27 يوليو 2012

أيام "شاهين" الستة


في البدءِ خلق الله السماوات والأرض، ستة أيام ثُم فَرغ، ورأى كُل ما عَمله حَسن جداً، وفي المُنتهى.. تَبقى روح المرءِ مُعلّقة، لأيام ستة أيضاً، تنظر إلى ما عَملت في سنينٍ عدّة، قبل أن تصعد إلى السماء.

وبالمِثلِ كانت روح «يوسف»، بدأت بغَيبوبةٍ كاملة لمدّة شهر ونصف بين مستشفيات القاهرة وباريس، مُعافرة ومُناطَحة من يأبى مُغادرة الحياة التي ملأها صَخباً لثمانين حولاً دون أن يَسأم، وفي النهاية أصبحت الرّوح مُعلّقة: بين هذا الجسد الغائب في فراشه ويترك فيه حَيزاً غائراً بطولِ ما بقى عليه، وبين كُل ما تركه قبل تِلك اللحظة التي جاءَ فيها هُنا، بنزيفٍ حاد في المُخ وقلب مُعتل من أثرِ السنين وعمليتي القلب المفتوح اللتين أجراهما.

شاهين لَم يَكن يَشعر بشيء وفي ذهنه لم يكن هناك إلا أحلام يرها لأفلامٍ لم يحققها، مُحبُّوه في المقابل تمنوا أن تستمر حياته أبداً، وأن يكون الأمر كوباء «الكوليرا» الذي تناوله في أحد أعظم أفلامه: يَصمد لستة أيام ضد المرض ثم يَعيش، أما الرَّوح ذاتها فكانت تتجوَّل بين إرث الأيام قبل أن يُقضى الأمر بالحياةِ أو الموت:



اليوم الأول: 14 نوفمبر 1948

الصَّقيع لم يَكن مُحتملاً في تلك الليلة الشتوية، ولكن دفء قَلب الفتى الصّغير والهَش للحظة التي انتظرها طوال عامين في بلادِ بعيدة لم يجعل جسده يشعر بشيء، فقط كان يرى الدخّان الأبيض الخارج من فمه، ويبتسم في سعادة وهو ينظر إلى البحرِ المُمتد ويفكر في أن ساعات قليلة تفصله عن شاطئ الإسكندرية من جديد.

كان «شاهين» يحمل على كتفه شنطة صغيرة بها ملابس قليلة، إلى جانب الكثير من الأحلام التي صارت قريبة من التحقق، تِلك التي احتمل لأجلها قَحط الثلاث سنوات الماضية منذ انتهى من الدراسة في «فيكتوريا كوليدج»، وصولاً للجري بأقصى ما يستطيع وراء السراب الممثل في السفر إلى أمريكا لدراسة السينما، ثم مُعجزة أنه استطاع اللحاق به، وسافر، وفي حين اعتقد أن الجزء الأصعب قد انتهى.. كان في الحقيقة قد بدأ لتوه، مواجهة حقيقة أنه صغير جداً بالنسبة للعالم من حوله، أنه فتى مصري صغير وفقير وغريب في بلادٍ غريبة، وأن هناك الآلاف مثله يحلمون بالسينما والأفلام والتعلم، ولكي يُصبح شيئاً فإنه بحاجة إلى الوصول لأبعد من السراب الذي لحقه قبل وقت قليل.

تِلك الأحلام فقط هي التي جعلته يحتمل، تِلك التي كان يعبئها بداخل حقيبته كل ليلة، حلماً وراء حلم، ويكبر الفتى بداخله بالتجربة ليعرف الكثير عن الحياة، أن يعرف الفارق الضخم بين ما يستطيع أن يفعله.. وما يريد أن يفعله، ويذهب كل مرة وراء الثانية، أن يزداد إيماناً بضرورة أن يكمل المَسير مهما كان الطريق أطول من اعتقاده أو احتماله أو مؤنه القليلة التي حملها، أن يفكر دائماً فيما سيحدث عندما يعود وفي الآمال التي تعلقها عليه العائلة، أن يجد في أمريكا إجابة السؤال الذي سمعه على لسان جدته وهو في الرابعة من عمره حين مات أخيه الأكبر: «مش كان الصغيَّر هو اللي مات؟»، والأهم: أن تكون الإجابة «لا».

