. حتى لو باحْتِضانٍ لا يَحْمِي تماماً مِنَ السَّقِيع .
(4)
المؤانسة بالعَهْد
يُرْوَى ، ضِمْن أَعْظَم مَا جَاء في السّيرة ، أن الشَّهيد "أنس ابن النّضر" قَد التَفَتَ نَحْو "سَعد بن مُعاذ" ، في مُنْتَصَفِ "غَزْوة أُحُد" ، قائلاً له : "يَا سَعْد ، الجَنّةَ ورَبُّ النّضر ، إنّي لأجدُ ريحها مِن دونِ أحد"
ولَمْ تَكُنّ الجَنّة عن "أنس" ببَعِيدَة ، فَقَد عَاهَد الله على الشّهادة مُنذُ فاته يَوم "بَدر" ، ووَقَفَ بَين يَدِيّ النّبِيّ (عليه الصلاة والسّلام) قائلاً : "لئِن أَشْهَدَنِي الله قِتَال المُشْركِين ، لَيَريَنّ الله مَا أَصْنع"
فَلَمَّا جَاء يَومُ "أُحُد" ، وشَاعَ بَيْن المُسلمين أن رَسُول الله قَد قُتِل ، صَرَخَ فيهُم "أنس" : "إن كانَ قَد مَات ، فقوموا وقاتِلُوا عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْه" ، فَنَزَلَت: "ومَا مُحَمَّدّ إلاّ رَسُول قَدْ خَلَت مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُل" ، وانْطَلَق "أنس" يَشُقُّ صُفوفَ المُشْركين ، حتّى سَقَط شَهِيداً ، يَنَالُ الجنّة بَعْد أن وَجَد ريحِها، فَنَزَلَت "مِنَ الْمُؤمِنِينَ رِجالاً صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْه"
قِيلَ أنّ النّبي حين تَفَقّد شُهداء أُحد ، وَجَدَ "أنس" وبه بضعة وثمانون جرحاً ، ما بين ضربة بسَيْف ، وطَعْنة برمْح ، ورَمْية بِسَهْم
قِيلَ أنّ المُشركين قَدْ مَثَّلُوا به وغَابَت مَلامِحْه ، فَلَمْ يَعْرفه أحد إلا أُخته "الرَّبيع بنت النّضر" لعلامةٍ في إصبعه
قِيلَ أن سَعْد قَد بَكى بشدّة وهُوَ يقولُ للرّسول: "فما استطعتُ يا رَسول الله ما صَنَع"
(5)
المُؤانَسَة بالمَحَبّة
أُحِبُّ الكِتَابة عَمَّن أُحِبَّهُم ، الأشْخَاص يَتَغَيَّرُون ، مِنْ الحِكْمة تَصْدِيق أنّ الدُّنيا (قد) لا تُبقِي الأشياء على حالها ، مَهْما بَدَت صَلْبَة ، لَسْتُ حَكِيمَاً ، ولَكِنّ الكِتَابة تَحْفَظُ المَشَاعِر .. ولو بالذّكرى .
وللمَحَبَّةِ أنواع ، أَعْظَمَها .. هِيَ تِلكَ غَيْر المُسَبَّبَة .. غَيْر المَشْرُوطَة ، أنا الّذِي أُحِبُّك .. فأنا المَدِينُ لَكَ بِكُلّ شيء ، وهَذَا يَكْفِي
***
تَعْتَبِرُ البنت السَّمْراء البَدِيعة ، "العقل اللي يوْزِن بَلَد ، والقَلب الكبير اللي قد الفيل" ، أن أكثر الأوقات القريبة بيننا هيَ تِلْكَ التي سِرْنَا فيها ضمن أكثر الأماكن قُرباً لها ، أو تِلْكَ التي شَعَرَت فيها بالحِمَاية والأمان فقط لأنّنِي هُنا ، رغم أن كُل شيء آخر كان يُفَضِي إلى غَيْرِ ذَلك .
وبالنّسبةِ لي ، لم تَكُن لَحْظة واحدة ، أو بِضع لَحَظات ، رغم كَثْرتها ، فقط أُفكّر دوماً أنني لم أَكُنْ لأصير هذا الذي أنا عليه في تِلَك اللَّحظة ، وهو أفضل كثيراً مِمّا كُنته قبل عدّة أشهر ، لو لَمْ تَكُن هِيَ هُنا .
والحِكَاية هُنا في التَّفاصيل ، حَيْثُ تَكْمُن رَوح الله ، الَّذِي آلَف القُلوب كَيْفَمَا شاء ، ليُؤانِس عِباده بالمَحَبّة .
(6)
المؤانسة بالكِتَابة
هذا البُوست كَافِيَاً لِذَلِك !