20 فبراير 2015

لأن انكسارات الروح الكبيرة من الظلم أن تحدث مرتين




يومها، كُنت في البيت، طَبخت ليَّ أنا وعُمر وعلي، خلصت أكل عَ الشوط التاني، كنا قاعدين بنشوفه وإحنا بناكل، أنا وعلي كنا بنهيَّص مع كل جون للمصري، ونرخّم على عُمر، ولما الماتش خلص 3-1 كنا مبسوطين، حتى هَجْمة الجماهير عَ الجماهير مكنتش مُخيفة بالنسبة لي، بتحصل في ماتشات الكورة المتوترة دايماً، الاشتباكات الحماسية بين المُشجعين جزء من ذكورية الكورة، زي الشتايم مثلاً

ماتش الزمالك والإسماعيلي ابتدى، الناس كانت بتتكلم عن ضحايا، وأنا مكنتش مصدَّق، بقول اللعيبة بتبالغ، مش طبيعي لأ، تلاقيها إغماءات مثلاً، لحد ما بدأ الكلام يتأكد بشكل رسمي، والقتلى أعدادهم تزيد كل لحظة ورا التانية

بدت الأرض ضيَّقة جداً، ومفيش مكان يتراح، قلت لهبة إني هنام، ولما معرفتش أنام نزلت رحت محطة مصر أستنى القطر اللي جاي من بورسعيد

كان زي العزا اللي مش مترتب، العيون زايغة جداً، الخضَّة واللهفة على كل الوشوش، أكتر شيء قاسي كان الأهالي اللي جايين ومش عارفين ولادهم عايشين ولا لأ، بيدوروا في الورق الداير بين الناس على أسامي بيتمنوا متكونش موجودة هنا

القطر بيدخل المحطة، والصمت بيبقى تقيل، الأنفاس والنهنهات بس هي اللي مَسموعة

.
.

كُنت مع فرح، في أسوان، قافل الموبايل، معرفتش حاجة غير فجر تاني يوم وإحنا مستنيين قطر الرجوع، أخدت بالي من رُبع ساعة بس إني برضه كُنت في محطَّة القطر

هي فتحت الموبايل، وأنا كنت قاعد جنبها، بقرا اللي الناس كتبوه، والأعداد بتروح وتيجي قدَّامي، عماله بتزيد وتقل عشان محدش متأكد، زي ما حصل من 3 سنين بالظبط، 2.. 6.. 15.. 22، ويمكن أكتر، الوصف كان قصير ودقيق وواضح.. "ضربوا عليهم غاز فالناس وقعت على بعض وماتت"

يمكن دي أكتر موتة طول وقت الثورة مكنتش عايز أموتها، فاكر أكتر وقت صعب أيام محمد محمود، اليوم التالت يمكن، لما اتزنقنا في شارع الفلكي واتعمل علينا كمَّاشة واتحدف غاز بكثافة، فاكر إني كُنت بجري بهيستريا، وبخبط في ناس، وناس تخبط فيَّ، "النجاة بالعُمر" حرفياً، وفاكر إني مكنتش بخاف من الخرطوش أو الاشتباك المُباشر أو حتى القبض عليَّ من بين الصفوف، قد ما كُنت بخاف من خنقة الغاز والحصار في مكان ضيق شعور الروح وهي بتتسحب ده يطول فيه

من وقت طويل، من بعد رابعة، ومذبحة أبو زعبل، ثم ذكرى الثورة في 2014، لما أدركت إنه "خلاص كده إلى حين"، بدأت أنفصل نفسياً عن المآسي، أو أتعوّد عليها، مبقيتاش بثقل على نفسي وأجتر مشاعر السوء زي ما كان بيحصل في أول سنتين وكل مأساة أشيلها لأخرها، فيومها.. حتى وأنا بقرا وبأدرك إن مرة تانية فيه ناس راحت ماتش كورة فاتقتلت.. كنت حاسس بتقل شديد بس مش عارف هو واصل لفين

القطر وصل المحطة الساعة 5:20، فرح اتحركت قدامي وأنا وراها شايل بقية الشنط بخطوتين، فجأة لقيت عيني كلها دموع، إيدي بترتعش، وقفت على جَنب أعيَّط بنهنهة، كنت متفاجئ، قبلها بيومين كنت بقول لفرح قد إيه دموعي بعيدة، إني معيطتش من 2012 وقبلها من 2008، في اللحظة دي كنت بعيَّط بحرقة مش فاكر إني بَكيت بيها في حياتي

من لحظتها، كل الحاجات تقيلة فعلاً، والأرض –مرة تانية- ضيّقة بشدة، مش عارف مفروض أروح
/نروح فين أو نعمل إيه، كل اللي أعرفه إن الأحمال دي كتيرة فعلاً، ومن الظُّلم التعرض للكابوس مرتين بنفس التفاصيل

أكتر صورة باقية في ذهني في اللحظة دي هي ظُلمة المحطة في المرتين، نور القطر الأصفر وهو جاي من بعيد، والصوت الرتيب المُتكرر في بطء، والشعور العميق ده بكسرة الروح

أتمنى كل ده يبقاله معنى، أتمنى حيواتنا متبدأش وتنتهي وحوادث زي دي تمرّ فيها بعادية زي أي حاجة تانية، ده شيء ضد الإيمان بكل معانيه

دايماً مثلاً كُنت بعتبر إن آية "حتى إذا استيأس الرُّسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصرنا" هي آية السَّنَد بالنسبة لي على قسوة ما جرى في الثورة، "حُكم الله ألا ييسر للمريدين شيئاً من الأحوال إلا بعد يأسهم منها والرضا بالإفلاسِ عنها"، زي ما الإمام القشيري بيقول، وأنا بعتقد دلوقتي -بتأدب وعشم في ربنا- إن دي لحظة استيآس الرُّسل.. شيء من الرحمة والعدل لازم يكون موجود عشان نقدر نَحتمل