لم يستطع من فرطِ الحماس أن ينام في تلك الليلة، وراح يتنقل على سطحِ السفينة بخفة ورقص، يجلس مع كل شخص وجده مستيقظاً ليحكي له عن الإسكندرية وعن رائحة البحر التي لا تشبه فيها أي مدينة أخرى، تبدو أسئلتهم في المقابل أكثر عقلانية مما يحتمل قلبه المنطلق «ماذا تعلمت هناك يا يوسف؟».. «ماذا تعلّمت هناك؟»  يرددها على مسامع نفسه، الكثير من التقنيات بالتأكيد، كيف يخلق الصورة وعن مفهوم الجمال فيها الذي سيختلف في كل مرة، «تعلمت أيضاً كيف أحكي الحكاية، كيف أروي الحدوتة بشكل جذاب»، ثم «ماذا تعلمت أيضاً يا يوسف؟».. ربما أهم شيء تعلمه هو «الإحساس»، وهو أهم ما جذبه للسينما من البداية، كيف تضع جزءً من روحك في كل فيلم تصنعه، كيف يبدو الأمر كأنك تنظر في المرآة، الذكريات الصغيرة والتفاصيل والأسماء، كيف تصبح الأفلام هي ذاكرة حياتك وحياتنا لشدّة التصاقك بها، «كان هذا أهم ما تعلمته» قالها يوسف للسيدة اليونانية العجوز التي كان يحدثها حين لاحظ أن الإسكندرية قد بدأت تظهر في الأفق.

صعد إلى أعلى نقطة يستطيعها في السفينة، وصرخ بأقصى ما يستطيع، وكأنه ينادي المدينة فعلاً كي تسمعه، المدينة كلها بتلك الشوارع والبيوت والدكاكين التي عاش بينها وفيها، وراجع للمرة الأخيرة كل ما يحمله.. هناك هاملت وشكسبير وجين كيلي وفريد إستير والموسيقى والرقص، هناك سينما، الكثير من السينما المُختلفة والتي يعرف جيداً أن أحداً لن يقدمها في بلاده غيره.

كان يوسف يشعر في تلك الليلة أنه أحضر العالم في قلبه من الجهة الأخرى كي يزرعه في شواطئ مدينته، ولن ينتظر طويلاً كي يرى الحصاد.





اليوم الثاني: 15 أغسطس 1961

كم هي المسافة بين الأحلام العظيمة التي تَصل حدود السماء والإحباطات التي تدفن كل شيء دون رحمة؟ ما هو الفارق بين الفتى الذي عاد يحمل العالم في قلبه ويريد أن يغير وطنه وبين الكهل الأربعييني الذي غيره هذا الوطن وأغرقه في الواقعِ المُر الذي لا يسمح لأي حلم أن يتنفس؟، كم عام مر لتدرك يا يوسف أنك مازلت صغيراً جداً أمام هذا العالم؟

تلك هي الأسئلة التي كانت تدور في رأسه بعد أن انتهى لتوه من مكالمة مع «سميرة أحمد»، بطلة ومنتجة فيلمه الأخير «رجل في حياتي»، تخبره بأن الفيلم لم يدر عليها أي دخل، أغلق الهاتف في هدوء وهو يشعر بنغزة معتادة في قلبه، حتى مع كل التنازلات التي قام بها.. فالحصاد كان فشلاً جديداً.

ومع كل فشل كان يتذكَّر ليلة «باب الحديد» التي لن ينساها، ثلاث سنوات مرت ومع ذلك كانت كل التفاصيل لازالت واضحة: الجمهور الذي كَسَّر قاعة العرض، الفيلم الذي رُفع بعد ثلاثة أيام من عرضه، منتجه الذي كاد أن يفلس وأخبره أنه لن يتعامل معه مرة أخرى، النجوم الذين أعرضوا عنه في حال ظل على هذا «التعقيد» الذي لن يفهمه المتفرجين، وكان الأهم: تلك «البصقة» الغاضبة من أحد المتفرجين والتي بدت كنهاية للعالم، عالمه على الأقل.

مَسح يوسف بيده على وجهه وكأنه يحمل عجز الدنيا
كله، طفل تائه لا يعرف أين يذهب أو ماذا يفعل، يتذكر كل مواجعه وآلامه وكأنها تتجسد من جديد وتخرج له لسانها، يتذكر سؤال جدته المُحَمَّل بالتمني «مش كان الصغير؟» ولا يجد الإجابة، ربما كان أفضل أن يموت.

لن يفهم أحد ماذا عنى «باب الحديد» له، كيف أحال بينه وبين «الموت» ولا شيء أقل من ذلك بعد أن فقد الحبيبة لشخصٍ فَتي، وكل ما كان يريده هو أن يتكلم، وحين لم يستمع أحد، بل ونهروه لمجرد التعبير عن آلامه، عاد الموت من جديد، إعياء كامل لأسابيعٍ طويلة، يمر فيها بكل ساعة وهو يفكر أنه لن يستطيع أن يكمل للساعة القادمة، وفي النهاية استسلم تماماً، سأصنع تلك القصص التي تريدونها، سأحكي الحواديت، من أحب ومن تزوج ومن شُلّت ومن أصبحت راقصة، لابد من نجوم كما يريدهم الجمهور.. لم لا؟ برلنتي عبدالحميد أو نادية لطفي أو شكري سرحان أو أحمد رمزي أو سميرة أحمد كعمياء في ميلودراما مفجعة، ألا تريدون الخيرِ خيراً مطلقاً والشر شراً مطلقاً؟ لما لا؟ طالما سيسعد الجميع

والحقيقة أن أحداً لم يسعد، وحمل هو كل الحزن وحده، فشل وراء الآخر، ثلاث سنوات هي الأسوأ، حتى مضاعفة عدد السجائر التي لم تعد تنطفئ ليس كافياً ليعبر عن احتراقِ روحه كل يوم.

حتى مشاهدته للقطات التصوير بين المعابد في «صراع في الوادي» لم يكن يؤانسه، حتى تذكره كيف سهر مع المصور «أحمد خورشيد» حتى الصباح لكي يضعوا عدة مرايات تعكس ضوء الشمس للتصوير بداخل مقبرة فرعونية، حتى عشقه لأداءه في باب الحديد أو لمشهد الطوفان في ابن النيل أو حب الجمهور لـ«جميلة بوحريد» التي اخترعها دون أن يرها أو يرى الجزائر، كل هذا لم يكن كافياً ليشعره أنه فقط مخرجاً جيداً، آلاف الكادرات تتزاحم كشريط المونتاج في رأسه والسؤال الأكبر الذي يراوده «هل لكل هذا قيمة؟».

كان يشعر لمرةٍ جديدة أن العالم سينتهي في تلك الليلة وما من صباحٍ، الهاتف يرن من جديد، ويكاد قلبه ينخلع، ولكن ما حدث بعد عدة دقائق أن الروحِ عادت إليه.

كانت مكالمة من «عز الدين ذو الفقار» يطلب رؤيته، والسبب: إخراج فيلم «صلاح الدين» الذي يحضره ذو الفقار منذ سنوات ويحول المرض بينه وبين إكماله ويريده هو تحديداً أن يخرجه، حاول شاهين الاعتذار لأنه ليس «فيلمه» و«لا يعرف شيئاً عنه» والأهم -الذي لم يقله- أنه لا يحتمل فشلاً جديداً سيقضي حتماً على حياته، رد ذو الفقار في هدوء أن «كل مخرجي مصر يسعون لهذا الفيلم ولكن أعتقد أنك الوحيد الذي يستطيع إخراجه بصورة جيدة»، ورغم أن شاهين لم يكن مقتنعاً بعد إلا أن الجملة التالية فقط كانت كافية لإقناعه، لأنها في الحقيقة ما كان بحاجة لسماعه في تلك اللحظة، حين أوضح ذو الفقار سبب تمسكه به: «لأنك أفضل مخرجي مصر».

أغلق شاهين الهاتف بموافقة مبدئية وموعد مع ذو الفقار والسيدة «آسيا» منتجة الفيلم، عادت كل الأحلام لتحتل الغرفة، أخذ يفكر في مشاهد بعينها سيخرجها، وأنه سيصنع فيلماً تاريخياً يضاهي أكبر أفلام هوليوود، في العائلة التي ستفخر به والمهرجانات التي ستكرمه وفي الناس الذين سيعاملونه لأول مرة كـ«مخرج كبير»، وأن تلك هي «الفرصة الأخيرة» كي يخرج من بئر الفشل والإحباط الذي سَقط فيه ويعود للعالم الذي مازال يحمله في قلبه، أشعل السيجارة الأخيرة في علبته وابتسم برضا لأول مرة منذ زمن وفكر في أن الحصاد تلك المرة سيكون مختلفاً.




 اليوم الثالث: 10 مايو 1970

كالعادة لا يستطيع البقاء في صالة على شاشتها أحد أفلامه، خصوصاً لو كان العرضِ الأول، يُشعل السيجارة الخامسة من العلبة التي اشتراها قبل دقائق من الدخول، ويتحرك جيئةً وذهاباً في الطُرقة الخارجية للقاعة التي تعرض الفيلم بمهرجان «كان»، يحاول أن يتلمَّس أي رد فعل من الجمهور على ما يشاهده، ولكن لا شيء، فقط صوت فيلمه وموسيقى علي إسماعيل.. الكورال وهو يغنّي «الأرض لو عَطشانة» والتترات وهي تنتهي لتوّها، ليبدأ الفيلم.

«الراجل أبو سويلم ده مش هيجيبها لبر أبداً، بيحفر قبره بإيده، أخرته وحشة»

أدرك شاهين أن الوقت المتبقي لكي يعرف رد فعل الناس مازال طويلاً وسيصبح جحيماً إذا ظل يسير في الطرقة بهذا الشكل كالمجنون، جَلس في مكانه وأسند ظهره إلى الحائط وحاول أن يهدأ: لقد انتهيت لتوّكَ يا يوسف من أعظم أفلامك، أنتَ تعرف ذلك وليرى العالم بعد ذلك ما يرى، فهم لا يعلمون ماذا عنى لك، لا يعرفون شيئاً عن قضاء الأيام وسط الفلاحين لكي تسرق تفصيلة من هنا وهناك، لا يعرفون شيئاً عن الجلوسِ في «الأرض» بالساعات وملامسة طينتها كي تصدق ما تتحدث عنه، لا يعرفون شيئاً عن إعادة تصوير كل لقطة عشرات المرات حتى تصل إلى ما تتخيَّله، وهم –حتماً- لا يعرفون شيئاً عن مشاعر الخزي والضعف والخيانة والخوف التي كانت تُحركك أثناء إخراجه، مشاعر النكسة.

«البقرة وقعت في الساقية.. الحقني يا عبدالهادي.. الحقوني»

الأمر يبدو واضحاً بالنسبةِ له، إذا كان «باب الحديد» قد صنع رداً على الموت، فإن «الأرض» قد صنع رداً على الهزيمة الأشبة بالموت، هزيمته الشخصية، لا تحتاج إلى أن تكون مسؤولاً في الدولة أو حتى جندي في أرضِ سيناء كي تشعر بأنّك أحد المتسبّبين فيها، يكفي فقط أن تكون في ذات الوقت بالجنوب تصنع فيلماً كـ«الناس والنيل» عن «مجد السد العالي» و«الشراكة المثمرة بين مصر والإتحاد السوفييتي» كي تشعر بأنك فعلت ما هو أسوأ: تزييف وجدان الناس وتصدير ما هو غير حقيقي، حتى لو كنت أنتَ نفسك مؤمناً به، «الناصر» صلاح الدين؟ «الناصر» كان منتصراً فأين نحن الآن من الانتصار؟ أين نحن الآن من «الثورة» التي بدأت –كبداية كل شيء- هادئة ورائعة؟

كل مرة سار فيها في الشارع ورأى رؤوس الناس المُنَكَّسَة، كل مرة لاحظ أنهم لا ينظرون مباشرةً في عيون بعضهم، كان يُدرك أن لديه شيئاً يريد أن يقوله، بدافع من الذنب نعم ولكن أيضاً بدافعِ من الإيمان، أن تلك ليست النهاية وأنَّكم -أنتم- الثورة والحياة كلها، لذلك يجب أن نتمسَّك بالأرض، ونؤمن أنها ستعود ولو بعد حين، أدمع للحظاتٍ وهو يستمع لصوتِ «أبو سويلم» من داخل القاعة:

«على أمل تيجي يا شيخ حسونة وتنفخ في صدورنا نصحى من جديد نصحى من جديد»

كان يريد أن يَنفخ الرَّوح، في نفسه قبل أن يكون في الآخرين، ويتذكَّر جيداً تصوير هذا المشهد تحديداً..  أراده بعثاً للحياة، ثلاثة دقائق وعشرون ثانية دون أن تتوقف الكاميرا لأنه لا يريد للمونتاج أن يقلل من حماسة وحميمية اللحظة، عشرون مرّة أعاد المشهد مع المليجي، في كل مرة كان الأستوديو يصفق ولكنه يريد أكثر، ينظر في عين ممثله وهو مدرك أنه سيفهمه، وفي النهاية.. حين وصل إلى اللقطة التي يريدها لم يصفق.. ذهب إلى المليجي وقبَّل يده وبَكى بشدّة، لأن الرّوح كانت قد عادت إليه مع نهاية المشهد وأدرك أن ذلك سيكون شعور كل من سيشاهده.

ورغم ذلك، رغم كل شيء، كان شعور الذنب مازال مسيطراً عليه، والغضب اتجاه نفسه واتجاه جيله كله، اتجاه «المثقفين» الذين كان يجب عليهم أن يكونوا في صف الشعب، وإذا بهم يندمجون تماماً مع رؤية وكاريزما السلطة، ويمارسون تناقضاً مُدهشاً بين ما ينادون به وبين ما يفعلونه، يذكرونه بالقصة التي حكاها له «نجيب محفوظ» قبل سفره إلى «كان» عن الشقيق الذي قتل شقيقه التوأم ليعيش حياتين، أحدهم وسط مجتمع السلطة والآخر وسط الناس، بوجهين، مثلهم كان ولا شيء يمكن أن يغفر له ذلك، حتى مشاهد الدماء التي تسيل على القطن الأبيض، حتى يد «أبو سويلم» المسحول التي تتمسَّك بالأرض، حتى شعور الرفض والحماسة و«الثورة» الذي يتركه الفيلم بداخل الجمهور الذي سَمعه هو الآن، في تلك اللحظة تحديداً، يُصفّق بعنف بعد نهاية «أفضل أفلام دورة المهرجان» حسبما قال له أحد النقاد الفرنسيين الذي خرج ليبحث عنه.

دخل القاعة بخطى خجلة، يستمع لتعليقات كلها إيجابية، صديقه «مارسيل مارتن» يخبره أن هذا الفيلم «فتحاً للسينما العربية»، «كلود ميشيل» كان يقارنه بفيلم «أندريه روبلوف» للروسي «أندريه تاركوفسكي» كملاحم عظيمة وصارمة، و«جيرارد كونستابل» قال له أنه «أعظم فيلم سينمائي شاهده في السنوات الخمس الأخيرة على الأقل»، والأهم من كل شيء كان التصفيق الذي لم يتوقف، من مشاهدين فضل أغلبهم أن يقف احتراماً لما انتهوا منه لتوهم.

خلال البقية الباقية من تلك الليلة ظل يوسف وحيداً في غرفته يزاوج بين مشاعر اليأس والأمل فيما هو قادم، بين الإيمان والكفر بما يمكن له سينمائي أن يفعله في وجدان جمهوره، يشعر بالرضا والفرحة وحلم ملامسة الجائزة الكبرى للمهرجان نعم.. ولكن في مقابلها كان يفكر أنه رد على الهزيمة في «الأرض» ويتبقى له الآن أن يفهم لماذا حدثت، والمؤكد أنه شعر بالثقة كي يقول ما يريد بالشكل الذي يريد لأول مرة منذ «باب الحديد»، سيتوقف عن سردِ الحواديت دون أن يخافَ الناس، لن يخاف بعد الآن سوى من نفسه التي سيقابلها في نهاية الرحلة، في نهاية الرحلة الطويلة.








اليوم الرابع: 27 يناير 1978

لم يكن مُضطراً -على غير عادته- أن يعيد كل مشهد عشرات المرات، خصوصاً في المشاهد التي جمعت هذا الفتى الصغير بالمليجي، كان الأخير قد أصبح ركناً دائماً في أفلامه، وصار مع طول العشرة الممتدة -لعشرين عام أو يزيد- يفهمه ويشعر بإحساسه منذ اللقطة الأولى، ولكن ماذا عن هذا الفتى الصغير، المُدهش، صورته الصغرى في المرآة، الحلم الأخير الذي تحقق فجعل لكل الأحلام الأخرى معنى.

كان في اليوم السادس من تصوير عمله الجديد الذي يتناول فيه سيرته الذاتية بشكلٍ مباشر بعد وقت طويل من وضع جزء منه في أعماله السابقة، حين قام بتصوير هذا المشهد، مشهد بسيط يجلس فيه «يحيى» مع والده «شكري مراد» على الشاطئ، الأخير يصطاد والأول يخبره أنه لا يريد دراسة الهندسة ويفكر في دراسة السينما، كان الأمر يمر عادياً حتى رأى هو تلك النظرة، شَعر برعشةٍ قوية بداخله، كأن الأيام قد عادت للوراء، نفس النّظرة ونفس الشعور ونفس طريقة النُّطق والتّهْتَهة، كان المليجي يبدو كوالده بالمللي، و«محسن» يتجسد تماماً بالشكل الذي كانه هو يوماً.

يفكر في تسمية الفيلم «إسكندرية ليه؟!»، و«ليه؟!» هذه هي الحكاية كلها، البحث والتفكير في زمنه وجيله والنقطة التي بدأ منها كل شيء، جيل الثورة والأحلام العظيمة، ثم الانكسارات والنكسات العظيمة أيضاً، يجب أن يفهم ثم يتصالح كي يكمل حياته بصورة أفضل، يجب أن يحدث الناس بصوتٍ عالي كي يفهموا معه، ليس نرجسية وليس لأن سيرته هي المهمة، ولكن المهم هي سيرة جيل كامل.

بدأ كل شيء بعدما انتهى من ثلاثيّة الهزيمة، بعد أن حاول يفهم وبصوتٍ عالٍ أيضاً كيف حدثت، كيف خان المثقف مجتمعه وصار صوتاً للسلطة في «الاختيار»، وكيف ازداد الفساد بداخل السلطة نفسها لدرجة غير مسبوقة أدت للهزيمة في «العصفور»، ومن نهاية الأخير التي كانت صرخة رفض جديدة –بعد نهاية الأرض- ترفض الخضوع والانكسار وتؤكد «هَنْحارب» بدأ عمله الأخير «عودة الابن الضال» لكي يجد إجابة سؤال «ماذا بعد؟» والتي كانت في جيلٍ جديد يتحرَّر من الماضي بكل ما فيه وبكل ما يحمله من أحلام وأشباح، ينظر إلى الأمام ويخلق مستقبله الذي يغيّر كل شيء.

وبعدما انتهى من كل هذا، من السؤال الذي حيَّره لمدة عشرة سنوات «لماذا انهزمنا وانهزم جيلنا كله؟» شعر بأنه فرغ، خواء كامل، وفكّر في الاعتزال لأنه صار في عامه الخمسين ولا يجد ما يقوله، قبل أن يخرج من داخله صوت عميق ويخبره بأن لديه الخمسين عاماً كاملة، حكايته وحكاية زمنه وحياته والبذر الذي أنبت كل ما عايشه لسنواتٍ طويلة، لذلك عاد وقرر أن يحكي ويقول، وما كان ينقصه وينتظره هو هذا الفتى ولا شيء آخر، وفي اليومِ السادس من التصوير أدرك قيمة ما امتلكه الآن.

عين «محسن» التي حملت نظرة يوسف في عمره جعلت كل الأحلام التي ظن أنها فاتت تعود من جديد، فرصة ثانية لكل شيء، صار هناك معنى لأن يحكي سيرته طالما هناك من يمثّله بذلك التطابق، يفكر في احتمالية أن يصنع فيلماً يهديه إلى «جين كيلي» ويملأه بالغناء والرقص، ويشعر للمرة الأولى أن «هاملت» الذي تمنى أن يجسده يوماً بات قريباً للغاية.

كان الأمر أشبة بأن تُبعث ذاتك التي كنتها في العشرين من عمرك أمامك من جديد، لتصحح بها كل الأخطاء التي ارتكبتها، وتحقق كل الأمنيات التي فاتتك مع مرور السنين، كان الأمر عودة بالزمن وتدفُّق للدماء إلى القلب ورجوع الأحلام كي ترقص في الغرفة من جديد، لفرطِ الحماس لكل شيء، ولكل الأفلام التي آن لها أن تُصَوَّر.

صرخ يوسف «قفشتها» لينهي هذا المشهد، كان ينظر إلى «مُحسن» وهو يتحرّك في الكواليس ويشعر بعظمة المعجزة التي تحدث له الآن، ويفكر بامتنانٍ أنَّك تستحق ذلك يا يوسف، لطولِ الصبر وكثرة الآلام والظلم والجروح التي لا تحتمل، يَطيب وجدانك للمرة الأولى منذ سنوات بعيدة وتجري وراء الأحلام في رأسك كي تحققها كلها، ينظر في الورقة في يده ويجد اسم «هاملت»، ربما يجب أن يكون ذلك هو الفيلم القادم.






اليوم الخامس: 18 مايو 1997

الثقل الذي يشعر به في أذنه ويزداد مع مرور السنين جعله لا يسمع «إيزابيل إدجاني» حين نطقت باسمه، لَكزة خفيفة من «جيل جاكوب» -رئيس مهرجان «كان» المنتظر- نبهته إلى اللحظة الأهم في حياته كلها.

ولكن لم يكن الثقل الأذني فقط، كان في الحقيقة كل تلك الأفكار والذكريات التي غرق فيها طوال الساعات الماضية، تلك التي عرف فيها أن المهرجان سيكرمه بجائزة الدورة رقم 50 عن أعماله، عن حياته كلها.

كان يجمع بداخل رأسه كل الأشخاص الذين رغب بتواجدهم في تلك اللحظة، يجمع كل الآلام واللحظات المُرَّة ويفرقها بين كراسي القاعة، يجمع المنتجين والممثلين والجمهور، يأتي بالرجل الذي بصق في وجهه ليلة افتتاح «باب الحديد»، والآخر الذي شتمه وقت عرض «الاختيار»، يجلب المدرس الذي ضربه بعنف حين كان طفلاً، ورئيسه في العمل الذي سخر منه حين أخبره برغبته الدراسة في أمريكا، أن يبعث بروح والده المتوفي ووالدته إلى الحياة من جديد، يجيء بحبيبته القديمة التي تزوّجت نجماً سينمائياً، وممثله الذي تركه وفرَّط في كل الأحلام، أن يحضر كل حياته بدقائقها وتفاصيلها وناسها هُنا في تلك القاعة الصغيرة، ويخبرهم أن يروا.. ها أنا قد أصبحت مرأى العالم بعد أن حملته في قلبي لسنينٍ عدّة.

فكَّر في أنه قد وصل إلى هُنا حين بدأ التصالح مع كل شيء، وأمضى الكثير من الوقت كي يحدث هذا، حتى الجرح الذي لم يندمل برحيلِ «محسن» عنه، أفرد له فيلماً كاملاً.. يقسو على ذاته، ويختبر أوهامه، ويحاول أن يفهم، أن يرى المستحيل في صور، أن يحقق كل شيء لمرةٍ أخيرة، أن يرقص ويغني ويعود للإسكندر وكليوباترا، أن يجمع الحياة كلها على شريط فيلمه، والنتيجة كانت مذهلة.. «إسكندرية كمان وكمان» صالحه على نفسه، ككهلٍ وعجوزٍ جاوز الستين يعلم أن النهاية ستحين في أي لحظة ويعلم أيضاً أنه سيكون راضياً.

لكزة «جاكوب» تلك، والتي رافقها سماعه لدويّ التصفيق في القاعة، أخرجته من أفكاره، تحرَّك في خطى بطيئة تليق بالعَجائز، صَعد إلى المسرح، ونظر إلى الجميع، صفوة سينمائيي العالم يقفون ليصفقوا للرجل الذي صاحب مصر من وراء الكاميرا لخمسة عقود، وللدَّهشة والخجل وضع يده على فمه بساعدٍ مُرتعش دلالة على أنه لا يجد الكلمات، وحين نطق لم يسعفه سوى وصف وحيد «أشعر بالفراشات وهي ترقص بداخل بطني».

في تلك الليلة وجد يوسف إجابة السؤال الذي أرقه لعقود طويلة، يكادَ يسمع صوت جدته وهي تقوله:«مش كان الصغير هو اللي مات؟»، وللمرة الأولى يستطيع أن يجيبها: «لا، لم يكن، كان يوسف يستحق الحياة».




اليوم السادس: 8 يوليو 2007

العَجز، إنه العجز ولا شيء سواه، أن تظل بجسدك هنا ولكن كَكَومة لَحم عَجوز، غير قادرة على تغيير شيء، تُراقب فقط من بعيد، تجلس على كرسي المخرج الذي يحمل اسمك دون أن يكون ما يحدث أمام الكاميرا هو حقاً فيلمك، ولكن –رغم كل شيء- هناك فقط هذا المشهد، هذا المشهد الأخير.

يوسف كان يعرف قَسمات وجه الموت، وقد رآه قريباً، وبدأت الحكاية حين أراد أن يكون فيلمه الذي يعلم بكونه الأخير يحمل اسم «نهاية النظام»، ويعبر من خلاله عن كل الحراك السياسي الذي جرى في مصر خلال السنوات الأخيرة وأمنيته
/نبوءته بـ«ثورة»، الفيلم صار يُسمى «هي فوضى»، ومع تغيير الاسم تغيّر كل شيء آخر وبصمة تلميذه الذي أبقاه بجانبه لسنوات قد مَحت بصمته هو نفسه، وما تبقى منه فقط هو تلك النبوءة الختامية: «نهاية النظام».

في هذا اليوم.. صور يوسف المشهد
الأخير له في حياته، النبوءة التي كان يراها في خياله رؤى العَين: شعب يتحرّك ويحاصر قسم الشرطة ثم يقتحمه، ويسقط عقوداً طويلة من الظلمِ والقهر، النبوءة التي كان يراها في خياله ثورية وتجعل لكل ما عاشه وقدمه وأخرجه في حياته معنى.

في اليومِ السادس، صَعدت الرَّوح إلى السماء بعد جولة في حياة كاملة.

ويوسف مات، وبقيت النبوءة.

هناك تعليق واحد:

محمد الصادق الحاج يقول...

حقاً إن الفردوس لمكتبة، ما دمت تقرأ فيها كتابةً على هذا القدر من الرشاقة واللطف والمحبة. شكراً.